ترجمة وتحرير نون بوست
في لفتة تعد الأولى والأهم من لفتات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد احتلال جزء كبير من الصحراء السورية والعراقية، صرّح التنظيم برغبته بهدم الجدار الرملي الذي يرسّم الحدود الرسمية ما بين البلدين؛ ففي أحد أول مقاطع الفيديو الدعائية التي ظهرت في صيف عام 2014 تحت عنوان “نهاية سايكس بيكو”، ظهر مقاتل ملتحٍ يمشي ضمن نقطة تفتيش مهجورة، “إن شاء الله لن تكون هذه الحدود الأولى التي سنحطمها”، قال الرجل المقاتل باللغة الإنجليزية.
عند هذه النقطة، عبّر العديد من الغربيين، الذين يتلاقون لأول مرة مع الأفكار السامة للفرع المنشق عن تنظيم القاعدة، عن دهشتهم قائلين: “انتظر! نهاية ماذا؟”
منذ توقيع سايكس بيكو، عانى الشرق الأوسط من تنافر معرفي عميق ما بين الدولة الرسمية والجغرافيا البشرية والقوى التي تمارس النفوذ ضمن أراضي المنطقة
في الواقع، هذه المرجعية التاريخية لم تكن غامضة في أي وقت من الأوقات ضمن منطقة الشرق الأوسط، والتي عانت منذ قرن كامل من عواقب ترسيم الحدود من قِبل دبلوماسيين يخضعان لأوامر رؤسائهما، بدون أن يمتلكا أي خبرة في مكنونات الشرق الأوسط أو اطلاع على الحكومات التي قاما بترسيم حدودها؛ إنهما السير الإنجليزي مارك سايكس، ونظيره الفرنسي فرانسوا جورج بيكو.
منذ ذلك الحين، عانى الشرق الأوسط من تنافر معرفي عميق ما بين الدولة الرسمية، التي غالبًا ما تم ترسيم حدودها بخطوط مستقيمة لا طبيعية، والجغرافيا البشرية التي تتضمن الأشخاص ضمن حدود هذه الدول، والقوى التي تمارس النفوذ ضمن الأراضي التي تمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج الفارسي.
يُلقى باللوم على اتفاقية سايكس بيكو لتوليدها الكثير من الكوارث المستمرة في منطقة الشرق الأوسط منذ فترة طويلة، ومنها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والتطلعات الوطنية المُحبَطة بعنف للعديد من السكان الأكراد والعرب، وغيرهم من الجماعات.
بغض النظر عن مشاعر الحقد والضغينة التي تستبطن ذلك، ولكن حدود سايكس بيكو باشرت بالانهيار مسبقًا؛ فالحدود الوطنية لمناطق الشرق الأوسط التي رسمها تحت ضغط الأوامر سايكس وبيكو، لا لإرضاء مصالح السكان الذين يعيشون على الأرض بل لإشباع الأطماع الاستعمارية لبريطانيا وفرنسا، تهدمت وتقوضت، ولكن ليس بالطريقة التي يودها النقاد المعادين لسياسات الإمبريالية والاستعمار.
شهد عصر كتابة اتفاقية سايكس بيكو حقبة الحرب العظمى (الحرب العالمية الأولى)، أكثر الصراعات دموية التي شهدها العالم المعروف حتى اليوم، كما تزامنت مع إعلان المبادئ المثالية الـ14 التي حددها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون ومن ضمنها حق تقرير المصير، حيث كان من المفترض أن يكون السكان في جميع أنحاء العالم أحرارًا في اختيار حدود وشكل وتشكيل دولتهم الخاصة.
يمكن القول بأن حق تقرير المصير مُنح حينها لأجزاء من أوروبا، ولكن مناطق الشرق الأوسط حُرمت هذا الحق؛ فبريطانيا وفرنسا، اللتان كانتا أكثر اهتمامًا بتدمير ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية وإحباط الأهداف الإمبريالية لبعضهما البعض، توافقتا سرًا في 17 مايو 1916 على تقسيم المنطقة، متغافلين عن الحقائق الإنسانية والسياسية التي تفرض نفسها على أرض الواقع.
