مائة عام مرت على معاهدة مارك سايكس البريطاني وجورج بيكو الفرنسي، تلك المعاهدة، وما تلاها من اتفاقيات انطلقت من رغبة الحلفاء الأوروبيين في تقسيم غنائم المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، في ذلك العصر اصطنعت بلدان الشرق الأوسط وحدوده في أوروبا؛ فالعراق والأردن، على سبيل المثال، هما اختراعان بريطانيان، والخطوط رُسمت على خارطة بيضاء من قِبل سياسيين بريطانيين بعد الحرب العالمية الأولى، بينما أنشئت حدود المملكة العربية السعودية والكويت والعراق من قِبل موظف مدني بريطاني عام 1922، ورسمت فرنسا الحدود بين المسلمين والمسيحيين في سوريا ولبنان، ورسمت روسيا الحدود بين المسلمين والمسيحيين في أرمينيا وأذربيجان السوفيتية.
وقد اعتقدت الدول الأوروبية آنذاك أن باستطاعتها أن تغير آسيا الإسلامية في صميم وجودها السياسي، فقد جعلت الحدود المصطنعة منطقة الشرق الأوسط منطقة بلدان لم تصبح أممًا إلى يومنا هذا، لقد قدم الروس الشيوعية أساسًا للحياة في مناطق نفوذها، وقدمت بريطانيا القومية والولاء للأسر الحاكمة، أما فرنسا العلمانية فقد اتخذت الطائفية نهجًا وألقى ذلك بظلاله على النزاعات الطائفية في لبنان خلال السبعينات والثمانينات.(١)
ومع غزو العراق في 2003 وانتفاضات الربيع العربي في 2011 تفجرت كل الجروح التي تسببت فيها معاهدة سايكس-بيكو؛ من اضطرابات طائفية في العراق واستفحال أزمة الأكراد الذين اقتسمتهم ثلاث دول قومية شديدة البطش: العراق وإيران وتركيا، إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ عقود وكان أول اعتراف بريطاني رسمي بتأييد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين هو وعد بلفور في 1917 عقب تلك المعاهدة الشهيرة التي دشنت “السلام” الذي صار سلامًا ما بعده سلام على حد تعبير ديفيد فرومكين في مؤلفه الشهير الذي حمل نفس العنوان وناقش فيه نشأة الشرق الأوسط الحديث.
من أجل الخلافة
ثمة مقدمة رئيسية تنطلق منها سرديات معظم الحركات الإسلامية حين تتحدث عن التاريخ المعاصر؛ فالعالم الإسلامي كان موحدًا في كتلة واحدة تحت حكم الخلافة العثمانية، وحين بدأت الحرب العالمية الأولى تآمرت بريطانيا وفرنسا على الدولة العثمانية التي تُعتبر آخر خلافة للمسلمين، ومزقتها شر ممزق واقتسمت تركتها في معاهدة سايكس-بيكو، ونتيجة لهذه الهزيمة الساحقة التي حلت بديار الإسلام نشأت الحركات الإسلامية السياسية كجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير والحركات الجهادية بهدف تجاوز تلك المحنة وإعادة الخلافة من جديد.
تنطلق هذه المقدمة من فكرة عداء الأوروبيين المجرد للدولة العثمانية، دون الأخذ في الاعتبار أن السياسة قد تؤثر فيها قناعات القائمين عليها وميولهم الدينية والفكرية، لكن كذلك تحكمها المصالح وحسابات الربح والخسارة؛ ففكرة العداء المجرد لا تفسر دخول بريطانيا وفرنسا، الدولتين المتآمرتين، إلى جانب الدولة العثمانية ضد روسيا في حرب القرم التي انتهت بهزيمة الأخيرة، ولا تفسر كذلك سياسة بريطانيا، في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، بدعم وحدة الأراضي العثمانية في مواجهة الأطماع الروسية.
كذلك لا تفسر تلك المقدمة ماهية الحرب التي كانت تخوضها الدولة العثمانية بالتحالف مع دول أوروبية كألمانيا والنمسا اللتين يمكن درجهما تحت نفس خانة الدول الأوروبية الحاقدة على الإسلام، بل إن إمبراطورية الهابسبرج النمساوية كانت صاحبة نصيب الأسد من هذه الدول في المواجهات التاريخية مع الدولة العثمانية، والغريب أن المبالغة فيما كان عليه العالم الإسلامي من الترابط في العصر العثماني والمبالغة في مكانة سلطانه الروحية لدى المسلمين، هي عينها نفس الأوهام التي سيطرت على بعض الساسة البريطانيين ككيتشنر وزير الحربية البريطاني الذي دعم مطلب إقامة خلافة عربية في مواجهة الخلافة العثمانية، وذلك خشية أن يطلق الخليفة العثماني نداء الجهاد فيثور له مسلمو الهند وتقع الإمبراطورية البريطانية في مأزق لا تُحسد عليه!
