بعد مائة عام على إمضاء اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة سنة 1916 التي وقعت بين فرنسا وبريطانيا وروسيا وتم بموجبها تقسيم العالم العربي إلى أجزاء مجزئة، مازال بعض مفكري النخبة العربية يجزمون إلى اليوم بأن هذه الاتفاقية كان الهدف منها تقسيم المشرق العربي فقط وإضعافه، متناسين أن هذه الاتفاقية لم يسلم منها أيضًا دول المغرب العربي (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا وموريتانيا) وأنها كانت السبب في التفتت الذي تعيشه هذه الدول إلى حد اليوم وعدم نجاحها في إنشاء أي اتحاد قوي يحمي مصالح شعوبها ويسهل النشاط الاقتصادي وذلك بسبب الخلل المتعمد الذي وقع أثناء ترسيم الحدود والذي تسبب في خلافات بين بعض دول المغرب العربي مازلنا إلى اليوم نعيش على وقعها.
يعتبر النزاع القائم حول الحدود الجزائرية المغربية أكثر النزاعات حدة بين بلدان المغرب العربي، ولم يتم حل الخلاف منذ حرب الرمال بين البلدين سنة 1963 بعد قرابة العام من استقلال الجزائر عن الاحتلال الفرنسي، حيث نشب الصراع المسلح بين البلدين بعد عدة شهور من المناوشات على الحدود بين البلدين، ورغم أن تلك الحرب التي مثلت نقطة سوداء في تاريخ وحدة المغرب العربي انتهت سنة 1964 باتفاقية وقف إطلاق النار بوساطة عربية ودولية، إلا أنها بقيت مؤثرة إلى حد اليوم في العلاقات بين الأشقاء.
حيث مازالت الجزائر إلى حد اليوم تدافع عن حدودها كما تركها الاستعمار الفرنسي في مقابل المغرب الذي يطالب بحدوده كما كانت قبل مجيء هذا الاستعمار والتي تمثل معاهدة “لالة مغنية” في 18 مارس 1845 إطارًا مرجعيًا لها، وهي المعاهدة التي وقعها المغرب مع فرنسا بعد هزيمته بمعركة إيسلي في 14 أوت 1844 بسبب دعمه لثورة الأمير عبد القادر الجزائري، حيث تم في تلك المعاهدة التنصيص على استمرارية الحدود التي كانت بين المغرب وتركيا لتصبح هي الحدود بين المغرب والجزائر، إلا أن الاتفاقية أبقت منطقة الصحراء الشرقية في الجنوب (أي منطقة تيندوف) في وضعية غامضة.
وتسببت هذه النزاعات القديمة المتجددة بين البلدين في تعميق الهوة واستحالة التقدم بأي خطوة في اتجاه إنشاء اتحاد يجمع كل دول المغرب العربي والذي ظل طويلاً أحد أحلام المغاربيين، وزاد في ذلك القرارات المتخذة من قبل حكومات البلدين التي اتسمت مواقفهما بالتعنت رغم بعض فترات الهدوء النسبي وإظهار بعض النوايا الحسنة، حيث تشبث البلدان طويلاً بالاتهامات والاتهامات المضادة والقرارات التصعيدية للرد على أي خلاف بسيط، ومن أشهر هذه القرارات إغلاق الجزائر للحدود منذ 1994 ردًا على قيام المملكة المغربية بفرض تأشيرة دخول على الجزائريين من جانب واحد، بالإضافة إلى اتهام المغرب للمخابرات الجزائرية بالوقوف وراء هجوم مسلح استهدف فندقًا بمراكش في 24 أوت 1994، لتظل الحدود مغلقة إلى حدود سنة 2004 عندما قرر المغرب إزالة التأشيرة على الجزائريين الراغبين في دخول المغرب ثم في سنة 2005 عندما سمح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة للمغاربة بدخول الجزائر بدون تأشيرة بعد اتصال هاتفي جمعه مع العاهل المغربي محمد السادس.
ورغم إلغاء التأشيرات بين المغرب والجزائر إلا أن الحدود مازالت مغلقة إلى حد اليوم وزادتها مشكلة الصحراء الغربية تأزمًا، حيث يشمل هذا الصراع الرملي ثلاث دول هي المغرب والجزائر وموريتانيا، رغم تأكيدات الرئيس الجزائري السابق أبومدين في مؤتمر القمة العربي بالرباط أن مشكلة الصحراء لا تهم سوى المغرب وموريتانيا، وأن الجزائر مع الدولتين وتؤيد تحرير كل شبر من الأرض لا فقط في الصحراء الغربية، بل أيضًا في سبتة ومليلية وكل الجزر التي لا تزال تحت الاحتلال الإسباني، وذلك سبب الخلاف بين البلدين حيث يصر المغرب على رفض منح سكان الصحراء الغربية استقلالهم، معتبرًا أن هذه الأراضي مغربية بالأساس، وكان الاستعمار الأوروبي قد اقتطعه من أراضيها، ويتهم الجزائر بدعم البوليساريو من أجل الانفصال عن المغرب والمضي قدمًا في مخطط تفتيت وتقسيم المغرب.
وزاد هذا الغموض في قضية الصحراء تذبذب الموقف الموريتاني تاريخيًا وعدم استقراره، فبعد أن كانت تعتبر أن لسكان الصحراء الغربية نفس التقاليد والعادات التي لدى الشعب الموريتاني وعلى هذا الأساس طالبت بالجزء الجنوبي من الصحراء الغربية، ما لبثت أن تراجعت عن مطالبها بل وقامت في سنة 1979 بتوقيع اتفاق السلام بين موريتانيا والجمهورية الصحراوية بالعاصمة الجزائرية والذي بموجبه انسحبت موريتانيا بصفة نهائية من الجزء الذي كانت تحتله من تراب الصحراء الغربية واعترفت بالجمهورية الصحراوية داعمة مطالبها في التحرر عن المغرب وإنشاء جمهوريتها المستقلة.
