يدخل إلى أرض الملعب مرتديًا بذته الإيطالية الأنيقة ونظارته التي تحاول إصلاح ما تبقى من ناظريه وفي قدميه حذاءٌ بنيٌّ لامعٌ، بداخله شعور غير مألوف إطلاقًا، حيث إنها المرة الأولى التي يمر بها بمثل هذه التجربة.
ما هي إلّا لحظات حتى يقف الملعب الممتلئ باثنين وثلاثين ألفًا ومئتين واثنين وستين مشجعًا مصفقًا له في لحظة خارج سياق الزمان والمكان، لحظة تمتلئ بالإجلال والتبجيل، دقيقة كاملة من التصفيق للرجل لم يقطعها سوى صوت المذيع الداخلي للاستاد وهو يحاول تحميس الجمهور وإثارتهم وإفاقتهم من سكرتهم، ولم لا يسكرون فرحًا وطربًا واليوم هو يوم تسطير تاريخ جديد للمدينة بأسرها بل لعالم كرة القدم أجمع، فما حدث اليوم لا يحدث كل يوم وربما لن يحدث مرة أخرى، يقوم الرجل الستينيّ بحركة سريعة مفاجئة يخطف بها الميكروفين من المذيع ويطلب من الجميع الصمت ليلقي كلمة للتاريخ.
“عندما كنت صغيرًا كنت مولعًا بكرة القدم، كانت تستحوذ على تفكيري ومخيلتي، كانت هي كل حياتي، كنت أهرب من المدرسة في الأيام التي تقام فيها مباريات روما لأشاهد الأسطورة جياكومو لوسي وكيف يقود الدفاع كأوركسترا تعزف ألحان خالدة.
قررت بعد زمن ليس بالطويل أن أفني حياتي لأجل عيون المستديرة، بدأت اللعب في حواري وأزقة المدينة الكبيرة وتحديدًا في ضاحية “سان سابا” كان هذا في ستينات القرن الماضي، لكنني لم أكن بارعًا بما يكفي لأجذب أنظار المارة إليّ وبالطبع لم أستطع أن أكون لاعبًا مشهورًا رغم أن القدر ساعدني في بداية الأمر ولعبت لمعشوقي الأول روما لكنني قضيت موسمين ولم ألعب سوى ست مرات، بعد ذلك صرت رحالة بين الأندية من كاتانيا إلى باليرمو وكاتانزارو وأتحداكم إن كنتم سمعتم عن الأخير هذا، هكذا كانت حياتي في الملاعب قصيرة ومملة قضيتها متجول بين صغار القوم كلاعب قلب دفاع قلّما يترك دكة البدلاء إلى الملعب واعتزلت الكرة واعتقدت حينها أن الكرة أدارت لي ظهرها وأنها لم تحبني كما أحببتها أنا.
لكنني لم أكترث الحقيقة وقررت أن أكمل المسيرة كمدرب لأرى ماذا تخبئ لي إرادة السماء لكن مرة أخرى لم يحالفني الحظ، صحيح أنني لم أكن مدربًا بذلك السوء الذي كنت عليه عندما كنت لاعبًا لكنني لم أكن مدربًا لامعًا أيضًا، كل ما استطعت الفوز به كان كؤوس محلية وكأس سوبر أوروبي عدا ذلك فلا قديم يذكر ولا جديد يعاد.
قبل أن أتي إلى هنا مباشرة، كنت مدربًا لمنتخب اليونان لم أستمر في منصبي سوى أربع مباريات، وكنت السبب في الخسارة لأول مرة في تاريخ منتخب اليونان من منتخب جزر الفارو وإيرلندا الشمالية، شعرت بالخزي والعار حينها، كيف يمكن أن تخسر من فريق مثل جزر الفارو قوامه من اللاعبين الهواة والعمال الذين يمارسون الكرة في أوقات فراغهم، حينها شعرت أنه حان وقت الرحيل عن الملاعب للأبد، وأنه يجب عليّ الاعتزال محتفظًا بما تبقى من سمعتي وكرامتي.
جلست في منزلي قرابة العام دون أن يطرق بابي عرض أوروبي واحد حتى إنني بدأت أتقبل فكرة التدريب في الخليج العربي، كان ذلك قبل أن تهاتفني امرأة عجوز تسكن في صقلية تبلغ من العمر ستة وتسعين عامًا تطلب مني الصبر والمثابرة وأن انتظر فالقادم يحمل في جعبته الكثير، هذه السيدة هي أمي التي أدين لها بالكثير.
