تأتي الرياح أحيانًا بما تشتهي السفن، هذا ملخص ما يجري في أمريكا اللاتينية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وصناع القرار في واشنطن، والذين شهدوا في الآونة الأخيرة تباطؤ نمو العملاق الصيني، مع هبوط أسعار النفط نتيجة الإنتاج المتزايد بفعل الغاز والنفط الأمريكيين، وهي أحداث أدت لضرب الاقتصادات المعتمدة كليًا على النفط أولًا، والمعتمدة بشكل كبير على التجارة مع الصين ثانيًا، أبرزها بالطبع اقتصادات أمريكا اللاتينية مثل البرازيل وفنزويلا والأرجنتين، والتي تشهد اضطرابات اقتصادية واجتماعية بسبب تلك التحولات الأخيرة تصب في الحقيقة في صالح الولايات المتحدة، وتقوّض موجة اليسار التي غلبت في القارة قبل 15 عامًا.
المد الوردي يتراجع
“مدٌ وردي،” هكذا سمي صعود الحكومات الاشتراكية المختلفة في معظم دول أمريكا الجنوبية والوسطى خلال العقد الأول من القرن الجديد، وهي حكومات انطلقت بمشاريع معارضة لبرامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتحقيق النمو الاقتصادي على النموذج الليبرالي، ووقفت بوجه خصخصة خدمات الدولة وبوجه اتفاقية التجارة الحرة المدعومة أمريكيًا، في مقابل ترويجها لمنظومة تجارية أكثر عدلًا لأمريكا اللاتينية، وهو ما خلق نوعًا من البرود في العلاقة مع الولايات المتحدة وفتح أبواب التجارة مع الصين على مصراعيه، ليصبح العملاق الصيني الشريك التجاري الأول للقارة اللاتينية، وتتوسع مبادرات التكامل الإقليمي التي تستثني الولايات المتحدة وكندا وتحاول تحقيق التوازن السياسي والاقتصادي معهما في الأمريكتين.
كانت فنزويلا بالتحديد واحدة من الدول المهمة في تلك المنظومة وهي صاحبة الثروة النفطية الكبيرة، فقد شكل ثقلها الاقتصادي دعمًا للتوجه الموجود في البرازيل بقيادة لولا دا سيلفا والأرجنتين بقيادة كريستينا فرنانديز دي كريشنر وزوجها، علاوة على تقديم النفط الفنزويلي بأسعار أقل للحكومات اليسارية في أمريكا الوسطى الفقيرة، غير أن هبوط الأسعار الحاد مؤخرًا قد أشعل أزمة اقتصادية غير مسبوقة في البلاد، وأدى لانتصار حركة الوحدة الديمقراطية المعارضة وحصولها على أغلبية تامة في البرلمان، مما دفع الرئيس الفنزويلي مادورو خليفة هوجو تشافيز إلى اتخاذ خطوات أتوقراطية واضحة للحد من سلطات البرلمان الجديد، منها تعيين 13 قاضيًا جديدًا في المحاكم العُليا لعرقلة تشريعاته، وإعادة كتابة بعض القوانين بقرارات جمهورية لتقليص صلاحيات البرلمان في اتجاه استبدادي واضح.
لم يكن غريبًا إذن تراجع حلفاء فنزويلا عن اللجوء لنفطها، لا سيما مع توافره بأسعار رخيصة في السوق العالمي، بل ومنهم الرئيس البوليفي الإشتراكي نفسه إيفو مورالِس، في إشارة واضحة على الرغبة في الابتعاد عن فنزويلا بأزمتها الحالية، وهي خطوة أخذتها كوبا أيضًا التي اعتمدت على حوالي 100 ألف برميل فنزويلي يوميًا وإعادة تصدير جزء منها، وهو توجه كان مسؤولًا جزئيًا عن الانفتاح على الولايات المتحدة واقتصادها المنتعش حاليًا رغبة في حل الأزمة الاقتصادية التي ضربت هافانا مؤخرًا.
الرئيس الأرجنتيني موريسيو ماكري مع أنصاره
قبل تلك الأحداث كانت الأرجنتين هي الأخرى على موعد مع انتخاب اليمين لأول مرة منذ 12 عامًا، حيث نجح عُمدة مدينة بوينس أيريس المحافظ موريسيو ماكري في الفوز بانتخابات الرئاسة أواخر العام الماضي، ليكتب نهاية عصر السياسات الـ”كيرشنرية” نسبة لكريستينا كيرشنر الإشتراكية وزوجها، وهو تحوّل في الرأي العام الأرجنتيني جاء على خلفية أزمة اقتصادية بالأساس، حيث وصلت عملة الأرجنتين -البيسو- إلى 15 مقابل الدولار الواحد رُغم عدم تجاوزها رسميًا لعشرة مقابل الدولار، وهي أزمة اقتصادية ناتجة بشكل كبير عن الاعتماد القوي على تصدير السلع للصين، وتباطؤ الطلب الصيني في العامين الماضيين، وبالتالي تراجع عوائد التصدير الأرجنتيني التي استخدمت للإنفاق على برامج الرفاهة الاجتماعية.
