“إن فرنسا وبريطانيا العظمى مستعدتان أن تعترفا وتحميا دولة عربية برئاسة رئيس عربي في المنطقتين “أ” (داخلية سوريا) و”ب” (داخلية العراق) المبينة في الخريطة الملحقة بهذا الاتفاق، يكون لفرنسا في منطقة (أ) ولإنجلترا في منطقة (ب) حق الأولوية في المشروعات والقروض المحلية، وتنفرد فرنسا في منطقة (أ) وإنجلترا في منطقة (ب) بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية.
يباح لفرنسا في المنطقة الزرقاء (سوريا الساحلية) ولإنجلترا في المنطقة الحمراء (منطقة البصرة) إنشاء ما ترغبان به من شكل الحكم مباشرة أو بالواسطة أو من المراقبة، بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثالثة: تنشأ إدارة دولية في المنطقة السمراء (فلسطين)، يعين شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة”.
بهذه المواد الثلاث الأولى من اتفاقية “سايكس بيكو”، حددت القوى الاستعمارية الكبرى في ذلك الحين مصير المشرق العربي، ومنطقة الشرق الأوسط الكبير بأكملها، الممتدة من آسيا الوسطى شرقًا، وحتى المغرب العربي غربًا.
تم تكريس الأوضاع التي أطَّرَتْها الاتفاقية، من خلال اتفاقية أخرى هي اتفاقية “سيفر”، ثم في مؤتمر سان ريمو المنعقد عام 1920م، والذي عُقِدَ ردًّا على مقررات المؤتمر السوري العام، في الثامن من مارس من ذات العام.
وعلى أهمية هذه التجربة – المؤتمر السوري العام – والتي كان لا مثيل لها في التاريخ السياسي العربي الحديث والمعاصر، فإنه من الأهمية بمكان إلقاء بعض الضوء عليها، حيث كانت المعادل العكسي لاتفاقية سايكس بيكو، ولأنها كذلك استتبعت رد فعلٍ من القوى الاستعمارية الكبرى، كان من نتاجه أوضاع ظلت تأثيراتها وترتيباتها حتى الآن.
نصت مقررات المؤتمر على إعلان استقلال سوريا بحدودها الطبيعية، استقلالاً تامًّا، بما فيها فلسطين، ورفض ادعاء الحركة الصهيونية العالمية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، والذي تكرست إجراءاته العملية على الأرض بصدور وعد بلفور في الثاني من نوفمبر من العام 1918م، والذي فيه تعهدت بريطانيا بدعم مشروع تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.
كما تم إنشاء حكومة مسؤولة أمام المؤتمر، الذي تم تأسيسه كمجلس تمثيلي نيابي، وكان يضم ممثلين انتخبهم الشعب في سوريا ولبنان وفلسطين، وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكًا على البلاد، في إطار ملكية دستورية، وهي خطوة اعتُبرت مع سلسلة أخرى من الإجراءات التي رفضتها بريطانيا وفرنسا، بمثابة نموذج سياسي تقدمي لم يعرفه المشرق العربي والإسلامي من قبل.
تشكلت وقتها في سوريا حكومة برئاسة رضا باشا الركابي، وضمت سبعة من الوزراء، وكانت نموذجًا لحكومة حكماء، حيث ضمت مفكرين كبار مثل فارس الخوري وساطع الحصري، ولم يكن الملك المسؤول الأول عن أمور السياسة والحكم، بل أصبح ذلك منوطًا بوزارة مسؤولة أمام المؤتمر السوري.
كما تم تشكيل لجنة لوضع الدستور برئاسة هاشم الأتاسي، فوضعت مشروع دستور من 148 مادة.
رفضت لندن وباريس كل ذلك، وقالت إن مصير الأمم العربية غير المستقلة لم يزل في يد مؤتمر السلم الدولي المنعقد في فرساي، لتصفية آثار الحرب العالمية الأولى.
