الحلم الكردي بعد انتهاء سايكس بيكو

يعيد التاريخ الكردي نفسه من جديد وبقرار مصيري مختلف هذه المرة لیسلط الضوء على الحلم الأزلي الذي قد ضحي به ضريبة صراعات الإمبراطوريات السابقة، مولدًا ثورة من الغضب العارم بجميع أجزاء كردستان الكبير بعد قرن مرير من التقسيمات المتكررة في ظل وعي حضاري غير مسبوق، وإرادة جماهيرية لا تقبل التفاوض على المستقبل الكردي الذي لطالما حلم أجياله برؤيته بأرضية شاملة موحدة.
ظهرت بوادر الأزمة الكردية بشكل واضح عام 1514م في معركة جالديران التي وقعت بين الدولة الصفوية والعثمانية مخلفة نتائج غير حاسمة أدت إلى بعثرة الإمارات الكردية المختلفة بمراحل متعاقبة ما خلقت اتفاقيات تتابعية مدججة بالتناقضات كان هدفها توحيد الجهود لتقسيم كردستان وشعبها بشكل مجحف، وبسبب ذلك تشعبت المشكلة الكردية يومًا بعد آخر، ولاسيما بعد بدء انتشار الأفكار القومية في الشرق، وبالأخص منذ بداية القرن التاسع عشر.
حيث بدأت الدول الأوروبية الدخول إلى معترك اللعبة فتحتك بكردستان عن طريق الرحالة الأجانب والإرساليات التبشيرية، وكذلك عن طريق بعض القنصليات وأهمها البريطانية والروسية والفرنسية ثم الأمريكية، وصولاً إلى الانفجار السياسي بعقد اتفاقية سايكس بيكو السرية عام 1916 والتي حطمت الآمال الكردية مولدةً 100 عام جديدة من الانتظار بفضل حروب الدول الكبرى، والتي رصدت معطيات هزيمة ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، ما سارع وزراء الخارجية الروسية والبريطانية والفرنسية بالمباحثات حول الوضع القادم للشرق الأوسط، ولسوء الحظ كانت كردستان هي اللقمة الأشهى للابتلاع فتم تقسيمها بلا مبالاة بذلك تم تعميق جرح الشعب الكردي بحق تقرير المصير، ثم نقل القضية الكردية نوعيًا من المنظور الإقليمي في الشرق إلى المنظور الدولي ثم العالمي فيما بعد.
محاولات كردية حثيثة سعت إلى إعلان الصوت المدفون منذ زمن بعيد وبدأت بشدة في معاهدة سيفر عام 1920م، فاعتبرت الشرارة الأقوى آنذاك في تاريخ الدولة الكردية الكبيرة، وذلك بنجاح شريف باشا بتدويل القضية الكردية رسميًا، لكن هذا النجاح لم ير النور طويلاً بفضل سياسة مصطفى كمال أتاتورك باستغلال الصراع السياسي وقبر القضية الكردية ثم إقناع الحلفاء بأن المشكلة الكردية داخلية ويمكن حلها بسهولة مع إلغاء جميع الاتفاقيات القديمة المتجسدة بحكومة الدولة العثمانية، وبذلك فشلت معاهدة سيفر ومؤتمر لندن وتوقيع معاهدة لوزان، والنتيجة تخليد ضربة قاسية للكرد واستمرار سيناريو الإقصاء والقمع الجماهيري، معلنةً جرس الأمر الواقع بتوزيع كردستان الكبير عمليًا وقانونيًا إلى أربع دول بين تركيا وإيران والعراق وسوريا.
منذ ذلك الحين تعقدت أوراق المعضلة الكردية مع بدأ عمليات التطهير العرقي وتذويب القومية في تركيا والتهميش القسري وسلب الحقوق في إيران، وإبادة الشعب الكردي واتهامه بالعمالة في العراق، وحرمان الهوية الكردية واقتطاع الأراضي النفطية والزراعية في سوريا، فاستمر هذا العهد لمدة طويلة تحت وطأة حكم الدول القومية التي توزع عليها الكرد، ولكن مع بقاء أمل بناء كردستان الكبير عند الشعب الكردي، والذي ساعد على رفع الروح الكردية ثم تشكيل حركات تحررية في السنوات الأخيرة الماضية كانت بمثابة وسيلة ضغط وتذكير بحق الشعوب بتقرير مصيرها مهما طال الزمن.
وهذا ما يبدو جليًا بالمكاسب التي حققها الكرد في العراق المتمثل بالحكم الذاتي كإقليم مستقل سياسيًا ومرتبط بشكل جزئي إداريًا بالعراق، وذهابًا إلى التیار الكردي المعارض الذي يمضي نحو فرض الإقليم الكردي في سوريا كلغة تفاوض لإنهاء الأزمة السورية ، وانتقالاً إلى الحركات القومية في تركيا والتي أجبرت الحكومة الحالية بالسماح للكرد للدخول كطرف سياسي في إدارة الدولة بغض النظر عن الإشكاليات السائدة بين الطرفين، وصولاً إلى دور الكرد في إيران والذي ما زال في قمع مكثف ويحاول التنفس السري لتحقيق الطموح مؤثرًا بالرأي العام الداخلي.
يقبل الكرد اليوم على مرحلة انتقالية مهمة بعد انتهاء القرن الأسود في تاريخهم، ساعين إلى استثمار الفرصة للحصول على حكم فيدرالي ذاتي في سبيل تأسيس كردستان الكبير مستقبلاً، وهذا ما يدفع السياسيين الكرد بالإصرار على عدم تكرار سايكس بيكو ثانية، محاولين بدورهم تشفيف الملامح الضبابية في المنطقة دون التنازل عن الحق الشرعي بالاستقلال، وهذا ما يدفع ببذل مزيد من الطاقات نحو تكوين التحالفات السياسية وتوصيل المصالح إلى نقطة مشتركة ترضي الأطراف، مع احتمالية دخول الكرد كحليف استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط الجديد، وبداية منظومة مرنة من المتغيرات السياسية من شأنها قلب التوقعات وتصدير سيناريو غريب الأبعاد.