هناك سبب لتسمية الحرب العالمية الأولى بالحرب العظمى، وذلك وببساطة لأنها كانت الحدث الذي هز أسس الحضارة الأوروبية حتى وصل إلى قلبها، كانت الحرب العظمى مرحلة انتهى فيها الزمن الماضي ليبدأ زمن جديد تمامًا، إلا أن الحرب نفسها كانت نقطة التقاء العصرين، حارب الفرسان على ظهور الخيول جنبًا إلى جنب مع الدبابات والمدرعات، تخندق الجنود في خنادق يعود اختراعها إلى العصر الروماني بينما شقت الطائرات المقاتلة ومناطيد زبلين السماء.
في هذه الفترة تحديدًا وقفت الإمبراطورية العثمانية ومن تحتها العرب الذين تحكمهم لا يعلمون إلى أي زمن ينتمون، مع بداية الحرب عام 1914 كان قد مر على انقلاب جمعية تركيا الفتاة على السلطان عبدالحميد الثاني قرابة ثمانية أعوام، أعلن جنرالات الجيش التركي أن انقلابهم كان دفاعًا عن التقدمية والتحديث والديموقراطية، يستطيع الآمر أن يزعم أن ثمانية أعوام كانت فترة كافية لتحقيق كمية ضخمة من الإنجازات في كل هذه الملفات المذكورة؛ إلا أن الواقع كان على العكس تمامًا من ذلك، فبالرغم من العلاقات الممتازة مع العملاق الاقتصادي الألماني الصاعد، أثبت كل من الاقتصاد والجيش العثمانيين أنهما غير قابلين لأي نوع حقيقي من التحديث والتطوير، أصبح من الواجب عن أسطورة أو دمية جديدة تبقي على الدولة العثمانية باقية تحت وطأة الفشل الوظيفي، وجد الاتحاديون (أعضاء تركيا الفتاة) ضالتهم في القومية التركية، حديث لا ينتهي عن التفوق القومي التركي انتهى بقمع لا مثيل له لنزعات مماثلة لاقت استحسان مثقفي العرب في الشام.
يستطيع المرء أن يدرك بسهولة عند قراءة الأدب العربي من فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى أن أهل الشام كانوا يفضلون أي شيء على حكم بني عثمان، لا يظهر ذلك من الألقاب التي أطلقوها على الحكام الأتراك كجمال باشا “السفاح” أو أحمد باشا “الجزار”، لا بد هنا من لفت النظر إلى ظاهرتين شديدتي الأهمية في تشكيل الواقع الثقافي للمنطقة، والذي تشكل عليه الواقع السياسي لاحقًا.
الأولى هي دور البعثات التبشيرية الأوروبية والأمريكية على طول بلاد العرب العثمانية، كانت الامتيازات الأجنبية هي الصفة الأوضح في الواقع العثماني بعد فشل حصار فيينا الثاني عام 1683، مثّل هذا الفشل نهاية التوسع العسكري العثماني وبداية سلسلة طويلة من الهزائم التي انتهت بسقوط الإمبراطورية، على طول هذه السلسلة كانت سلسلة من الاستدانة المالية من البلدان الغربية فرضت على الحكومة العثمانية أن تضمن عددًا من الامتيازات الأجنبية، هذه الامتيازات التي بدأت بتخفيض الجمارك على بعض البضائع انتهت بضمان الحرية الكاملة للبعثات التبشيرية للعمل في البلاد العثمانية، قامت هذه البعثات بتعليم المئات من أبناء الشام وتثقيفهم على المعارف الأوروبية بدون أن تعمل على تنصيرهم بالضرورة، نموذج مازال منتشرًا حتى اليوم في كثير من البلدان العربي.
الثانية كانت الانفتاح العثماني المفاجئ على أوروبا الذي تبع زيارة السلطان عبد العزيز لأوروبا عام 1867، المرة الأولى التي يضع أي سلطان عثماني أقدامه على الثرى الأوروبي غير غازٍ ولا محارب، وصلت الامتيازات الأجنبية في تلك الفترة إلى ذروتها؛ أصبح للقناصل الأوروبيين كامل الحرية في التنقل وفعل كل ما يريدون على طول الأراضي العثمانية، ولا غرابة أن هذه اللحظة التاريخية التي بدأت فيها مبادئ كالقومية والديموقراطية والليبرالية في التشكل في مختلف الأراضي العثمانية؛ سواء التركية أم العربية أم غيرها، أصبحت النخب الاقتصادية في البلاد العثمانية في احتكاك مباشر مع الأوروبيين بصفاتهم المختلفة وأفكارهم.
أدى خليط من سوء الإدارة العثمانية على الأصعدة الاقتصادية والأمنية مع الانفتاح الثقافي للنخب على أوروبا إلى خلق بيئة مناسبة تمامًا لنمو الأفكار القومية والانفصالية على طول الإمبراطورية، فبعد أن انفصلت مصر عن الإمبراطورية بشكل عملي بعد الحملة الفرنسية، أصبح الدور على المنطقة العربية، المنطقة التي لم يستطع أهلها سوى اللجوء إلى فكرة القومية العربية كحل لسنوات طويلة من سوء الإدارة والعنف العثماني والسياسات الضريبية غير المنطقية.
كيف رأى مثقفو العرب أنفسهم وقوميتهم كعرب يبقى إلى الآن لغز كبير، أستطيع بعد قراءة عدد كبير من كتاباتهم في فترة بداية القرن العشرين أن أزعم أنهم أنفسهم كانوا لا يعلمون، تحدثوا كثيرًا عن العرب وعن الدولة العربية، لكن ما يظهر من حديثهم هو أنهم لم يعلموا تحديدًا من هم العرب وما هي تلك الدولة العربية التي يتحدثون عنها، ولا يظهر هذا بوضوح أكبر مما يظهر عليه في مراسلات الشريف حسين مع هنري مكماهون عام 1915.