تبع ذلك، انعقاد مؤتمر للمجلس الأعلى للحلفاء في لندن، في فبراير من العام 1920م، ثم عقد المجلس مؤتمرًا آخر، في مدينة سان ريمو الإيطالية، ما بين التاسع عشر والخامس والعشرين من أبريل من نفس العام، للبحث في شروط الحلفاء للصلح مع تركيا طبقًا لمعاهدة “سيفر”، والمصادقة عليها بعد إعلان سوريا استقلالها.
وقد بحث المؤتمر في معاهدة “سيفر” التي رسمت مستقبل المنطقة العربية التي تضم العراق وسوريا الكبرى، بما فيها لبنان وفلسطين وشرق الأردن، والتقسيمات والانتدابات التي سيتم الإعلان عنها رسميًّا من خلال عصبة الأمم، بحسب مصالح الحلفاء.
بموجب ذلك، تم تقسيم سورية الكبرى، إلى أربعة أقسام: سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين، وتم وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين والأردن تحت الانتداب البريطاني، بالإضافة إلى العراق، مع التزام الحكومة البريطانية بوعد بلفور.
وقد تسبب وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، في اندلاع صدامات واسعة بين اليهود والعرب في مدينة القدس على وجه الخصوص، كان أهمها “انتفاضة البراق”، في العام 1920م.
أزمات وصراعات في مائة عام!
تبعًا لذلك الوضع الذي أسسته هذه الاتفاقيات والقرارات، دارت الحلقات المختلفة للعلاقات الإقليمية وتفاعلاتها الدولية، طيلة نحو مائة عام، بمختلف أشكالها، التعاونية والصراعية، وتحددت مصائر أمم وشعوب بأكملها، في إطار هذه الأوضاع والترتيبات التي رسمتها هذه الاتفاقية.
أخذت “سايكس بيكو” في تجربتها في وضع الحدود السياسية الحديثة للدولة الوليدة في العالم العربي، الكثير من معالم تجربة مؤتمر فيينا 1815م، الذي دعا إليه المستشار النمساوي مترنيخ، وعمل على تصفية إرث الحروب النابليونية في أوروبا، وأسست للدولة القومية الحديثة في أوروبا.
إلا أنه ثمَّة اختلال حدث بين التجربتَيْن، قاد إلى أن تكون سايكس بيكو، علامة على صراعات إقليمية عديدة في المنطقة، منعت تمامًا أية إمكانية لتحقيق التكامل العربي في أدنى صوره.
ففي تجربة مؤتمر فيينا، راعت الدول المجتمعة عند رسم الحدود السياسية القاطعة بين كل كيان وآخر، أن يضم كل كيان منها مجموعة متمايزة عرقيًّا ودينيًّا، باستثناء مناطق شرق أوروبا والبلقان التي كانت تسيطر عليها الدولة العثمانية في ذلك الوقت، ولم تكن قد بدأت بعد في التحول إلى رجل أوروبا المريض.
ويعود ذلك إلى رغبة ملحة لدى القادة الأوروبيين لضمان الاستقرار والهدوء في القارة العجوز، وكان ذلك إدراكًا منهم لأسباب الحروب الدينية والحروب التي دامت أزيد من ثلاثة قرون، والحروب النابليونية التي عقد المؤتمر لأجلها.
فهذه الحروب نتجت عن اختلاط قوميات متمايزة دينيًّا ومذهبيًّا، وعدم وجود كيانات سياسية تضم كلاً منها معًا، وتسعى إلى إدارة علاقاتها مع الكيانات الأخرى، مع اضمحلال الدور السياسي الجامع والجبري للدولة الرومانية في ترتيب العلاقات وتوزيع المصالح، فيما بين هذه الكيانات.
كما كان غياب الحدود السياسية القاطعة ما بين كل كيان وآخر كان موجودًا في ذلك الحين، مبعثًا لطموحات البعض للاستيلاء على بعض الأراضي المتاخمة، بسبب ما فيها من خيرات وموارد، كالأنهار أو المواد الخام المعدنية، مثل إقليم السوديت بين ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا السابقة، والألزاس واللورين بين ألمانيا وفرنسا.
