ترجمة وتحرير نون بوست
قليلون هم الأشخاص الذين يتلقون نقدًا وسخرية في الشرق الأوسط كتلك التي يتلقاها السير مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو حتى يومنا هذا؛ السير مارك سايكس، هو دبلوماسي بريطاني، خاض بذات الطريق الذي سلكه توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب)، حيث قضى خدمته في حرب البوير، وورث البارونية عن والده، كما وحصل على مقعد للمحافظين في البرلمان البريطاني، ولكنه توفي شابًا، في الـ39 من عمره، خلال وباء الإنفلونزا لعام 1919، أما بيكو، فكان محام ودبلوماسي فرنسي، خاض حياة طويلة ولكن غامضة، لا سيَما ضمن المراكز الخفية من السلطة، حتى وفاته في عام 1950.
لكن إرث سايكس وبيكو لا زال مستمرًا جرّاء الاتفاق السري الذي أُنيط بهما صياغته خلال الحرب العالمية الأولى، لتقسيم كتلة الأرض الواسعة التابعة للإمبراطورية العثمانية إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية، حيث أطلقت اتفاقية سايكس بيكو، عملية استمرت لتسع سنوات، إلى جانب صفقات وإعلانات ومعاهدات أخرى، خُلقت على أثرها الدول الحديثة في الشرق الأوسط من الذبيحة العثمانية، وعلى الرغم من أن الحدود الجديدة للشرق الأوسط لم تحمل في نهاية المطاف شبهًا كبيرًا بخريطة سايكس بيكو الأصلية، إلا أنه لا يزال يُنظر إلى هذه الخريطة باعتبارها السبب الجذري لمعظم أحداث المنطقة منذ ذلك الحين.
النظام القائم منذ مئة سنة ماضية قد انهار وليس من الواضح بعد شكل النظام الجديد الذي سيحل مكانه
“قُتل مئات الآلاف بسبب سايكس بيكو والمشاكل التي أوجدتها”، قال لي نوزاد هادي مولود، محافظ محافظة أربيل العراقية، عندما قابلته في ربيع هذا العام، وتابع: “لقد غيّرت مجرى التاريخ والطبيعة”.
صادف يوم 16 مايو المنصرم مناسبة مرور الذكرى المئوية على اتفاق سايكس بيكو، حيث مضى هذا اليوم وسط التساؤلات حول ما إذا كان يمكن للحدود التي رسمتها أن تبقى على قيد الحياة في ظل الغضب الحالي الذي يجتاح المنطقة.
“النظام القائم منذ مئة سنة ماضية قد انهار”، أعلن برهم صالح، نائب رئيس الوزراء العراقي السابق، في منتدى السليمانية في كردستان العراق، في مارس المنصرم، وتابع: “ليس من الواضح بعد شكل النظام الجديد الذي سيحل مكانه”.
لطالما كان شكل التقسيم الإمبريالي والاستعماري للشرق الأوسط تحت التهديد والخطر، كون الخريطة التي تم رسمها للمنطقة تجاهلت الهويات المحلية والميول السياسية التي تقطنها، وتم ترسيم الحدود بخطوط مستقيمة وتعسفية؛ ففي لقاء مع رئيس الوزراء البريطاني هربرت هنري اسكويث، في عام 1915، قال سايكس عبارته الشهيرة: “أود أن رسم خطًا من ‘العين’ في عكا إلى ‘الكاف’ في كركوك”، منزلقًا بإصبعه عبر الخريطة، التي كانت مفتوحة على طاولة في 10 داوننغ ستريت، فوق ما أصبح اليوم المدينة على ساحل إسرائيل على البحر المتوسط وحتى الجبال في شمالي العراق.
“اتفاقية سايكس بيكو كانت خطأ مؤكدًا”، قال لي زيكري موسى، مستشار رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، وتابع: “لقد كانت كالزواج القسري، وكان محكومًا عليها بالفشل منذ البداية، إنها اتفاقية لاأخلاقية، لأنها قررت مستقبل الشعوب دون أن تستفتيهم”.
