ه”لقد احتوى الاتفاق الذي أرسلته المفوضية الأوروبية إلى تركيا على 72 شرطًا، وهي شروط لم تستوفها تركيا كلها حتى الآن، ولذلك فقد أوقفت الإجراءات من أجل رفع التأشير الأوروبية -الشنغن- للمواطنين الأتراك،” هكذا تحدث رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز في مؤتمر صحافي قبل أيام متحدثًا لوزير شؤون الاتحاد الأوروبي والمفاوض التركي الرئيسي فولكان بوزكِر، معلنًا أن الإجراءات لن تبدأ مجددًا إلا حين تتخذ تركيا خطوات حيال البنود المتأخرة.
خمسة بنود بالتحديد لم تستوفها تركيا وفقما أشارت المفوضية الأوروبية، أبرزها وأكثرها جدلًا الآن ما يتعلق بتعديل قانون مكافحة الإرهاب التركي، والذي تعتبره المفوضية أوسع من اللازم في تعريفه للإرهاب، بالإضافة لإصلاح عيوب رصدتها أوروبا في قانون أمن المعلومات التركي، والتعاون مع وكالة الشرطة الأوروبية “يوروݒول،” وتطبيق توصيات “مجموعة الدول المناهضة للفساد” GRECO، والتعاون القضائي مع كافة الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي.
بيد أن التجاوب مع التوصية الأوروبية بخصوص قانون الإرهاب لم يكن إيجابيًا من الجانب التركي، إذ رفضت أنقرة تغيير القانون واعتبرته تدخلًا غير مناسب بالنظر للمخاطر الإرهابية المختلفة التي تتعامل معها تركيا هذه الأيام، بما في ذلك الحرب الدائرة مع حزب العمال الكردستاني، والدور الذي تقوم به في مواجهة عمليات داعش على أراضيها ومحاربتها في سوريا والعراق كجزء من التحالف الغربي، وهي مهام ترى بروكسل أن القانون يتسع لها أكثر مما هو ضروري، وأن القانون يستخدم فعليًا لقمع بعض الآراء المعارضة.
“ليس ممكنًا أبدًا بالنسبة لنا أن نقبل بتغيير قانون مكافحة الإرهاب، فهو متوافق بالفعل مع المعايير الأوروبية، وفي الظروف التي نمر بها الآن حيث تجري عمليات شديدة الأهمية ضد الإرهاب أدت لمقتل 450 من عناصر الأمن حتى الآن، تستحيل سياسيًا مناقشة قانون الإرهاب الخاص بنا،” هكذا رد الوزير التركي فولكان بوزكر على التوصيات الأوروبية، “فلتمضوا في طريقكم وسنمضي نحن إذن في طريقنا.”
هي نفس الرسالة التي أعلنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السادس من مايو إبان إعلان استقالة رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو إثر خلافات بينهما يرجح محللون أن يكون بعضها بخصوص تطبيق الاتفاق التركي الأوروبي، “يقول الاتحاد الأوروبي أننا سنغير قانون مكافحة الإرهاب الخاص بنا في مقابل رفع التأشيرة… في نفس الوقت الذي يسمح فيه للإرهابيين بتدشين الخيم ويمنحهم الفرص باسم الديمقراطية،” هكذا تحدث أردوغان مشيرًا لقيام حزب العمال الكردستاني بوضع خيم أمام البرلمان الأوروبي للدعاية، “عُذرًا… لكن طريقكم ولنا طريقنا.”
الكرة في ملعب مَن؟
بإعلانه رفض رفع التأشيرة حتى يتم العمل بالتوصيات التي أعلنتها المفوضية الأوروبية مؤخرًا، يكون الاتحاد الأوروبي قد ألقى بالكرة في ملعب تركيا، لا سيما وأنه يعرف أن رفع التأشيرة الأوروبية لمواطني تركيا هي هدية يحتاجها أردوغان بقوة نظرًا للتأثير الإيجابي الذي ستحدثه في معدلات رضا الرأي العام عن حزب العدالة والتنمية، والتي ربما تتيح له إجراء انتخابات مبكرة يحصد بها الأغلبية المطلقة التي يريدها لكتابة دستور جديد كما ذهب بعض المحللين.
غير أن معارضة أردوغان والحكومة التركية لتعديل قوانين الإرهاب صراحة، والتهديد الضمني بإمكانية العدول عن الاتفاق بالكلية بما يعنيه ذلك من عودة تدفق اللاجئين ناحية القارة الأوروبية، تعني أن الكرة أيضًا في ملعب بروكسل، والتي تحتاج بشكل مُلح للاتفاق بسبب التهديد الاجتماعي الواضح الذي تشكله أزمة اللاجئين، وبالأخص على حكومة المستشارة الألمانية أنغلا مركل التي تلقت انتقادات من حلفائها السياسيين في بداية الأزمة حين أعلنت فتح الباب على مصراعيه للاجئين، قبل أن تعدل عن ذلك التوجه وتنتهج سياسة محافظة أكثر خوفًا من رفع أسهم اليمين المتطرف.