الحدث الأشهر بالطبع والأكثر جدلًا كان في البرازيل، حيث نجح مجلس الشيوخ في عزل الرئيسة ديلما روزيف، خليفة لولا دا سيلفا، على خلفية تورط حكومتها في عقود مشبوهة شملت بالأساس شركة بتروبراس للنفط، والتي كانت اكتشافاتها النفطية قبالة السواحل البرازيلية في عهد لولا واحدة من أسباب النمو الاقتصادي السريع وتمويل المشاريع الاجتماعية الضخمة للطبقات الوسطى والعاملة، بالإضافة لتصدير السلع للصين، وبينما مضت الحكومة وفق سياساتها دون وضع احتمالية هبوط أسعار النفط وتراجع الطلب الصيني غير المتوقعين في الحسبان، فإن الضربة الاقتصادية في ريو دي جانيرو جاءت قوية مؤخرًا، مما أدى لهبوط مستويات تأييد الحكومة، وتحالف مجموعات يمينية في البرلمان والقضاء والإعلام للإطاحة بدليما في انقلاب ناعم.
الاقتصاد: مفتاح خسارة اليسار واحتمالية عودته
بالنظر للديناميات الاقتصادية الكامنة خلف تلك التحولات في الرأي العام بالبرازيل والأرجنتين وفنزويلا، لا يمكننا إغفال أخطاء الحكومات الإشتراكية الاقتصادية، والتي أنفقت بشكل متنامي وسريع على برامج الرفاهة لترسيخ شعبيتها بين الطبقات العاملة والوسطى البسيطة دون خطط بديلة لمواجهة أية أزمات اقتصادية مستقبلية، متصورة أن الطلب العالمي على النفط سيظل على حاله، وأن معدلات إنتاج النفط لن تتغير بدخول النفط والغاز الصخريين الأمريكيين على الخط، وكذلك معتقدة أن الاقتصاد الصيني سيظل ينمو بشكل سريع للأبد.
في المرحلة الحالية، وبالنظر للتراجع الواضح للحكومات الإشتراكية، من المتوقع أن تبدأ الحكومات الجديدة اليمينية في إصلاح هيكلي للاقتصادات اللاتينية وفق خطط ليبرالية أكثر، وأن يعود الحديث عن خطط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتوافق مع الولايات المتحدة على منظومة تجارية للقارتين، وبغض النظر عن تمرير ذلك من عدمه، إلا أنه لن يشكل حلًا سحريًا للمشكلات اللاتينية كافة، وسيمنح مستقبلًا ربما بعد عقد أو يزيد فرصة لعودة اليسار للسلطة في أمريكا اللاتينية، وهي فرصة ستحاول الولايات المتحدة بقدر الإمكان بالطبع عرقلتها بتعزيز الحكومات الحالية، وهو ما تشي به زيارة أوباما للأرجنتين مؤخرًا، والتي تعهدت بإعادة النظر في سياساتها الخارجية برئاسة ماكري، وربما التسريع بتوقيع اتفاقية تجارة حرة بشكل لا يمكن معه إلغاؤها بسهولة حال عاد المد الوردي من جديد، وهو ما يتفق مع أولويات السياسة الأمريكية الحالية الأكثر اهتمامًا بأمريكا اللاتينية كجار مباشر، والرافضة لتفوق العملاق الصيني عليها وهو القادم من قارة أخرى عبر المحيط الهادي.
لقد أكّد محللون كُثُر في السابق على أن ما جرى في أمريكا اللاتينية خلال العقد المنصرم لم يكن موجة حمراء بأي حال، ولكن مجرد مد وردي، وكان ذلك التأكيد أولًا باعتبار اللون الأحمر إشارة للشيوعية، في حين كانت الحكومات المتصاعدة إشتراكية معتدلة أكثر، مما استدعى فكرة اللون الوردي كلون أخف من الأحمر، وللإشارة ثانيًا إلى أنها لم تكن موجة طغت تمامًا على النظام السياسي الموجود في بلدان القارة المختلفة، بل مجرد مدّ هادئ تم عن طريق المنظومة الديمقراطية نفسها، وبالتالي فإن تلك الصورة الذهنية حملت في طياتها بشكل غير واع إمكانية تراجع ذلك المد، وهو ما يتجلى في حالة الجزر إن جاز القول التي نشهدها حاليًا، بيد أن ذلك مرة أخرى يؤكد على أن اليسار لم يمُت وفقما يذهب البعض، بل هو في انتظار مد آخر ستأتي به رياح الاقتصاد العالمي وديناميات المجتمعات اللاتينية حين تتغير ظروفها من جديد، وحينها سيكون عليه اتباع خطوات اقتصادية مختلفة أكثر حكمة لحماية مكتسباته السياسية.