منذ ما يقارب خمسة وستون عامًا (تحديدًا في عام 1959م) ألقى عالم الفيزياء والأديب الإنجليزي سي بي سنو، محاضرة، ذكر فيها أن المثقفين ينتمون إلى فئتين، إحداهما فئة أصحاب الثقافة العلمية ممن يشتغلون بالعلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء، والفئة الثانية فئة أصحاب الثقافة التقليدية أو الإنسانية التي يعمل أفرادها في مجال الآداب والفنون، مشيرًا إلى أن الفئتين منفصلتان تقريبًا بلا تواصل، ولا يدري أفراد كل فئة الكثير عن أنشطة الفئة الأخرى، وأكد سنو ضرورة وأهمية التواصل بين الثقافتين العلمية والإنسانية، وكانت هذه المحاضرة نواة كتابه المسمى “الثقافتان” الذي حذر فيه من مغبة حالة العزلة بين الثقافة العلمية والأدبية في العالم الغربي، وما يؤدي إليه ذلك من نتائج سلبية على حالة هذه المجتمعات وسير تقدمها.
يمكننا القول نسجًا على منوال سنو، مع تغير الحال والمجال، أن هناك ثقافتان متضاربتان تسودان مجالنا العربي الإسلامي منذ زمان النهضة الأولى إبان عهد محمد علي وحتى اليوم، وهذا التباعد بين الثقافتين هو واحد من أهم السدود الحائلة بين الأمة وبين تقدمها.
ولنأخذ مصر مثالاً، سنجد أن مجتمعنا المصري تتنازعه ثقافتان متباعدتان ومتنافرتان تمامًا، كل واحدة منهما على النقيض تمامًا من الأخرى، فمنذ قبض الوالي الكبير محمد علي زمام السلطة في مصر – منذ ما يزيد على قرنين من الزمان -، وشرع في بناء مصر الحديثة، بشرًا ومؤسسات وتنظيمات، مرورًا بأبنائه وأحفاده حتى اختفاء ملكية خلفاء محمد علي وإعلان الجمهورية وتقلب نجيب وناصر والسادات ومبارك على الجمهورية الأولى، حتى قيام ثورة يناير وتولي المجلس العسكري جماعيًا حكم البلاد ثم محمد مرسي الإخواني وأخيرًا المشير السيسي المتحدر من الجيش المصري الذي أقامه الباشا محمد علي، لا تزال هناك قضية واضحة، يلمسها أي ساعٍ حقيقي للتغيير، هي أننا لا نلبث أن نتقدم في سلم التطور حتى تقابلنا عقبة أو عقبات تعود بنا إلى الوراء خطوات بعيدة، وفي رأيي أن هذا التعثر الدائم يعود في جزء كبير منه إلى وجود هاتين الثقافتين المتضادتين تمامًا في منطلقاتهما وأهدافهما وغاياتهما الكبرى والنهائية.
هموم كبيرة وأخرى صغيرة
الثقافة الأولى: تحاول أن تجدد ما اندرس من علوم الأمة، وتنقل إليها ما استجد من علوم لدى غيرنا من الأمم، ساعية للنهوض بالأمة من كبوتها، تجديدًا لسير نهضتها، مع تعدد منطلقاتها ومدارسها ما بين إسلامية وعلمانية.
والثقافة الثانية: لا تعي مما تفعله الأولى شيئًا، فعامة أهلها لا يقرأون ولا يكتبون، وإن قرأوا أو كتبوا فالقضايا التي تشغل بالهم وتؤرق خواطرهم، ليست هي ذات القضايا التي ينشغل بها أهل الثقافة الأولى، فغالب همهم وشغلهم الشاغل هو معاشهم اليومي، وتأمين غدهم المجهول، وغاية مأمولهم أن يحرزوا وظيفة تحميهم من غوائل الزمن، أو يجنوا مالاً أو عقارًا يستندون إليه في تدبير أحوالهم، وأن يأمنوا غدر جيرانهم وحكامهم، حتى يلاقوا ربهم.
وبينما تتركز هموم الثقافة الأولى في الحداثة والعلمانية والعولمة وقضايا الدين والدولة والتمدن والعمران، نجد أن الثقافة الثانية مهمومة بلقمة العيش وخناقات الجيران ولهيب الأسعار واستحالة دخول الجان بدن الإنسان.
وفي حين تبحث الثقافة الأولى في قضايا السلطة والسلطان والمال والرأسمال والاستقلال والتبعية والعولمة والأقلمة، تتركز اهتمامات الثقافة الثانية في أمور المعاش وتنافسات الأنداد، والعصبيات الصغيرة والخناقات التافهة، والاستعداد ليوم المعاد.
مجالا قيم وعمل متضادان
تحمل كل ثقافة من هاتين الثقافتين، مشروعًا مغايرًا للمشروع الذي تحمله الأخرى، مشروعان يبغض كل منهما الآخر، ويتنافسان على الهيمنة على وجدان وعقل الإنسان المصري، وكلتاهما تقدم رؤية شمولية تدعو فيها الإنسان المصري إلى مجال عمل وقيم محددين.