لقد حان الوقت للوقوف ضد واقع الدول الجديدة المنسوجة ضمن منطقة الشرق الأوسط، والتوقف عن التظاهر بأن حدود سايكس بيكو ما زالت فاعلة ومستمرة
سُرّبت مضامين اتفاق سايكس بيكو بعد سنوات قليلة من التوصل إليه، وحينها لم يستثر الاتفاق غضب الشعب في الشرق الأوسط الذي كان قد وُعد بحق تقرير المصير فحسب، وإنما استشاط الخبراء في وزارة الخارجية البريطانية غضبًا منه، خاصة بعد التحذيرات التي أطلقوها حول عدم ملائمة هذا النوع من التقسيم الإمبريالي للحدود الذي سيزعزع المنطقة ويهدد كيانها.
“جميع الحدود في العالم هي، بطريقة أو بأخرى، اصطناعية” يقول جوست هلترمان، الذي يدير برنامج الشرق الأوسط لمجموعة الأزمات الدولية، حيث يعتقد بأن عدم الاستقرار في الشرق الأوسط اليوم يعكس ضغوطًا من جماعات مثل الأكراد وتنظيم الدولة الإسلامية الذين يشعرون بأن نظام الدولة الحالي غير قادر على استيعابهم، “مع مرور الوقت، وأحيانًا لفترة طويلة، ستعمل التناقضات الداخلية على تفجير النظام السائد” قال هلترمان، وتابع: “يصعب على أي شخص تخمين النظام الجديد، أو سلسلة الأنظمة، التي ستنجم عن ذلك”.
تركت اتفاقية سايكس بيكو تركة سامة على نحو مزدوج؛ فمن جهة أولى استمر التنازع على الحدود المرسومة من قِبل جماعات مقتنعة بأنها لم تحصل على حصتها العادلة، كالأكراد، الفلسطينيين، الشيعة، والقبائل الصحراوية السنية، ومن جهة ثانية، تم إملاء هذه الحدود سرًا من قِبل الأجانب، مما كرّس شكًا أبديًا في أن المخططين في العواصم الغربية تلاعبوا بخرائط وحقائق المنطقة، وهو الأمر الذي حصل حقيقة على أرض الواقع.
الأكراد، الذين يطلقون على أنفسهم لقب أكبر قومية في العالم بدون دولة، يخططون لإجراء استفتاء على الاستقلال هذا العام، والبعض يأمل إجراء التصويت بتاريخ 17 مايو، وهي الذكرى المئوية لسايكس بيكو، بغية الدلالة على أن النظام الاستعماري القديم قد مات واندثر.
لقد حان الوقت للوقوف ضد واقع الدول الجديدة المنسوجة ضمن منطقة الشرق الأوسط، والتوقف عن التظاهر بأن حدود سايكس بيكو ما زالت فاعلة ومستمرة؛ فهناك عدد كبير من الحدود ضمن الشرق الأوسط لا تظهر ضمن الخرائط الرسمية.
حين قام سايكس وبيكو بوضع خريطة الشرق الأوسط، قاما، خلافًا لنصيحة الكثير من املائهم الأكثر اطلاعًا، برسم دول جديدة من قطعة قماش كبيرة، وقتلا التطلعات الألفية للأمة بشخطة قلم خرقاء على الخريطة، حيث خلقت تلك الخريطة مملكة الأردن الجديدة، والتي انتهى ضمنها مطاف الملك النازح لمرتين، شريف مكة، الذي أيّد بريطانيا خلال الحرب العظمى وكان في الأصل قد وُعد بعرش سوريا.
كما تم نحت لبنان من خاصرة سوريا، إلصاق الموصل وبغداد بالعراق، ومنح فلسطين للبريطانيين، الذين كان قد سبق لهم وأن وعدوا الصهاينة بها، وهنا كان أكبر الخاسرين الأكراد، المجموعة العرقية واللغوية المتميزة التي لم تحصل على دولة على الإطلاق، واليوم يمتد الوجود الكردي في قلب مناطق العراق وسوريا وتركيا وإيران.
في هذا المطاف، يستحضرنا ما كتبه المؤرخ البريطاني جيمس بار حول الوقائع الحية المقتبسة من المشاورات الدبلوماسية في عهد سايكس بيكو والتي دونها ضمن كتابه الذي أسماه “خط في الرمال”، وهو كتاب لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة في مكتبات بيروت إثر خمس سنوات من نشره، حيث كشف بار ضمن كتابه مذكرات وزارة الخارجية البريطانية السرية التي توقعت بحق إرهاصات رهيبة ستتمخض عن اتفاقية سايكس بيكو، بما في ذلك التنبؤات الغيبية حول انتشار العنف وعدم الاستقرار التي ستتبع تأسيس دولة يهودية في فلسطين.