بعد ذلك بعدة أيام هاتفني وكيل أعمالي بصوت بشوش ليخبرني أن هناك نادٍ في إنجلترا في الدرجة الاولى يبحث عن مدرب يقوده الموسم الجديد كان هذا في يوليو عام 2015 وكأن الرجل قد شعر بي ورفقًا بحالتي فقد أكمل مستطردًا إنهم لا يريدون سوى البقاء في الدوري الممتاز، أربعون نقطة فقط يا رانييري، هذا كل ما يطلبونه، وافقت دون تردد.
وكان هذا النادي يا سادة هو ليستر سيتي.
صحيح أننا لا ننقذ المرضى ولا نوقف الحروب ولا نفرج كرب المكروبين لكننا نحاول أن نعطيهم ساعات من الفرحة والترقب والإثارة
أتيت إلى هنا ولا يدور في خاطري الكثير، مدينة هادئة وتبدو طلتها الأولى لطيفة إلى حد كبير علاوة على أنه لا يوجد من الضغوطات الكثير وكل ما يطلبونه هو البقاء في الدوري، 40 نقطة فقط هذه كل طلبات ملاك النادي الذين يبدوا أنهم لا يمرون بظروف اقتصادية صعبة، حتى إنهم وافقوا على راتبي دون الكثير من المفاوضات.
بدأنا التحضيرات للموسم الجديد، وبدأنا الموسم ببداية جيدة بفوزين وتعادلين، مررنا بأوقات عصيبة كثيرة كما حظينا بأوقات ممتعة كنا ننزل إلى أرضية الميدان لنفعل ما أحببناه واعتدنا عليه حتى وصلنا إليكم اليوم بثلاثة وعشرين فوزًا وواحد وثمانين نقطة.
لطالما كنت قريب من اللاعبين كنت أشعر أنني أب وصديق لهم وليس مجرد مدرب، أتذكر حينما أخبرني محرز كيف كان يقترض الأموال من والدته ليدفع ثمن تذكرة القطار ليذهب إلى التدريب ثم يقول لها يومًا ما سأصبح لاعبًا مشهورًا وسأرد لكي هذه الأموال يا أمي، أذكر حينما أخبرني أيضًا كيف أن أمه كانت لا تشتري ثيابًا جديدة لها لتستطيع شراء حذاء رياضي له، وها هو رياض الآن لاعب مشهور أكثر مما تخيل في مناماته السعيدة ويحمل جائزة أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي الممتاز.
الكتيبة التي لم تنقسم إلى نجوم ولاعبين عاديين، لم يكن بداخلها سادة وعبيد، كانت يدًا واحدة تحارب الجميع والطوفان من خلفها، فشكرًا لها لأنها أدخلت السرور على قلوب الملايين، أعطتهم أملًا صادقًا أن الخير يمكن أن ينتصر ولو لمرة
أتذكر أيضًا حينما أتى جيمي ليحدثني عن حياته وكيف تم رفضه في نادي شيفيلد يونايتد وأنهم قالوا له إنه لا يصلح لأن يلعب كرة القدم من الأساس، ثم كيف كان يعمل في مصنع للألياف الكربونية ثم كعامل بريد في إحدى الشركات وما إن ينتهي من عمله هذا حتى يتوجه إلى التدريب حيث يتقاضى 30 جنيهًا إسترلينيًا شهريًا في دوري الهواة، انظروا إليه الآن يا سادة، انظروا إلى تلك الملحمة العظيمة التي صار بطلها الآن بطلاً للدوري الإنجليزي وسجل 24 هدفًا وصار لاعبًا دوليا يمثل منتخب بلاده، إنه ملهم لكل الهواة والأطفال الصغار.
خلف كل لاعب من هؤلاء اللاعبين توجد قصة وملحمة شخصية، توجد معاناة وربما مأساة، لكنهم قرروا أن يعطوا القيمة للأشياء ذاتها، لا أن تعطيهم الأشياء القيمة، جائزة أفضل لاعب صارت أقيم حينما فاز بها ابن الصحراء، بطولة الدوري صارت أجمل في عيون العالم حينما فزنا بها، نحن من نعطي الأمور القيمة وليس العكس.
حينما اشتدت المنافسة على اللقب وزادت الضغوطات اجتمعت بالفريق وأتذكر كلماتي القليلة التي قلتها لهم آنذاك، قلت: انظروا، إما الآن وإما أبدًا، نحن نمنح الأمل للجميع في زمن تعد فيه الأموال هي كل شيء.