رغم جميع التحديات التي جابهتها، ما زالت فرضية جميع القوى الخارجية تقوم على الحفاظ على حدود سايكس بيكو، فجميع القوى العالمية ضخت مليارات الدولارات لتكريس الحدود القائمة، رغم تنافسها على نتائج سياسية مختلفة
على مدى قرن كامل من الزمان، انعكس رد الفعل المرير على سايكس بيكو بصورة بزوغ أيديولوجيات سياسية قوية تقوم على نزعة القومية الواحدة التي تغطي العالم العربي بأكلمه، كالناصرية في مصر، وحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق وسوريا، كما أنه ولمدة ثلاث سنوات تقريبًا، حاولت مصر وسوريا، رغم وقوعهما في قارتين مختلفتين، تجربة الوحدة العربية من خلال الاندماج في الجمهورية العربية المتحدة، وهي التجربة التي تقوضت إثر انقلاب عام 1961 في دمشق.
ومن صور تحدي الاتفاقية أيضًا، سعي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لهدم الحدود القديمة؛ فبعد اجتياحه لسوريا والعراق في عام 2014، أعلن خليفة التنظيم المزعوم أبو بكر البغدادي قائلًا: “لن يتوقف هذا التقدم المبارك حتى ندق المسمار الأخير في نعش مؤامرة سايكس بيكو”.
رغم جميع التحديات التي جابهت الحدود المرسّمة، ما زالت فرضية السياسة الأميركية، وجميع القوى الخارجية الأخرى أيضًا، تقوم اليوم على تحقيق الاستقرار في العراق المنقسم، إنهاء الحرب الأهلية المزرية في سوريا، ومواجهة داعش، من خلال الحفاظ على حدود سايكس بيكو؛ فمنذ أغسطس 2014، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 11 مليون دولار يوميًا في العمليات العسكرية، بما في ذلك حوالي 9000 ضربة جوية على العراق وأكثر من 5000 ضربة في سوريا، كما تعهدت واشنطن بدفع مبلغ 700 مليون دولار في عام 2016 لمعالجة أسوأ أزمة لاجئين إنسانية يشهدها العالم، والتي امتدت خارج سوريا عبر البلدان والقارات، أما بقية العالم، ابتداءًا من أوروبا مرورًا بمشيخات الخليج وحتى روسيا وإيران، فجميعهم ضخوا مليارات الدولارات لتكريس الحدود القائمة، رغم تنافسهم على نتائج سياسية مختلفة.
في الأشهر الأخيرة التي تقضيها إدارته في المكتب، كثّفت إدارة أوباما من تطبيق إستراتيجيتها السابقة؛ فمنذ 8 أبريل، قام كبار المسؤولين الأمريكيين، كنائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، وزير الخارجية جون كيري، وزير الدفاع أشتون كارتر، بزيارات مفاجئة إلى بغداد لدعم الحكومة العراقية التي تطرد بهشاشتها، والجدير بالذكر هنا بأن الأزمة السياسية التي تشهدها بغداد تسبق حربها مع داعش، ومؤخرًا، تحولت المناقشات التي جرت في البرلمان العراقي إلى شجارات وتراشق بعبوات المياه، كما نظم عشرات من المشرعين اعتصامًا هذا الشهر للمطالبة باستقالة رئيس البرلمان.
فضلًا عما تقدم، خرج عشرات الآلاف في عدة محافظات عراقية لعدة أشهر للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية ووضع حد للفساد المستشري، وفي مطلع الشهر الجاري، اخترق المتظاهرون الجدران المحصنة للمنطقة الخضراء في بغداد، كما لو كانوا يسقطون جدار برلين، واقتحموا البرلمان، وحينها ذكرت وكالة رويترز بأن المتظاهرين رفعوا الأعلام ورقصوا في الممرات، وهتفوا بعبارات مناهضة للنواب الفارين، الذين فشلوا مرة أخرى بتحقيق النصاب القانوني للتصويت على حكومة جديدة من التكنوقراط لتحل محل الحكومة الحالية التي تم اختيارها وفقًا لنظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وفي ذلك اليوم، أعلن العراق حالة الطوارئ، أغلق جميع الطرق المؤدية إلى العاصمة، كما تم إغلاق مكتب السفارة الأمريكية ومكتب بعثة الأمم المتحدة وسفارات أخرى داخل المنطقة الخضراء لتأمينها.