رسم سايكس وبيكو دولًا جديدة من قطعة قماش كبيرة، وقتلا التطلعات الألفية للأمة بشخطة قلم خرقاء على الخريطة، حيث خلقت تلك الخريطة مملكة الأردن الجديدة، نحتت لبنان من خاصرة سوريا، ألصقت الموصل وبغداد بالعراق، ومنحت فلسطين للبريطانيين
بسبب هذا التاريخ، حتى الخرائط التي يتم رسمها اليوم بشكل عشوائي على المناديل أو نشرها في أحد المدونات تثير المقتنعين بنظريات المؤامرة في الشرق الأوسط وتسفر عن انفعالهم؛ فبعد احتلال الولايات المتحدة للعراق، كان العديد من الخبراء في المنطقة مقتنعين بأن هناك خطة رسمية لتقسيم العراق إلى منطقة شيعة منفصلة، وأخرى سنية، ودولة كردية، حيث تم اقتباس التعليقات التي أطلقها الدبلوماسي الأمريكي المتقاعد منذ فترة طويلة، بيتر غالبريث، كدليل على أن المؤامرة كانت سارية على قدم وساق، وبالمثل، وبعد الانتفاضة الشعبية المصرية في عام 2011، اعتقد أنصار الديكتاتور المخلوع بأنهم كانوا فعلًا ضحية لمؤامرة أمريكية إسرائيلية لقص الأراضي المصرية وتحويلها لدويلات صغيرة تسهل السيطرة عليها.
من الشائع أن نسمع المحللين العالميين في الشرق الأوسط يتحدثون عن المجهول وكأنه أمر واقع، ولكن ضمن وجهة النظر الشائعة، يبدو من المقبول تمامًا الإشارة إلى مؤامرات سرية لتقسيم المنطقة لخدمة أجندة شخص ما، كإيران والولايات المتحدة والصهاينة، أو بعض اللاعبين الآخرين.
“تم كشف اتفاقية سايكس بيكو في عام 1917 بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة في روسيا” كتب جمال سند السويدي، مدير مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، وتابع: “لذا فإن حقيقة عدم وجود خطط حالية تم الإعلان عنها علنًا من قِبل بعض القوى لتقسيم المنطقة، لا يعني بأن هذه الخطط لا وجود لها، بل ربما ستصبح تفاصيلها واضحة في وقت لاحق”.
يذكرنا هذا الرأي بالقول القديم المشهود: “كوني أعاني من الرهاب والتشكك لا يعني بأن أحدًا ما لا يلاحقني ليقبض عليّ”؛ فعلى مدار قرن كامل من الزمان ما زال الجدال مستمرًا حول الحقائق القذرة لرسم الخرائط السرية، وما زاد الطين بلة هو عدم توقف القوى الغربية عن التدخل في المنطقة حتى بعد الحقبة الاستعمارية، كما أن الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق مازال حاضرًا في أذهان أبناء المنطقة، وكذلك الحرب الجارية في سوريا والتي استقطبت جميع الرعاة والمستشارين العسكريين الخارجيين.
الشرق الأوسط الجديد يعاد تشكيله وصياغته حقًا على أرض الواقع، ولكن هذا الصياغة ليست نتاج خريطة خربشها على منديل أحد الوكلاء الغربيين الفكاهيين
نتيجة لذلك، يمكن لأي لغو حول رسم حدود جديدة أن يستثير على الفور ضجة كبيرة؛ فالخريطة التي نشرتها مجلة القوات المسلحة في الولايات المتحدة، والتي تتصور ضمنها شكل الحدود الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط لو تم إعادة رسمها بناء على التوزع العرقي والطائفي، لا تزال إحدى أكثر المواد مشاهدة حتى بعد مرور عقد كامل على نشرها.
ولكن على الرغم مما تقدم، ولفرحة جميع الأشخاص الذين يروّجون بشكل غير مبرر لنظريات المؤامرة، فإن الشرق الأوسط الجديد يعاد تشكيله وصياغته حقًا على أرض الواقع، ولكن هذا الصياغة ليست نتاج خريطة خربشها على منديل أحد الوكلاء الغربيين الفكاهيين، أو على الأقل، ليست كذلك وفق حدود علمنا!