على طول تلك الفترة بين بداية تكون الفكرة القومية العربية مع نهاية القرن التاسع عشر، وبين أول حديث حقيقي عن دولة عربية بين الشريف حسين حاكم مكة والبريطانيين عام 1915، كانت أقدام المستكشفين والمبشرين البريطانيين تقطع الطرق الصحراوية للبلاد العربية بلا كلل، آلاف المراسلات تحتويها الأراشيف البريطانية المختلفة تحتوي على دراسات بشرية ولغوية وجغرافية مفصلة، عشرات البريطانيين كانوا يعملون في المواقع الأثرية تحت حماية الامتيازات ويتعلمون اللغة العربية بلهجاتها المختلفة.
في ذات الوقت الذي تحدث فيه مثقفو العرب عن دولتهم وقومهم بثقة تمتزج بجهل مبين، كان المئات من الضباط والدبلوماسيين والعلماء البريطانيين يراكمون مجلدات من الدراسات المفصلة عن المنطقة وأهلها، هؤلاء الخبراء وهذا المجتمع العلمي تحديدًا كانوا السلاح الأهم لبريطانيا في كسب الحرب العظمى في جبهتها الشرقية.
أكره الحديث عن اتفاقية سايكس بيكو كمؤامرة، أرى أن التفكير بهذه الطريقة يتناقض تمامًا مع السياق الذي تم فيه الاتفاق، كما أنه يسقطنا في انهزامية المؤامرة العالمية، حقيقة الأمر أن كل من ينظر في الأرشيفات البريطانية لتلك الفترة سيستطيع بسهولة أن يتخيل كيف كان الاتفاق سيكون شديد الاختلاف في حالة لعب القوى العربية لدور مبني على معرفة وتنسيق أفضل.
كتبت الاتفاقية في قلب الحرب، كتبت أثناء تفاوض الشريف حسين مع مكماهون، وحقيقة الأمر أن الأطراف البريطانية المسؤولة عن التفاوض متمثلة في المكتب العربي لمخابرات جلالة الملك في القاهرة والمندوبية السامية وحتى الحكومة البريطانية كانت على استعداد لتقديم كل ما سيطلبه الشريف طالما استطاع تلبية ما أرادوه، لكن الحقيقة أن الشريف كان أضعف وأكثر غباءً من هذا بكثير، لم يستطع المتحدثون عن الدولة العربية والوحدة العربية أن يجلسوا مع أولاد سعود وأولاد رشيد لتسوية خلافات قبلية منذ العصور الوسطى، لم يستطع البريطانيون أن يروا في الشريف وأولاده شركاءً يعتمد عليهم.
استمر الفرنسيون في الضغط على بريطانيا لتوزيع غنائم حرب لم تنته أصلًا، وكان مع بريطانيا ورقة كاسبة لم يعلم عنها الفرنسيون شيئًا، كانت بريطانيا بحلول عام 1916 تعرف كل ما يمكن معرفته عن المنطقة العربية بأناسها وثرواتها المعدنية وخرائطها وغيرها، وبينما كان اقتتال الشريف مع آل سعود يستمر في بث الشك في قلب بريطانيا عن جدوى دولة يرأسها مثل هؤلاء الأشخاص.
استطاع مارك سايكس بعد استشارات طويلة مع الدكتور ديفيد جورج جريفث أهم رجال المكتب العربي والدارس الأكبر للمنطقة العربية أن يصك اتفاقًا مناسبًا مع فرنسا، اتفاق ينتهي الأمر فيه بفرنسا مسيطرة على منطقة تقطع أحشاءها خلافات عرقية ودينية لا نهاية لها وهي الشام، بينما تسيطر بريطانيا على مساحة شاسعة من الصحراء الغنية بالنفط والمعادن والتي لن تعاني في الوصول إلى اتفاقات مع كبار قبائلها.
تصميمات مقترحة من مارك سايكس للسردار وينجيت عن علم الدولة العربية (الأرشيف البريطاني)
عند الاطلاع على مراسلات عملاء المكتب العربي والذي يمكن الزعم أنه المهندس الرئيسي خلف الشرق الأوسط الحالي، تستطيع أن ترى بوضوح أن أعضاءه قد آمنوا بجدوى دولة عربية كبرى يكون ولاؤها لبريطانيا، حتى إنك تستطيع أن ترى أن مارك سايكس قد كلف نفسه تصميم مجموعة من المقترحات لعلم هذه الدولة في مراسلاته مع السير فرانسيس وينجيت سردار السودان (تبنى أغلب أعلام الدول العربية هذا المقترح حتى يومنا هذا بالمناسبة)، إلا أن واقع الأمر أن الشريف وأولاده وبني سعود هم من خذلوا البريطانيين واضطروهم لوضع سايكس بيكو بالشكل الذي كان.
لا أحاول أن أقول إنني كنت أتمنى دولة عربية ولاءها الأول والأخير لبريطانيا، إلا أنني لا أستطيع أن أغض نظري عن السخرية الكامنة في حقيقة أن أشخاص كالشريف حسين وأولاده قد فشلوا حتى في هذا الفشل، فإن كانت السياسة هي الوصول إلى أفضل الاختيارات الصعبة أو حتى السيئة، فالوضع هنا ينقلب لكيف تنجح القيادات العربية منذ مولدها أن تختار الاختيار الأسوأ على الإطلاق من بين كافة الخيارات المطروحة في فشل لا مثيل له.