“الوقت ليس مناسبًا الآن للمشاجرات والمشاحنات الحكومية”، قال الرئيس أوباما في وقت سابق من هذا الشهر، كما صرّح البيت الأبيض بأن زيارة بايدن للعراق تهدف “للتركيز على تشجيع الوحدة الوطنية العراقية”، ولكن مع ذلك، يخاطر رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، بتحول موقفه بشكل متزايد إلى حالة من الدروان حول النفس بدون هدف أو نتيجة.
بالتوازي مع ذلك، كثّفت الولايات المتحدة من وجودها العسكري في العراق؛ ففي 18 أبريل، أعلن الرئيس أوباما عن نشر طائرات الأباتشي، الصواريخ المحمولة المتطورة، و200 جندي إضافي إلى العراق، ليصبح مجموع القوات الأمريكية هناك حوالي خمسة آلاف جندي، كما شهدت الغارات الجوية في العراق زيادة تصل إلى 60% هذا العام مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.
على صعيد آخر، يزداد الوضع سوءًا في سوريا بالتزامن مع محاولة الولايات المتحدة لزيادة دورها الفاعل هناك أيضًا؛ فمحادثات السلام التي انطلقت في يناير لم تلق أي نجاح يذكر، كما انهار اتفاق وقف إطلاق النار الهش الذي شهدته البلاد لفترة قصيرة مع انفجار القتال حول وضمن مدينة حلب، كبرى المدن السورية والعاصمة التجارية السابقة لها، وردًا على ذلك، طلب أوباما نشر 250 عنصرًا من القوات الخاصة الأميركية في سوريا لتعزيز العناصر الـ50 الموجودين هناك أساسًا، فيما يعد أكبر توسع في دور الولايات المتحدة منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011.
باشرت المنطقة اليوم بالتمحيص بعصبية وراء حالة الفوضى السياسية التي غمرتها والتحديات التي فرضها تنظيم داعش؛ فثمة خوف متجذر عميقًا بأن الحالة الواهنة الحالية التي أصبحت عليها العراق وسوريا يتعذر معها استمرارهما ضمن شكلهما الحالي
تزعم الولايات المتحدة بأنها حققت تقدمًا في الحملة العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية؛ فمنذ نوفمبر المنصرم، فقدت شبه الخلافة الإسلامية 40% من أراضيها في العراق و10% من أراضيها في سوريا، فضلًا عن عشرات الآلاف من المقاتلين، أطنان من الأسلحة، ومئات الملايين من الدولارات المخزنة في المستودعات التي تعرضت للقصف من قِبل قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة، كما صرّح المسؤولون في البنتاغون بأن عدد المجندين الجدد المنضمين إلى داعش في العراق وسوريا انخفض من 1500 شهريًا في العام الماضي إلى 200 في الآونة الحالية؛ أي بالمجمل، مقاتلو داعش يقتلون بمعدل أسرع مما يستطيعون تعويضه، وللمرة الأولى، لم تعد داعش ذاك العدو الذي لا يقهر.
باشرت المنطقة اليوم بالتمحيص بعصبية وراء حالة الفوضى السياسية التي غمرتها والتحديات التي فرضها تنظيم داعش؛ فثمة خوف متجذر عميقًا بأن الحالة الواهنة الحالية التي أصبحت عليها العراق وسوريا يتعذر معها استمرارهما ضمن شكلهما الحالي، بغض النظر عمّا إذا تمت هزيمة داعش من عدمها، وأضحى هذا الأمر موضوع النقاشات السياسية، تعليقات وسائل الإعلام، ثرثرة المقاهي، والمؤتمرات الأكاديمية.
“هل بوسع العراق أن ترجع إلى ما كانت عليه قبل هجوم داعش؟ لا. لا أعتقد ذلك” قال جان كيوبس، ممثل الأمم المتحدة في العراق ضمن منتدى السليمانية، وتابع: “على الناس أن تفهم أنه كان ثمة خطأ ما حينما أمكن لداعش أن تكتسح البلد، وأن خطأ ما قائم حينما تحرر جزء من هذه الأرض، ولكن الناس يعلمون بأن الأمور ليست صحيحة بما يكفي بعد لدرجة تدفعهم إلى العودة”.