“تم تقسيم هذه المنطقة، وكردستان على وجه الخصوص، دون وضع أي اعتبار لإرادة شعبها الأصليين، الأمر الذي أدى بدوره إلى مائة عام من الاضطرابات، الحروب، الحرمان، وعدم الاستقرار”، قال رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، مسعود بارزاني، في وقت سابق من هذا الربيع.
وعد بارزاني شعبه بإجراء استفتاء على استقلال الإقليم عن العراق هذا العام في يوم الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس بيكو، حيث يرأس البارزاني منطقة الحكم الذاتي في كردستان العراق، المنطقة التي تمارس نشاطها، بطريقة أو بأخرى، كدولة مستقلة منذ تأسيس الولايات المتحدة لمحمية هناك في عام 1991 لحماية الأكراد من انتقام صدام حسين؛ فكردستان العراق تتمتع بجيشها الخاص، وحقول نفطها وغازها المستقلة، ولكنها لا تزال تعتمد على الحكومة المركزية في بغداد للحصول على العائدات وممارسة التجارة.
المسافرون الذين يحطون رحالهم في أربيل، في كردستان العراق، لا يحتاجون إلى تأشيرات من الحكومة المركزية في بغداد، كما يشبّ الأطفال هناك في كثير من الأحيان وهم يتعلمون اللغة الكردية، أو ربما اللغة الإنجليزية كلغة ثانية، قبل أن يدرسوا العربية، وفي الوقت الذي لا زال فيه المسؤولون الأكراد يجهّزون لتنظيم الاستفتاء، وقبل أسابيع قليلة من ذكرى سايكس بيكو، تم الإعلان عن علامة أخرى من علامات السيادة الكردية في العصر الرقمي، المتمثلة باستخدام مجال الإنترنت”.krd“، والذي دخل على الشبكة في الأسبوع الأول من أبريل المنصرم.
“بذات الطريقة التي تمتلك فيها إسكتلندا، كاتالونيا، وكيبيك، وغيرها من الأماكن الحق في التعبير عن آرائهم حول مصيرهم، فكردستان أيضًا تمتلك هذا الحق، والأمر غير قابل للتفاوض”، قال بارزاني.
دويلة كردستان العراق هي إحدى الدول الفعلية في الشرق الأوسط التي يمكن أن تجدها على أرض الواقع، ولكن ليس على الخريطة الرسمية أو ضمن قائمة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة؛ فمثلًا، تم منح فلسطين صفة “دولة مراقبة غير عضو” في الأمم المتحدة في عام 2012، وعلمها يرفرف الآن على مقر الأمم المتحدة في نيويورك، بينما على الأرض، تبدو الجغرافيا أكثر تعقيدًا؛ فأجزاء الضفة الغربية من المفترض أن تكون تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، ولكن مع ذلك يتم التحكم في جميع المعابر البرية منها وإليها من قِبل إسرائيل، وبالمقابل، تبدو غزة كدولة فاعلة ومستقلة منذ عام 2005، وهو التاريخ الذي سحبت فيه إسرائيل مستوطناتها من هناك، ولكن الوصول إلى القطاع محكوم بالكامل من قبل أيادٍ خارجية، إسرائيل في الشمال ومصر في الجنوب، وفي الداخل، تمتلك حماس كامل التأثير على واقع الدولة/ المدينة.
بالمثل، إقليم روجافا، أو كردستان السورية، هو دويلة يسيطر عليها الأكراد في شمال سوريا، أعلن الأكراد إقامتهم للحكم الذاتي ضمنه في الشهر الماضي، ولكن بسبب موقعه غير المستقر على شريط الحدود مع تركيا، التي تعارض بحزم وجوده، قد يبدو بأن إقليم روجافا لن يستمر، ومع ذلك، نجح الحزب الكردي الذي يسيطر على الإقليم في استقطاب الدعم من الولايات المتحدة وروسيا، لأسباب معقدة لها علاقة بالحرب في سوريا.