كانت حينها الأنظار مسلطة عليهم بشدة وكنت أشعر بأقدامهم ترتجف داخل الغرفة وكان الجميع في المدينة يهمس هل يستطيعون فعلًا تحقيق المعجزة أم أنها طفرة وأنها سريعًا ما ستزول، حينها سألتهم، لقد ضمنا البقاء في الدوري كما يطلب ملاك النادي، هل تريدون إكمال الأسطورة أم أنكم اكتفيتم بهذا الكم، حينها وجدت أمامي ثعالب جائعة لا يشبع رغباتها سوى بطولة الدوري، أخبرتهم حينها أن هذه هي فرصتهم الأولى والأخيرة وأنه يتوجب عليهم بذل الكثير من الجهد والتضحيات إن تطلب الأمر لكنهم وافقوا حينها وأوفوا بالعهد.
فهنيئًا لنا معشر المستضعفين في كل بقاع الأرض، هذا فوزكم وانتصاركم، هنيئًا لكتيبة الكوماندوز هذه التي لم تقتل طفلًا ولم تقصف بلدة ولم تشعل حربًا ولكنها كانت بمثابة أوبرا يعزفها جميع البشر، الكتيبة التي كانت تعمل بمقولة: العمل الجماعي يجعل الحلم يبدأ TEAM WORK MAKES THE DREAM WORK.
الكتيبة التي لم تنقسم إلى نجوم ولاعبين عاديين، لم يكن بداخلها سادة وعبيد، كانت يدًا واحدة تحارب الجميع والطوفان من خلفها، فشكرًا لها لأنها أدخلت السرور على قلوب الملايين، أعطتهم أملًا صادقًا أن الخير يمكن أن ينتصر ولو لمرة، الكتيبة التي أخبرت أثرياء العرب أن المال لا يشتري الكرة ولا المشجعين كما أنه لا يشتري الحكم والمحكومين، وأعلَمَت رجل الأعمال الروسي أن أمواله المغسولة في سراديب لندن لا تكفي للتغلب علينا وأن العمال الذين يسلبهم حقهم في مصانعه سينتفضون يومًا ما وأن “المدرب الفاشل” كما وصفه سابقًا صار بطلًا، وأرسلت رسالة للبرتغالي المتعجرف أن الرجل الذي لم يكن قادرًا على النطق بالإنجليزية صار رمزًا هنا وأن الزمان يدور يا هذا، وقالت للجميع لم تلعب الكرة وكيف ينبغي أن تلعب.
هذا الفوز لكل المثابرين في الدنيا، لكل الطامحين الطامعين في الشرف والخلود في التاريخ بشرف، لا أريد ان أحمل الكرة أكثر مما ينبغي لكن تظل الكرة حمالة أوجه وتنقل رسائل لا ينطلق بها اللسان.
فصحيح أننا لا ننقذ المرضى ولا نوقف الحروب ولا نفرج كرب المكروبين لكننا نحاول أن نعطيهم ساعات من الفرحة والترقب والإثارة، أن نتسبب في تدفق الإدرينالين في العروق، أن نرفع دقات القلوب، أن نرسم بسمة على وجه طفل يعاني وعجوز أكل عليه الدهر وشرب وعلى قلب عاشق فقد معشوقته في زحام الدنيا وعلى وجه أب توارى عن ناظريه ولده خلف قضبان ديكتاتور مجنون ونشد على أيدي المقاتلين للحرية في كل مكان ونخبرهم أن الله الذي لا ينصرنا دائمًا قد ينصرنا أحيانًا.
وداعًا.
……………….
أعزائي الباحثين عن منطق وسبب لما حدث، توقفوا قليلًا عن البحث واستمتعوا بكل لحظة في هذه الحكاية القادمة من الجنة رأسًا، لا تبحثوا عن أرقام وأسباب وتحليلات، حاولوا فقط أن تنقشوا كل تفصيلة منها في أدمغتكم لأننا سنحكيها يومًا ما إلى أجيال لن ترى مثل هذا الخيال أبدًا.
كل ما كتب وما سوف يكتب، لن يستطيع أن يتخيل كيف هو الآن ذلك الإيطالي العجوز، فربما يجلس الآن على شاطئ الكاريبي ممسكًا بسيجار كوبي وزجاجة الجعة في يده لكنه على الأرجح يمسك الأن كتابًا بيده منتظرًا وجبة الغداء وكأن شيئًا لم يكن.