أطفال لا يكفون عن الضحك المفاجئ الذي يصاحبه الصراخ، ولا يكترثون لمن حولهم، يتقوقعون في عالمهم الخاص بعيدًا عن المحيط الذي يعيشونه، رافضين الاختلاط بالآخرين أو التواصل البصري والسمعي مع أي شخص يحاول اختراق عالمهم، لا يميزهم عن أقرانهم سوى حبهم للعزلة وحركتهم المفرطة، فهم أطفال مصابون باضطراب التوحد.
يقصد باضطراب التوحد أنه نوع من الاضطرابات التطورية الذي يظهر خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، حيث ينتج عن هذا الاضطراب خلل في الجهاز العصبي مما يؤثر على وظائف المخ، وبالتالي يؤثر على مختلف نواحي النمو لدي الطفل.
ويشتكي ذوو المصابين بالتوحد في قطاع غزة من قلة الاهتمام والدعم الحكومي، خصوصًا في ظل ما يعيشه القطاع من ظروف معيشية واقتصادية صعبة، وازدياد أعداد المصابين به بشكل لافت في الأعوام الأخيرة، حيث تشير دراسة مسحية حول أطفال التوحد في القطاع أجريت العام المنصرم من قبل برنامج غزة للصحة النفسية إلى وجود 522 حالة توحد في القطاع، موزعة على ستة مراكز عاملة في تأهيل ورعاية أطفال التوحد.
وكانت وجهتنا إلى المنطقة الشرقية من مدينة غزة، حيث جمعية الحق في الحياة، أولى الجمعيات العاملة في رعاية وتأهيل مصابين التوحد بالقطاع، وخلف أسوار الجمعية تقبع حكايات وقصص لذوي المصابين بالتوحد، وخلال تجولنا في مرافق الجمعية تستوقفنا الكثير من القصص.
أريد الأفضل لأبنائي لكن الأوضاع الاقتصادية تحول دون ذلك
محمد (11سنة) وأحمد (10سنوات) وكريم (7سنوات) الخالدي، ثلاثة أخوة مصابون بالتوحد بدرجات متفاوتة، يشكل الثلاثة عبء على أسرتهم ميسورة الحال، وتبدأ الحكاية التي بلغت من العمر 11 عامًا منذ أن أصدر الطبيب المختص حكمه في حالة محمد وأحمد بأنهما مصابا بالتوحد.
يقول والد أبناء الخالدي: “جُلت في كافة المراكز والمؤسسات العاملة في رعاية التوحد في القطاع بحثًا عن الأفضل لأبنائي”، مستدركًا بأنه وجد في جمعية الحق في الحياة الأنسب والأفضل في رعاية وتأهيل أطفاله، ويستكمل واصفًا الجمعية التي خصصت جزءًا من مبانيها لمصابي التوحد، وحرصها على توفير ملاعب وألعاب لتفريغ الطاقة الزائدة لأطفال، بامتلاكها الخبرة في رعاية وتأهيل مصابي التوحد.
ويفصح الخالدي عن التكاليف المالية التي ترهق كاهله جراء وجود ثلاثة مصابين بالتوحد، ويقول “أريد الأفضل لأبنائي لكن الأوضاع الاقتصادية تحول دون ذلك”، معللاً بظروف عمله وراتبه الذي يكاد يكفي للأمور المعيشية، إلا أنه يستكمل بقوله “احتضنت الجمعية أطفالي الثلاث دون الالتفات للنواحي المالية، وقدمت الخدمات التأهيلية والتعليمية لأطفالي مراعاةً لظروفي الاقتصادية”.
ومنذ التحاق أولاد الخالدي بالجمعية تغير سلوكهم بشكل ملحوظ، وأصبحوا يتجابون مع الأخرين وأكثر اعتمادًا على أنفسهم في الأمور الشخصية والأعمال البيتية، يوضح الأخصائي المشرف على حالة أنباء الخالدي، ويشير إلى الخدمات التوعوية التي تقدمها الجمعية لأهالي مصابي التوحد، من ندوات وورش لكيفية التعامل مع أطفال التوحد، وتأهيلهم مجتمعيًا.
تتفق والدة باسل (9 سنوات) مع الخالدي في أن الخدمات المقدمة في الجمعيات والمؤسسات العاملة في تأهيل أطفال التوحد متفاوتة وبحاجة لرقابة، إلا أنها تصف الخدمات المقدمة من قبل جمعية الحق في الحياة بخدمات تضاهي الخدمات المقدمة بالدول الأجنبية رغم الحصار وقلة الدعم والتمويل للجمعية على حد قولها.
اكتشفت والدة باسل بأن طفلها مصاب بالتوحد منذ عمر السنة ونصف السنة، من خلال تربيتها لابنة أختها التي تساويه بالعمر، فلاحظت تأخره في النمو والانتباه؛ مما دفعها للتوجه للأطباء الذين أكدوا لها بأنه مصاب بالتوحد، وعليها دمجه في إحدى الجمعيات العاملة في تأهيل التوحد.
والتحاق باسل بمرحلة التدخل المبكر في جمعية الحق في الحياة ساعده على التحسن والتطور، فغادره التقلب المزاجي من صراخ دائم وفوضوية وحركات زائدة، وأصبح أكثر هدوءًا ومخالطةً للآخرين بالمجتمع، توضح والدة باسل.
وتضيف بأن الجمعية ساعدتها كأم لطفل توحد على نضوج وعيها حول التوحد وكيفية التعامل معه بالبيت وخارجه، من خلال الندوات والورش التوعوية التي تحرص الجمعية على تنفيذها لأهالي المصابين بالتوحد، وبترقب تنتظر مستقبله بخوف، متسائلة إن كان باستطاعته العيش في المجتمع مستقلاً، ورغم خوفها إلا أنها لا تريد التفكير بذلك، تاركةً ذلك الوقت.
الأستاذ نبيل جنيد مدير البرامج التأهيلية في جمعية الحق في الحياة يوضح بأن الجمعية تتبنى الاختبارات الدولية في عملية التشخيص، والتأهيل لمصابي التوحد، موضحًا بأن عملية التأهيل والتعليم في الجمعية وفق أسس علمية دولية.
وأضاف بأن الحصار وإغلاق المعابر يحول دون تحسين الخدمات المقدمة للمصابين، بقوله “إغلاق المعابر منع استقطاب مدربين وخبراء أجانب لتأهيل كادر الجمعية، وأيضًا منع سفر الأخصائيين للالتحاق بالدورات التدريبية خارج غزة”.
ويتابع “رغم تعرض الجمعية للقصف خلال الحرب الاخيرة على القطاع وتكبدها خسائر مالية، وإلحاق الضرر في مبانيها إلا أنها مصرة على تقديم الأفضل لمصابي التوحد”، مشيرًا إلى المشاريع التي تنفذها الجمعية في سبيل تحسين الخدمات التعليمية للمصابين بالتوحد من خلال خلق بيئة تعليمية ذكية، وأيضا تحسين الخدمات العلاجية، من توفير غرف علاج حسي مجهزة وفقًا لمعايير دولية في الشأن.
وأكد سعي الجمعية لدمج أطفال التوحد بالمجتمع، وتمكينهم من الحصول على حقوقهم في العمل والتعليم وغيرها، من خلال تقديم الخدمات التعليمية والتأهيلية لهم، والعمل على إيصال رسالتهم غلى شرائح المجتمع الفلسطيني وتوعوية المجتمع كيفية التعامل معهم بطريقة طبيعية.