فالثقافة الأولى التي تدعو لقيم النهوض والعمل على استرداد عزة ومناعة الأمة وتحقيق استقلالها، ونشر ثقافة العلم وتحقيق العدالة والكرامة لكل أبنائها، على الرغم من طول العهد بها لما يزيد عن القرنين، إلا أن جذورها لم ترسخ بعد في قلوب المصريين، فثمارها بعيدة المنال، وتحتاج إلى أعمار وأموال وتكبد أهوال ومصابرة أجيال، ووعودها مستقبلة سوف تجنيها في علم الغيب أجيال لم تأتِ بعد، جماعيتها سر قوتها، وهي في نفس الوقت مكمن ضعفها، ومن هنا سر ضعف تأثيرها وهامشية تأثيرها في السواد الأعظم من المصريين.
بينما جذور الثقافة الثانية التي تدعو لقيم الاستهلاك والاستملاك والانكفاء على المصالح الضيقة والنجاة الفردية بمفهومها الديني والدنيوي، تبدو راسخة في نفوس أهل مصر، وقوتها تكمن في نفعيتها وآنيتها ووعودها المتحققة في التو واللحظة، فثمارها دانية ولا تحتاج سوى الانغماس في شؤون النفس والأهل المقربين واجتناب كل ما يؤدي للاجتماع بالآخرين، والضن بما تملك إلا على نفسك وأهلك، والبعد كل البعد عن الثقافة والسياسة والفكر، فهو مما يسبب للإنسان “الفكر”، ومن هنا جبروتها وسطوتها وانتشارها، فذاتيتها المطلقة سر قوتها، وفي نفس الوقت نقطة ضعفها.
خيبة كاملة
الفجوة الهائلة بين هاتين الثقافتين عمقت اللامساواة الثقافية بين المصريين، وأنتجت فريقين متقابلين، وقد آتت هذه الفجوة أكلها الخمط، وأخلفت كل ظنوننا في حياة كريمة ونهضة قويمة، فاستمر حال مصر وغالب المصريين هو نفس الحال على أيام الباشا – مع الأخذ في الاعتبار تقبلات الزمان وتغيرات المكان وتطورات العلم والتكنولوجيا ووسائل المعيشة -.
فلم تفلح المدارس الجديدة ولا التقنيات المستوردة ولا نظم الحكم الحديثة ولا تبني الدولة القومية، ولا البعوث الخارجية، ولا محاولات التجديد الديني والثقافي، ولا تأثيرات العولمة والاتصال، في أن تنقل الأمة المصرية من حال التأخر إلى حال التقدم المنشود، فلم تتغير أحوال الفقر والفقراء كثيرًا، ولم تتغير تبعيتنا للغرب، ولا تمكنا من استنبات التكنولوجيا الحديثة التي تحمي مقدراتنا، ولا تأصل بداخلنا حب المصلحة العامة على كل مصلحة خاصة، ولا تخلصنا من الاستبداد المقيم، ولا نزل في جذر قلوبنا معنى النهوض والشهود الحضاري الذي هو غايتنا الكبرى.
لنحمل رسالتنا
وقد آن الأوان، أيها الإنسان الذي يعيش ثقافة النهوض والتقدم، لتحمل رسالتك وتعترف بتقصيرك وتعزم على أن تسلك سبيلاً جديدًا للوصول لأخيك الذي لن يقرأ هذا الكلام إلا إذا وجدك معه في بيته ومصنعه وحقله وشارعه، تقاسمه همومه وآلامه وتبثه همومك وآمالك، ولن يكون ذلك إلا بالبناء الجديد لجسر التواصل بين أهل الثقافتين المتناكرتين، عبر أفكار مبتكرة، ووسائل متجددة، وأجيال مؤمنة بالنهوض الحضاري لأمتنا تبذل فيه أعمارها وتنفق عليه العفو، أي كل ما زاد عن حاجتها.
إنني اعتقد أن الهوة السحيقة بين هاتين الثقافتين هي الرحم المولد لكل إخفاقات النهضة في بلادنا، وهي علة التأخر الأساسية، وسبب النكبة المستمرة للأوطان، فهل نجد من بين مفكرينا ومن يترسمون سبيل الإصلاح من علمائنا ومصلحينا من يتقصى أسباب هذا الفصام النكد بين الثقافتين، وكيفية الجمع بينهما في ثقافة واحدة تجمع أبناء الثقافتين على قضايانا الحقيقية لا الوهمية، بخطابات متعددة متدرجة يفهمها الجميع وبها يتواصلون.
إن الكفاح من أجل التلاقي بين هاتين الثقافتين، يحتل مكانة مركزية في أي تحرك جاد نحو النهضة التي تنشدها مصر اليوم.