والغريب أن تلك الأوهام لم تأخذ في الحسبان ظهور بعض الاتجاهات القومية في الولايات العربية، وتململ العرب من سياسة الاتحاد والترقي، المسيطر على الدولة العثمانية في ذلك الوقت، واضطهادهم للعرب باتباع سياسة التتريك، والوضع العام المتردي في بلاد الإسلام العاجز عن المقاومة؛ فحين أطلق الخليفة نداء الجهاد فعلاً لم يشاركه المتعاطفون إلا بالأمنيات الطيبة، وحده السيد أحمد السنوسي في ليبيا هو من لبى النداء وهاجم البريطانيين الذين التزموا الحياد الإيجابي في حربه ضد الإيطاليين من قبل وسهلوا دخول الإمدادات له من مصر، لكن السنوسي آثر أن يتجاهل اعتبارات البداهة والسياسة، وأن ينفر بأخلاق الفرسان ملبيًا نداء الخليفة العثماني في جهاد تخوضه الدولة العلية مع ألمانيا والنمسا وتخضع جيوشها لقيادة ألمانية!
ربما تكون بريطانيا في نهاية المطاف هي أنجح من جند المسلمين في تلك الحرب سواء بتحالفها مع الشريف حسين الذي شن حرب عصابات ضد القوات العثمانية عُرفت باسم الثورة العربية الكبرى، أو الجنود المصريين الذين جندهم الجنرال أللنبي ودخل بهم القدس!
الحدود دماء
نشأت الدول القومية في الشرق الأوسط الذي نعرفه بالشكل الذي أشرنا إليه سابقًا، وحاولت الأنظمة العربية في عصور مختلفة تأسيس ولاء شعوبها إما لقومية عربية أو لأسرة حاكمة، إن تلك الحدود التي بدأت على ورق في خزائن الساسة البريطانيين، رُسمت على التراب ثم تم تلقينها لبضعة أجيال في المذياع والتلفاز والجرائد والمدارس، وآمنت بذلك نخبة مثقفة متأثرة بالاتجاهات القومية الأوروبية لترتفع رأس كورش في إيران وفرعون في مصر وأوغوز خان في تركيا، وتم التأصيل لتلك الهويات في كتب ومراجع وسرد للتاريخ من تلك الوجهة القومية، لقد شكلت تلك الحدود أبعاد إدراك شعوب تلك المنطقة، حتى خرج الثائرون منهم في الانتفاضات العربية الأخيرة يرفعون الأعلام نفسها وينتمون للحدود نفسها كحدود طبيعية نشأوا عليها وأصبحت تلك الحدود التي كانت على ورق منذ مائة عام تسري اليوم في الدم.
حتى الحركات الإسلامية نفسها تأثرت بتلك التقسيمات القومية كفروع جماعة الإخوان المسلمين المختلفة والتي نشأت بالأساس كرد فعل على سقوط الخلافة وتمزيق تركتها كما أشرنا، أي أن الانتماء لتلك الحدود لم يعد قاصرًا فحسب على الشعوب التي تعلمت في مدارس النظام وعلى إعلامه، بل تلك الحركات التي تأسست أصلاً لمواجهة هذا التقسيم، وقد تكيفت معه الآن إما بشكل مرحلي حتى إقامة الخلافة المنشودة أو ببعض المراجعات الفكرية للتوفيق بين الاتجاهين القومي والإسلامي.
لكن ما بين التماهي الكامل مع القوميات أو التماهي المرحلي من بعض الحركات الإسلامية، ثمة اتجاهات ترفض إلى اليوم أي توافق أو تصالح مع تلك الحدود.
ديار الإسلام السيبرية!
صقر الخلافة، محمد الفاتح، سيف الله، خالد بن الوليد.. أسماء عضويات عديدة على منتديات إسلامية وجهادية يتلاقى عليها المسلمون من شتى أنحاء العالم، يمارس بعضهم حياته بشكل طبيعي كأقرانه، وحين يعود ليلاً يكتب عن الخلافة الضائعة ووجوب استعادتها، يدافع عن تنظيم يحارب بعيدًا عنه بآلاف الأميال ويتداول مع أقرانه من دول إسلامية مختلفة كتبًا ومجلات وإصدارات لهذا التنظيم أو ذاك وبلغ ذلك التنسيق إلى القيام بعمليات تفجير على الأرض وتداول مواد تشرح كيفية تصنيع الأسلحة والمتفجرات.