وعندما تمت مخالفة تلك القاعدة، بعد إعادة ترسيم الحدود السياسية لأوروبا عقب الحربَيْن العالميتَيْن الأولى والثانية؛ اندلعت نزاعات كانت أخطر وأكثر دموية من غيرها من الصراعات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على النحو الذي جرى في البلقان بعد تفكك يوغوسلافيا.
“سايكس بيكو” لم تراع في ترسيمها للحدود في المشرق العربي هذه التمايزات، وأسست لكيانات تحمل في طياتها بذور الشقاق والفتنة من ناحيتَيْن.
الناحية الأولى، أن هذه الكيانات التي أسستها سايكس بيكو، تتداخل فيها العديد من المكونات العرقية والدينية، المذهبية والطائفية، وبدا ذلك أوضح ما يكون في حالات العراق وسوريا الكبرى، حيث تضم بلدان هذه المناطق “موزاييك” حقيقي من القوميات الصغرى، والديانات والمذاهب والطوائف، بل تتقاطع فيما بين بعضها البعض.
فعلى المستوى القومي هناك العرب وغير العرب، مثل ذوي الأصول الفارسية والأكراد والصابئة والتركمان وذوي الأصول الآشورية، وغير ذلك، أما على المستوى الديني فهناك المسلمون والمسيحيون، وبداخل كل ديانة، هناك الكثير من التمايزات المذهبية، كالشيعة والسُّنَّة والدروز في أوساط المسلمين، وهناك الكاثوليك والأرثوذكس والأرمن، وغير ذلك من الطوائف المسيحية.
ثم تتقاطع هذه التمايزات فيما بينها، فهناك سُنَّة من العرب وغير العرب؛ حيث الأكراد بالكامل من السُّنَّة، وهناك شيعة عرب، ومن غير ذوي الأصول العربية، من الفرس وغير الفرس.
هذا “الموزاييك” تم جمعه في كيانَيْن أساسيَّيْن، العراق بحدوده الحالية، وسوريا الكبرى، التي انفصلت وتحولت إلى سوريا ولبنان عام 1943م.
في المقابل، تم سلخ بعض المناطق التي كانت جزءًا من الكيانات الإدارية لهذه المناطق ضمن حدود الدولة العثمانية، مثل الكويت، التي تحولت إلى دولة مستقلة، ولواء الإسكندرونة، الذي تم سلخه من سوريا، وضمه إلى تركيا.
هذه الأوضاع، أسست للعديد من التوترات الإقليمية، وهناك الكثير من الدراسات والكتابات الموثوقة التي تؤكد أن هذا الوضع كان مقصودًا من جانب القوى الاستعمارية لخلق عوامل توتر دائم تمنع قيام علاقات إيجابية منتِجة ما بين الدول العربية وبعضها البعض، قد تقود يومًا ما إلى شكل من أشكال التكامل أو الوحدة، أو على الأقل توحيد المواقف فيما بينها.
سوريا ولبنان وعقدة “الهيمنة” وسوريا الكبرى!
هذه الطريقة في التقسيم وتوزيع المناطق، قادت إلى ميلاد عقدة “الهيمنة” (Hegemony) لدى بعض الأطراف الإقليمية الكبرى، في نظرتها وطريقة تعاملها مع كيانات أخرى أصغر، وهو ما قاد بدوره إلى تعطيل الحياة السياسية، وحل النزاعات الداخلية في هذه الكيانات الصغرى.
وأبرز نموذج على ذلك، الأوضاع المعقدة بين سوريا ولبنان؛ حيث إن سوريا تنظر إلى لبنان باعتبارها جزء من إقليم سوريا الكبرى، وتابع يجب أن يظل خاضعًا لها.
وبالنظر إلى تجربة لبنان خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990م)، وخلال الحرب الحالية في سوريا (2011 – 2016م)، وفي السنوات التي توسطت كلا الحربَيْن، سوف نجد أن القرار السياسي الأول والأخير، فيما يخص الشأن اللبناني، كان في يد النظام البعثي في سوريا.