يمكننا ملاحظة التحول الذي طغى على النقاش حول مستقبل العراق منذ أن كتب السيناتور جو بايدن مقالته المثيرة للجدل في صحيفة التايمز في عام 2006، حينما اقترح تأسيس ثلاث مناطق تتمتع بالحكم الذاتي، للشيعة والسنة وللأكراد، وبعد 13 عامًا من الحرب، يبدو نسيج الأمة الفتية العراقية رثًا للغاية؛ فالعراق يعيش ضمن صيغته الحالية منذ أقل من قرن من الزمان، حيث حكم صدام حسين البلاد لمدة تناهز حوالي ربع وجودها، ومنذ الإطاحة به، لم تستطع بغداد أن تبتكر صيغة سياسية تضمن استمرار استثمار جماهيرها المتنوعة المشارب في إنقاذ البلاد بوضعها الحالي؛ فالاقتصاد النفطي للبلاد، التي تعد من أكبر منتجي النفط في العالم، تهاوى تحت وقع مزيج من الشلل الناجم عن سوء الإدارة والإسراف الصارخ، تضخم البيروقراطية الفائضة بأفراد غير مؤهلين، تصاعد الجشع، الزيادة في الميزانية البالغة 500% منذ عام 2004، وتراجع أسعار النفط، وجميع ذلك أدى إلى تداعي المشاعر القومية العراقية، فالعراقيون يفخرون بحضارة أراضيهم القديمة، ولكن صلتهم مع وضعهم وواقعهم الحالي هي التي تشكل التحدي الوجودي الذي يقف بوجههم.
بعد 13 عامًا من الحرب، يبدو نسيج الأمة الفتية العراقية رثًا للغاية
أما في سوريا، فقد أسفر الدمار المادي والبشري الهائل الذي مُنيت به البلاد عن تقويض أي فرص لقيام دولة قابلة للحياة على مدى السنوات القادمة؛ فأكثر من نصف السكان يعيشون على المساعدات الإنسانية، نحو 3 ملايين طفل محرمون من الذهاب إلى المدارس، وبالإضافة إلى عدد القتلى الخيالي، أصيب ما لا يقل عن مليون ونصف المليون شخصًا بإصابات جسيمة أو تعطلوا بشكل دائم عن العمل، ناهيك عن انخفاض متوسط العمر المتوقع في البلاد بمعدل 15 عامًا منذ ابتدار الحرب الأهلية هناك في عام 2011، زد على ذلك فرار خُمس المواطنين منها تمامًا بدون أي حافز يشجعهم على العودة، وأخيرًا الدمار الاقتصادي الذي يقدر مبدئيًا بـ250 مليار دولار وما زال يطرد كل يوم.
بعد قرن على سايكس بيكو، جردت الأزمات المزدوجة في سوريا والعراق الدولتان من القشرة الخارجية الهشة التي فرضها الأوروبيون وكشفت الفراغ القابع تحتها، حيث تم حكم العراق من قِبل بريطانيا، وسوريا من قِبل فرنسا، بدون أي محاولة لتنمية البلدين، قبل أن تمنحا استقلالهما، وحينها حلّقت الأعلام الجديدة، بُنيت القصور الفخمة للقادة، تم تشجيع النخب التجارية، وتدريب رجال العسكر، ولكن بقيت المؤسسات العامة والجمعيات الأهلية ضعيفة للغاية في كلا البلدين، فضلًا عن حكمهما باقتصادات مشبوهة وقوانين جائرة.
عصفت الانقلابات وعدم الاستقرار بكل من سوريا والعراق، حيث شهدت سوريا ما بين عامي 1949 و 1970 حوالي 20 انقلابًا، فشل بعضها ولكن نجح معظمها، أي بمعدل انقلاب واحد في السنة، وذلك حتى تسلمت سلالة الأسد السلطة في البلاد بانقلاب آخر، وبشكل عام استطاع الحكام في كلا البلدين إبقاء البلاد متماسكة من خلال حكم القمع والخوف.
بعد قرن على سايكس بيكو، جردت الأزمات المزدوجة في سوريا والعراق الدولتان من القشرة الخارجية الهشة التي فرضها الأوروبيون وكشفت الفراغ القابع تحتها
حاول العالم الخارجي، بقيادة الولايات المتحدة، العودة للمساعدة في إنقاذ كلا البلدين، ولكن بعد تدخلها لمدة ثماني سنوات، لا تبدو واشنطن متحمسة لتحمل المسؤولية مرة أخرى عن العواقب السياسية، “علينا أن نكون متواضعين حول حقيقة قدرتنا على التأثير في مجرى الأحداث”، قال لي بريت ماكجورك، الرجل المكلف من أوباما لقيادة التحالف ضد داعش، في واشنطن الشهر الماضي، وتابع: “علينا أن نكون حذرين للغاية قبل أن نفرط في استثماراتنا، علينا تحديد مصالحنا بشكل ضيق للغاية، ونركز بقوة على تحقيق تلك المصالح”.