في الحقيقة يُعَد الاتفاق مثمرًا لأوروبا بالفعل بالنظر لنتائجه منذ بداية العمل به، فكما صرح رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، فإن أعداد اللاجئين المتجهين لأوروبا قد انخفضت من 7000 يوميًا تقريبًا في أكتوبر الماضي، إلى ستين يوميًا فقط منذ تطبيق الاتفاق، مؤكدًا على جاهزية الاتحاد الأوروبي لبذل كافة الجهود لضمان الاتفاق، ومحذرًا تركيا بشكل واضح من استغلاله كلعبة سياسية، “إنني أثق تمامًا بمستقبل التعاون بيننا طالما وافقت تركيا على اللعب وفق القواعد، لا اللعب بالقواعد.”
هي رسالة يحاول بها توسك احتواء بعض الغاضبين في أوروبا من فكرة رفع التأشيرة للأتراك، والذين يرونه نتاجًا للابتزاز التركي ليس إلا باستخدام ورقة اللاجئين وفكرة “الطريق إلى أوروبا” التي لعبت بها تركيا سابقًا، في حين لا يبدو لهؤلاء أن تركيا جدية بالفعل في الالتزام بمعايير الاتحاد الأوروبي خاصة في السنوات الأخيرة، والتي رصدت فيها تقارير تحليل الأوضاع التركية الصادرة من بروكسل تراجعًا في الحريات والحقوق وفق المعايير الأوروبية.
تكررت الرسالة من رئيس المفوضية الأوروبية جيان كلود يانكر، والذي قال صراحة أن عدم الوفاء بالشروط سيعني سقوط الاتفاق ووجه اللوم بشكل واضح للرئيس التركي، “إذا ما أراد أردوغان أن يسلك تلك الإستراتيجية الخاصة بها، فعليه إذن أن يجيب على أسئلة الشعب التركي حين يسألونه لماذا تم منعهم من حرية السفر بدون تأشيرة لأوروبا… ستكون تلك حينئذ مشكلته لا مشكلتي.”
في أنقرة لا تزال الغالبية على قناعة بأن أوروبا بحاجة للاتفاق أكثر مما يبدو، وهو ما ينعكس في ثقة الموقف التركي حتى الآن وتمسكه بعدم تعديل قانون الإرهاب، بل والتهديد بإسقاط الاتفاق، وليس أدل على ذلك من التغريدة الصريحة التي نشرها على تويتر بورهان كوزو، أحد مستشاري أردوغان والنائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية قبل أيام، حين قال بأنه بانتظار فتح البرلمان الأوروبي لباب المناقشة حيال رفع التأشيرة، وأنه “إن اتخذ القرار الخاطئ فإننا سنعيد اللاجئين إلى أوروبا مرة أخرى.”
من سيستطيع الضغط للنهاية للحصول على ما يريد هو أمر ستكشف عنه الأسابيع القادمة من الدبلوماسية التركية الأوروبية في الغرف المغلقة، والتصريحات الصادرة في أنقرة وبروكسل، غير أن الواضح حتى الآن هو أن كل طرف متمسك برفع سقفه إلى النهاية إيمانًا منه بأن الطرف الآخر سيقدم التنازل في الأخير نتيجة احتياجه للاتفاق أكثر منه، فالأوروبيون يعلمون أهمية رفع التأشيرة وتأثيرها على الرأي العام التركي، والأتراك يعلمون كذلك أن ملف اللاجئين في أوروبا مسألة حياة أو موت.
يظل مربط الفرس هو أن سقوط الاتفاق يعني أزمة لاجئين جديدة في أوروبا، في حين سيشكل سقوطه في تركيا ضغطًا على الحكومة التي وعدت برفع التأشيرة ليس أكثر، والتي ستظل تمتلك هامشًا للمناورة من التصعيد في الخطاب ضد الاتحاد الأوروبي، والذي يلقى قبولًا بين الشرائح المحافظة، وستتحرر نسبيًا من أعباء استقبال اللاجئين التي بدأت في تحملها مع تطبيق الاتفاق، وهو الثمن المقدم أصلًا مقابل الحصول على التأشيرة، ولذا فإن تراجع الموقف الأوروبي أمر راجح أكثر، بيد أن ذلك لا يُقصي سقوط الاتفاق بالكلية كاحتمال ممكن جدًا.