ولقد أعاق ذلك كثيرًا الجهود العربية والدولية التي بُذِلَتْ مخلصة في السبعينات لتسوية الحرب الأهلية اللبنانية، بما في ذلك قرار جامعة الدول العربية خلال القمة العربية في يوليو من العام 1976م، بإنشاء قوة الردع العربية، التي كان من المفترض أن تتضمن قواتًا من ستة دول عربية، وهي: سوريا، ولبنان، والسعودية، والإمارات، واليمن الجنوبي في ذلك الحين، تعمل على الفصل بين الأطراف المتحاربة في لبنان، حيث أجهضت لصالح التدخل السوري في هذا البلد.
وطيلة السنوات التي تلت ذلك، كانت مفاتيح العملية السياسية في لبنان في أيدي النظام السوري، بما في ذلك تحديد الشخص المرشح لرئاسة البلاد، ولذلك تستمر لبنان الآن من دون رئاسة، بسبب ظروف الحرب في سوريا، فيما تعاني لبنان من وضع أمني هش، وخصوصًا في الشمال، في طرابلس وغيرها من هذه المناطق، بسبب اختلاط العلويين المؤيدين للنظام السوري، مع السُّنَّة المعارضين له، وتدخل “حزب الله” الشيعي في الحرب في سوريا.
توسيع النطاق الجيوسياسي للاتفاقية وأزماتها
في إطار دراسة اتفاقية سايكس بيكو، هناك نظرة قاصرة لموضوع تأثيراتها على الأوضاع في العالم العربي، باعتبار أنها تلك الاتفاقية التي كرَّست حدود منطقة المشرق العربي، والمحددة في المواد المذكورة منها، في العراق وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، وهي نظرة خاطئة.
فبالنظر إلى تركة الاستعمار في بلدان العالم العربي، حتى استقلال آخرها في الفترة من العام 1971م وحتى 1975م، قطر والبحرين وجزر القمر، فإننا سوف نلمس ذات السلوك الذي تبنته بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سايكس بيكو.
فالاتفاقية كما تقدم، اهتمت فقط برسم الحدود بين بلدان مناطق معينة من إرث الدولة العثمانية، خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، إلا أن المنطق الذي بُنيَتْ عليه كان حاكمًا للبلدان المستعمِرة لمناطق أخرى من العالم العربي، ومنطقة الساحل والصحراء في شمال إفريقيا مثل إسبانيا وإيطاليا بجانب كلٍّ من فرنسا وبريطانيا.
ولذلك نجد ذات المشكلات موجودة في المغرب العربي وفي شمال الصحراء الكبرى، مما أدى إلى اندلاع الكثير من الحروب والنزاعات المسلحة، كان من أشهرها “حرب الرمال” التي اندلعت بين المغرب والجزائر، في شهر أكتوبر من العام 1963م، بسبب خلافات حدودية، وقعت بعد عام تقريبًا من استقلال الجزائر، وسبقتها مناوشات عدة بين البلدين، وشملت الحرب مناطق تندوف وحاسي بيضة في الجزائر، وفكيك المغربية.
انتهت هذه الحرب، بوساطة من جامعة الدول العربية، في 5 نوفمبر من ذلك العام، وتم إقرار اتفاق نهائي لوقف إطلاق النار بين الطرفَيْن بعد ذلك في 20 فبراير 1964م، في العاصمة المالية.
وبطبيعة الحال، استمر أثر هذا النزاع إلى الآن على العلاقات بين البلدين، وهو أمر شديد الوضوح في الموقف الجزائري الداعم لجبهة “البوليساريو” التي تحارب الحكومة المغربية للانفصال بإقليم الصحراء الغربية، أو ما يعرف بإقليم الساقية الحمراء ووادي الذهب.