خلال حديثه في منتدى السليمانية، تنبأ ماكجورك أيضًا بالمخاطر الأخرى التي تقف في وجه تقويض آفاق إعادة تشكيل الدولة العراقية، حيث روى حكاية عن قائد عراقي حث أحد المواطنين اليزيديين على عدم التركيز على الانتقام بعد ذبح داعش لشعبه في جبال سنجار في عام 2014، هذه المذبحة التي كانت السبب، جنبًا إلى جنب مع استرقاق مئات النساء اليزيدية، لابتدار الضربات الجوية الأمريكية في بداية المطاف، وحينها أشار ماكجورك إلى إجابة اليزيدي بقوله: “أخذوا زوجتي، ابنتي، وأختي، جميع ما تبقى لي هو الانتقام”، وتابع ماكجورك محذرًا:” هذا أمر ستتعامل معه العراق لعقود قادمة من الزمن”.
في سوريا، يزيد عدد القتلى عن العراق بأضعاف مضاعفة، كما لا يقل الانقسام الطائفي والعرقي الذي تعاني منه البلاد عما تعانيه العراق، واليوم لا يتمثل الاختبار الصعب الذي يجابهه العراق وسوريا بمجرد إيجاد طريقة لإعادة تأسيس دولة قابلة للحياة أكثر من الصيغ المختلفة التي تم تجريبها منذ بدء عملية سايكس بيكو، بل بتعبئة جهود الإرادة الشعبية أيضًا في خضم البيئة الحالية.
“يمكنك أن تحرر، يمكنك أن تسيطر، ويمكنك أن تبني” قال سلمان الجميلي، وزير التخطيط العراقي، في منتدى السليمانية الشهر الماضي، وتابع: “ولكن قد لا تكون قادرًا على تحقيق الاستمرارية”.
إعادة تشكيل العراق أو سوريا لكيانات جديدة قد تكون عملية معقدة، أو حتى أكثر دموية، من الحروب الحالية التي تشهدها الدولتان
على صعيد آخر، تحمل البدائل السياسية الأخرى إشكاليات عديدة أيضًا في طياتها؛ فإعادة تشكيل العراق أو سوريا لكيانات جديدة قد تكون عملية معقدة، أو حتى أكثر دموية، من الحروب الحالية التي تشهدها الدولتان، ولنا أسوة في انقسام الهند، يوغسلافيا، السودان، تلك الأحداث التي ولّدت هجرات ضخمة، دورات من التطهير العرقي، ونزاعات على الموارد والأراضي، مما أثار بدوره دورة صراعات جديدة كاملة، لا تزال دون حل حتى بعد مرور سنوات على الانقسام.
“بدأت الحضارة هنا في القرن السادس قبل الميلاد”، قال وزير الخارجية العراقي ابراهيم الجعفري في منتدى السليمانية، وتابع: “نحن لا نريد عراقًا دون طوائف أو قوميات، بل نسعى لعراق دون تطرف، نود أن يكون العراق كباقة مشكّلة من الزهور”، ولكن تصاعد الفوضى يومًا بعد يوم في بغداد، يؤكد على أن تلك التصريحات هي مجرد أوهام فارغة.
“لا نعرف ما الذي سيؤول إليه مصير السكان في هذه المنطقة” قال لي صالح، نائب رئيس الوزراء العراقي، هذا الأسبوع، وأضاف: “ولكن، بالتأكيد، في هذه المرة، وعلى عكس ما حصل قبل قرن من الزمن عندما رسم سايكس وبيكو الخطوط في الرمال، ستلعب شعوب المنطقة دورًا كبيرًا في تشكيل النظام الجديد”، ولكن المشكلة، سواء بالنسبة لشعوب المنطقة أو للعالم الخارجي، تكمن في أن الجميع لا يعرفون سوى الأمور التي لا يرغبون بها، وما زال يتوجب عليهم معرفة نوع الأنظمة السياسية ونوع الحدود القابلة لأن تحيا ضمن المنطقة.
المصدر: نيويوركر