وزادت هذه القضية في تعميق الخلافات بين دول المغرب العربي حيث تختلف الآراء والمواقف بين جميع الدول، ففحين دعت ليبيا طويلاً إلى دعم خيار اللجوء إلى استفتاء تقرير المصير لحل قضية الصحراء الغربية، اتسم الموقف التونسي بالحياد الإيجابي إزاء جميع الأطراف ذات الصلة بالموضوع على أساس أنه من أنظار الأمم المتحدة وباتفاق مختلف الأطراف على ذلك، محافظة بذلك على علاقتها الجيدة بكل الدول المعنية بالقضية.
لتبقى مشكلة الصحراء الغربية مثل الشوكة التي عفّنت كامل الجسد أو لنقل مثل “الجسد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” وتحولت إلى العقبة الرئيسية أمام وقوف اتحاد المغرب العربي على قدميه ليكون بدوره رافعة للأمة وقضاياه، وعوضًا عن تدويل قضية الصحراء الغربية وذلك مطمع العديد من الدول وهدفهم المنشود كان من الأفضل لو وقع الحسم في هذا الملف داخل إطار اتحاد دول المغرب العربي لأنها في الواقع تمثل العائق الأساسي أمام هذا الحلم.
لا تعد المشاكل الحدودية بين الجزائر والمغرب وقضية الصحراء الغربية وحدها من خلفها الإرث الاستعماري على دول المغرب العربي، حيث أفرز هذ الاستعمار صراعات حادة في العلاقات المغاربية، مردها النزاع حول الحدود، ومن ثم نجح المستعمر في توسيع هوة الخلاف بين بلدان المغرب الكبير، فمبدأ عدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار الذي تبنته منظمة الوحدة الإفريقية، أدى إلى تكريس النزعة القطرية، حيث ظهرت العديد من الخلافات الأخرى بين الدول الخمس حول ترسيم الحدود نذكر منها الخلاف الشهير بين تونس وليبيا حول الجرف القاري الذي يحاول كل طرف إثبات سيادته عليه، والذي ظل قائمًا بين البلدين منذ 1969 إلى حدود إبرام إتفاق سنة 1972 بعد تقديم تونس دعوى على ليبيا أمام محكمة العدل الدولية مطالبة بحقها في منطقة الرصيف القاري في البحر الأبيض المتوسط وخسارتها لهذه القضية.
دون أن نتغافل عن مشكل الحدود الجزائرية الليبية سنة 1967، عندما اخترقت الدوريات الجزائرية الحدود الليبية عند قرية أمباس، وهو ما اعتبرته ليبيا مساسًا بحدودها وسيادتها على المنطقة، غير أن الجزائريين استندوا في عملهم الجريء هذا إلى اتفاقية 1957 المعقودة بين ليبيا والإدارة الفرنسية، ولم يأخذ الصراع وقتها أهمية كبيرة إذ عمل الطرفان على تأجيل تخطيطها من حين لآخر حتى يتجنبا أي صدام بينهما.
وكان للجزائر أيضًا مشكل حدودي مع تونس حول النقطة الحدودية 233 التي كانت الجزائر قد تسلمتها من الإدارة الفرنسية بعد الاستقلال، على الرغم من أنها كانت تابعة للمجال الترابي التونسي قبل دخول المستعمر الفرنسي للمنطقة، وهذا ما جعل تونس تطالب الجزائر بالرجوع إلى الحدود التي رسمت قبل دخول المستعمر، لكن الجزائريين تمسكوا بهذه المنطقة للحفاظ على الموروث الاستعماري (الحدود الاستعمارية)، وهذا ما أدى إلى وقوع اشتباكات بين الطرفين، لاسيما وأن كل بلد أصبح ينقب على البترول في منطقة حاسي بورما الواقعة قرب المنطقة المتنازع عليها إلى حين وضع مشروع اتفاق تم فيه توضيح خط الحدود في البورما، على أساس استغلال المنطقة من قِبل الطرفين معًا، وترسيم جميع الحدود البرية والبحرية بين البلدين.
وكذلك الخلاف بين المغرب وموريتانيا التي يرى المغاربة أن فرنسا انتزعتها من المغرب ومنحتها الاستقلال من أجل الشروع في تنفيذ مشروع من بين أهم مشاريعه وهو عزل المنطقة عن المغرب لينجر عن ذلك أربعة نزاعات بين البلدين لم تكن مسلحة، بل انتهت بحلول أرضت جميع الأطراف المتنازعة وباعتراف المغرب باستقلال موريتانيا سنة 1969.
تعددت الخلافات طوال التاريخ بين دول المغرب العربي حول الحدود وظلت رواسبها إلى حد اليوم مؤثرة في إنشاء اتحاد مغاربي قوي رغم بعض المبادرات الخجلة التي لم تسمن ولم تغن عن جوع، ولم تنجح في فتح التجارة الحرة بين الدول الخمس ولا في توحيد الجهود العسكرية لهذه الدول، وذلك ما هدفت إليه كل الدول الاستعمارية من خلال عملها على تعميق الخلافات وإشعال النعرات رغم أن ما يوحد سكان المغرب الكبير أكثر بكثير مما يفصلهم.