باكستان الشرقية أو بنغلاديش ذلك البلد المولود من رحم الهند على مرتين؛ الأولى عندما انفصل عن الهند ضمن دولة باكستان والتي ضمت إلى جانبه باكستان الغربية إلا أن أبناء الشرق قرروا الانفصال عن باكستان أيضًا فكانت حرب التحرير 1971 بمساعدة الهند التي ساهمت في إثارة النعرات القومية لدى البنغال، بلد يسكنه ما يزيد عن 150 مليون نسمة ويحتل المرتبة الرابعة بعد إندونيسيا وباكستان والهند من حيث عدد المسلمين والذي يتجاوز 100 مليون نسمة.
لا تزال أزمة السلطة وما حولها من اتهام السياسيين بالفساد والعنف السياسي تخيم على الأجواء في ذلك البلد الفقير، حيث دخلت البلاد أزمة سياسية حادة منذ ما يقرب من 5 سنوات بين الحزب الحاكم رابطة الشعب بقيادة حسينة مجيب الرحمن والحزب القومي المعارض بقيادة خالدة ضياء، شاءت الظروف أن تقود كلا السيدتين بنغلاديش بالتناوب منذ العام 1991 وحسينة هي ابنة الزعيم البنغالي مجيب الرحمن الشيخ الذي قاد مرحلة الانفصال وأول رئيس للدولة والذي اغتيل لاحقًا على يد عسكريين نفذوا انقلابًا عسكريًا وخالدة هي أرملة الجنرال ضياء الرحمن رئيس سابق وتم اغتياله عام 1981 وأول رئيسة وزراء في تاريخ بنغلاديش.
إن تشابهت السيدتان في التعصب لما تؤمنان به وفي الاتهامات الموجهة لكل منهما بالفساد المالي وفي الخلفية الأسرية لارتباطهما باثنين من قادة حرب التحرير وكلاهما كانت نهايته مأساوية، إلا أنهما يختلفان أشد الاختلاف حول السياسات الواجب على الدولة العمل بها، ولعل أبرز نقاط الاختلاف ما يتعلق بالتبعية للهند والتقارب معها وهو ما تؤيده حسينة بقوة بينما ترفضه خالدة وحزبها.
في الأخير قررت حسينة أن تقسو على خصمها عبر فتح ملف حرب التحرير التي مر عليها أكثر من أربعين عامًا وتوجيه اتهامات الخيانة والمشاركة في جرائم حرب لعدد من قادة الحزب القومي المعارض ومنتمين للجماعة الإسلامية التي تدعم الحزب، يذكر أن الجماعة الإسلامية كان لها موقف معلن من رفض الانفصال ودعم استمرار الوحدة مع باكستان، إلا أن إعادة النظر في هذا الأمر بعد تلك المدة الطويلة والتي خلالها نجح قيادات الجماعة الإسلامية في العمل المجتمعي بشكل قانوني وتولوا مناصب رفيعة المستوى وصل بعضهم لمناصب وزارية خلال سنوات حكم الحزب القومي يشكل علامة استفهام لا يمكن تفسيرها سوى بقرار الحزب الحاكم الدخول في صدام مع معارضيه بهدف قمعهم.
المحاكمات التي شككت المؤسسات الحقوقية الدولية في عدالتها واستقال أحد قضاتها بعد تسريب مكالمة له يتحدث فيها عن كون المحاكمات سياسية وليس لها علاقة بالقانون، سرعان ما أصدرت أحكام بالإعدام ونفذت الحكومة عددًا منها بالفعل كان آخرها بحق مطيع الرحمن أمير الجماعة كما تم حظر الجماعة، الأمر الذي صعد من حدة التوتر ودفع بالمعارضة إلى الشارع مرات متتالية للاحتجاج، فوقعت العديد من المصادمات ما تسبب في مقتل عدد من المحتجين على يد قوات الأمن، في المقابل مؤيدي الحزب الحاكم بدورهم نظموا مظاهرات تطالب بتنفيذ أحكام الإعدام والاستمرار في سياسات الحكومة القمعية تجاه المعارضة، بينما دعا الحزب القومي إلى مقاطعة الانتخابات العامة الأخيرة والدعوة للإضراب العام.
ربطت بعض القراءات الأحداث في بنغلاديش بحالة القمع التي تعاني منها الحركات الإسلامية المعتدلة في الدول العربية رغم اختلاف الظروف خاصة أن الجماعة الإسلامية تربطها علاقات قوية بتيار الإخوان المسلمين، وذهب البعض لاتهام دول عربية معروفة بعدائها للإسلام السياسي بدعم حكومة حسينة، يذكر أن الموقف الدولي القوي لم يأت سوى من تركيا عبر تصريحات من الرئيس أردوغان أدان فيها المحاكمات وأعلن سحب السفير مع التهديد بإعادة النظر في العلاقات بين بلاده وحكومة بنغلاديش تبعًا لاحترام الأخيرة لحقوق الإنسان.
لا شك أن مضي الحكومة البنغالية في تنفيذ أحكام الإعدام بحق الخصوم السياسيين واستمرار الدعم الهندي مع صمت دولي وإسلامي تجاه القضية قد أنهى أي محاولة للأمل في حل سياسي للأزمة وأوصل المعارضة إلى نقطة اللاعودة، لذا فإن المتوقع في المستقبل القريب هو مزيد من القمع قد تطال قيادة المعارضة خالدة ضياء نفسها خاصة مع دعوة قيادة الجماعة الإسلامية أنصارها التحلي بالصبر خوفًا من تجدد المصادمات، كما يتوقع أن تستخدم الحكومة مبرر الإرهاب مع ادعائها بوجود متطرفين تابعين لتنظيم الدولة في بنغلاديش، وهو ما تكذبه الجماعة الإسلامية وتعتبره ليس إلا مقدمة لمزيد من القمع وأنه محاولة لتشويه صورة التيارات الدينية المعتدلة.
بالتأكيد هذا القمع المتوقع ليس في مصلحة بنغلاديش واستقرارها على المدى البعيد وقد يمثل تهديدًا حقيقيًا لحكومة حسينة إذا نجحت المعارضة في مقاومته بشكل صحيح وتوظيف كافة الأدوات المتاحة لمحاولة إسقاط الحكومة وقد تسير بنغلاديش في النفق المظلم إلى نهايته إن لم ينجح أحد الأطراف في تدارك الأمر.