يشمل التعاون الإسلامي على الإنترنت أيضًا المشاركة في حملات دعوية وإرشادية عادية لا علاقة لها بالتنظيمات الجهادية، أو مشاركة الاهتمامات العلمية خاصة بين طلبة العلم الشرعي المنتمين لمذهب عقدي أو فقهي واحد، يأخذ بعضهم على عاتقه تحقيق وحدة الإسلام في الفضاء السيبري وإنشاء مواقع تعريفية بقضايا الأمة الإسلامية في شتى البقاع المنسية من الأرض، يمكننا أن نعتبر دليل سلطان للمواقع الإسلامية أحد أقدم البوابات الإلكترونية للمواقع الإسلامية الذي يحتوي على عشرات المواقع السياسية والدعوية والعلمية الإسلامية من أركان المعمورة، كما يحتوي على قسم خاص بمواقع تعرف بقضايا الأقليات المسلمة في العالم وما يتعرضون له من اضطهاد.
ظلت تلك الوحدة في فضائها السيبيري وكان حديث الخلافة أحلامًا وأماني عند كثير من الإسلاميين العرب ربما باستثناء إمارة المؤمنين للملا عمر زعيم طالبان، تلك الخلافة الأممية التي لم ترها إلا القاعدة ربما، ولم يكن لها نصيب كبير من بيانات حركة طالبان الرسمية التي تكاد تكون حركة محلية قومية في نطاق أفغانستان فحسب.
ثم جاء العدناني
في يونيو من عام 2014 ظهر أعضاء تنظيم داعش يقودون جرافة لهدم حدود “سايكس-بيكو” بين سوريا والعراق وأعلن أبو محمد العدناني، أحد قيادات التنظيم، إقامة دولة الخلافة ومبايعة أبي بكر البغدادي زعيم التنظيم خليفة للمسلمين، ومطالبة شتى التنظيمات الجهادية بمبايعة الخليفة لأن شرعيتهم أصبحت باطلة، لتبدأ داعش بعدها مسيرة دموية تجاه كل أعدائها لاستعادة الخلافة التي مزقتها معاهدة سايكس-بيكو.
هكذا وضعت داعش كافة شعارات الحركات الإسلامية بإزالة الحدود بين الدول الإسلامية بكل وضوح وفجاجة موضع التحقق؛ بدلاً من الحديث عن الفرد المسلم والأسرة المسلمة وسائر المراحل المطلوبة حتى أستاذية العالم، وبدلاً من مناشدة الحكومات الإسلامية لإحياء الخلافة، أو محاربة البدع وشرك القبور لتصفية النفوس لتحقيق النصر، قادت داعش الجرافة لتهدم جدارًا حدوديًا وتعلن مبايعة أحد رجالها خليفة للمسلمين ومطالبة الجميع ببيعته!
تمتلئ التقارير الغربية بوقائع سفر المسلمين في أوروبا لمناطق داعش باعتبار أن “الهجرة” إلى دولة الخلافة واجبة، حتى الفتيات المسلمات في الغرب تم إقناع بعضهن عبر الإنترنت بترك عائلاتهن والسفر إلى داعش والزواج بأفراد التنظيم.
ديار الإسلام السيبرية لم تتوان عن تأييد داعش؛ فوسائل التواصل الاجتماعي تمتلئ بحسابات مئات من المؤيدين سواء الموجودين في صفوف التنظيم أو المكتفين بالتأييد السيبيري، ينشرون موادًا إعلامية شديدة الاحترافية والاتقان تمجد أهداف التنظيم ومعاركه وخطب قادته.
أما على الأرض فتقود الحكومة العراقية مع الميليشات الشيعية المدعومة إيرانيا حربًا ضد التنظيم في العراق، ويخوض الجيش التركي حربًا ضد حزب العمال الكردستاني متحالفًا في الوقت نفسه مع أكراد العراق، وعلى نفس الجبهة تخوض إيران حربًا طائفية دعمًا للنظام العلوي في دمشق وحربًا أخرى في جنوب الجزيرة دعمًا لجماعة الحوثي في اليمن ضد السعودية والإمارات، وإذا وضعنا الاحتلال الإسرائيلي الذي تحل ذكرى نكبتنا به هذا الشهر أيضًا، سيبدو لنا الشرق الأوسط كجدارية ضخمة للفوضى بعد مائة عام من معاهدة ظنت أنها ستجلب سلامًا نهائيًا بعد حرب عظمى ستنهي كل الحروب.
………..
(١) سلام ما بعده سلام – ديفيد فرومكين، ترجمة أسعد كامل صـ15