مثال آخر هو شبه جزيرة سيناء، المنطقة المعروفة بحماماتها الشمسية وسياحة الغطس، والتي كانت محتلة لفترة وجيزة من قِبل إسرائيل بعد حرب عام 1967 مع مصر، وعادت إلى السيادة المصرية في عام 1982، ولكن يمكن القول بأنها لم تعد مطلقًا لسيطرة مصر الكاملة؛ فسيناء اليوم تعد مكانًا جامحًا ومنعدم القانون، يحكمه زعماء القبائل القوية وفروع تنظيم القاعدة وداعش.
بشكل مماثل، يعد حزب الله أقوى حركة في لبنان، فهو يتمتع بجيشه المستقل، تمثيل بمجلس الوزراء، وأعضاء في البرلمان، فضلًا عن مساحات واسعة من الأراضي يعترف الجميع في لبنان وقوعها تحت سيطرته، يسيطر حزب الله على مناطق حساسة، مثل الحدود ومناطق التدريب العسكرية، ويعمل أحيانًا جنبًا إلى جنب مع السلطات الوطنية، وأحيانًا بشكل منفرد، ومن هذا المنطلق لا يرى الحزب أي داعٍ أو مصلحة تدعوه لجعل الأمور أكثر رسمية؛ فقوته على الأرض تخدمه على نحو أفضل من أي صفة رسمية قد يتمتع بها.
أحد أكثر التطورات إثارة للاهتمام بعد مضي مائة عام على سايكس بيكو، هو أن العديد من الجماعات المستقلة الأكثر ديناميكية في الشرق الأوسط تستطيع استيعاب تعطشها للحكم الذاتي دون محاولة تنفيذ أي إعادة ترسيم للحدود الرسمية
الطريق المختصر لمعرفة الحدود الحقيقية هي سؤالك عن الجماعة التي تستطيع أن تحميك بشكل فعال خلال سفرك ضمن منطقة معينة؛ فإذا كان الجواب “لا أحد”، فهنا يمكنك أن تتأكد بأن تلك المنطقة هي إحدى مناطق الإدارة الفاشلة كسيناء، أو منطقة حدودية متنازع عليها، كخطوط الجبهة الأمامية بين داعش، الجيش السوري الحر، وقوات الحكومة السورية، أما إذا كان الجواب كيانًا آخر مختلف عن الحكومة الرسمية، فأنت تقبع ربما ضمن إحدى مناطق ما بعد الحداثة، ما بعد سايكس بيكو، التي ظهرت بغفلة عن صنع حكم الخرائط والبيروقراطيين الدوليين، تمامًا كمناطق سيطرة حزب الله، داعش، أو حماس في غزة.
في الواقع، يمكن القول بأن أحد أكثر التطورات إثارة للاهتمام بعد مضي مائة عام على سايكس بيكو، هو أن العديد من الجماعات المستقلة الأكثر ديناميكية في الشرق الأوسط تستطيع استيعاب تعطشها للحكم الذاتي دون محاولة تنفيذ أي إعادة ترسيم للحدود الرسمية؛ فالأكراد في روجافا مثلًا كانوا حذرين للغاية من خلال وصفهم لحكومة إقليمهم باعتبارها جزءًا من الفيدرالية السورية، كما أن البارزاني، والذي تعالى صخبه في كردستان العراق، أوضح بأنه حتى بعد الاستفتاء لن يعلن رسميًا عن استقلال دولته إلا إذا دعمت الدول المجاورة ذاك التحرك، وهو أمر من غير المرجح أن يحدث.
يحذر هلترمان، الذي يتتبع التحولات والانعطافات الدقيقة في منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من ثلاثة عقود، من مغبة إطلاق التنبؤات غير المدعومة، حيث يقول: “جميع ما نعرفه هو أن الوضع الراهن الذي تعودنا عليه لن يعود بالضبط بالشكل الذي كان عليه، بل قد يتبدى بطريقة مختلفة جذريًا، كعالم جديد وشجاع”.
بالمحصلة، تشير مناورات الجماعات التي لا تتواءم وتنخرط تمامًا مع واقع الدول القومية الحالية إلى أن إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط قد تمت على أرض الواقع مسبقًا، وبأن الطريقة الجديدة التي تتغير بها السيادة اليوم، هي من خلال الجغرافيا البشرية أو الجرافات، والتي لا تغيّر الخرائط، بل الحقائق على الأرض.
المصدر: بوسطن غلوب