وهذه القضية بدورها كانت محور حرب أخرى في السبعينات بين المغرب وموريتانيا، وتمت تسويتها بوساطة إسبانيا، التي قسمت الصحراء الغربية بين المغرب وموريتانيا، فساندت موريتانيا المغرب في صراعها ضد “البوليساريو”، فيما دعمت الجزائر وليبيا القذافي، الجبهة.
واستمر ذلك حتى العام 1991م، عندما تم التوقيع على اتفاقية لبدء عملية سلام في الإقليم، ترعاها الأمم المتحدة، لم تفلح حتى الآن في معالجة جذر المشكلة، حيث ترفض المغرب أي إجراء يدفع لانفصال الإقليم، بينما لا تزال معسكرات إيواء وتدريب جبهة “البوليساريو”، وجناحها العسكري المعروف باسم “جيش التحرير الشعبي الصحراوي” قابعة في تندوف الجزائرية.
وبالمثل، في نزاعات عربية – غير عربية (إفريقية)، وإفريقية – إفريقية أخرى، اندلعت في العقود الماضية، كانت عقلية سايكس – بيكو، والأسلوب الذي تم به تقسيم المناطق والتخوم بين الدول العربية الناشئة، تقف خلف الكثير من الحروب الإقليمية التي تسببت في عداوات منعت للآن من حدود أي شكل من أشكال التكامل الإقليمي.
فهناك الحرب الليبية التشادية، في الفترة من العام 1978م، وحتى العام 1987م، وكان أساسها أو مبررها الرئيسي – بخلاف ميول العقيد الليبي معمر القذافي التوسعية في المناطق الجنوبية – هو نزاع حدودي على قطاع أوزو الواقع في أقصى شمال تشاد، أو أدنى جنوب ليبيا.
وللتدليل على أن لسايكس بيكو، أخوات سفاح، فإن الأساس الذي استند إليه القذافي في ذلك الوقت، هو الاتفاقية الفرنسية الإيطالية الموقعة في العام 1935م، ولكن لم يصدق عليها أي من برلمانَيْ الدولتَيْن المستعمرتَيْن؛ فرنسا وإيطاليا.
عودة إلى المشرق العربي وأزماته!
لا تقف المشكلات الحدودية على المناطق البرية فحسب، حيث عرفت بعض البلدان العربية مشكلات حدودية بحرية، قادت لصراعات دموية عنيفة، مثل الخلاف الشهير بين الكويت والعراق على تبعية جزيرتَيْ وربة وبوبيان الواقعتَيْن في أقصى شمال غرب الخليج العربي، بالقرب من الشمال الشرقي للكويت، وكان جزءًا منه، على حقل الرمال النفطي الضخم.
قاد هذا الخلاف إلى احتلال العراق للكويت في الثاني من أغسطس من العام 1990م، وكان نقطة سوداء في تاريخ العالم العربي، حيث لا يزال العراق والمشرق العربي كله يعاني من تبعات تلك الأزمة، وما قادت إليه من تطورات، وصولاً إلى احتلال العراق وإسقاط الدولة هناك في ربيع العام 2003م، من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا، وتحالف غربي ضيق النطاق.
كذلك هناك الخلاف البري/ البحري بين العراق أيضًا وإيران على شط العرب؛ حيث اندلعت حرب هي الأسوأ في تاريخ المنطقة، وسقط فيها مليون قتيل من الجانبَيْن، خلال الفترة من العام 1980م وحتى العام 1989م، وكانت أحد أهم أسباب مولد مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ولها أثر مهم على دوله في تحييد الأداة الصراعية من حساباتها في ترسيم حدودها المشتركة كما سوف نرى.
المؤلم أن هذه الحرب الطويلة الدموية، والتي سيطر العراق على إثرها على منطقة شط العرب في جنوب البلاد، قد انتهت نتائجها بقرار فردي من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، عندما اعتراف باتفاقية الجزائر الموقعة بين العراق وإيران الشاه عام 1975م، خلال الأزمة التي سبقت الاحتلال الأنجلو أمريكي للعراق في العام 2003م.
وهو أمر مدعاة للتساؤل حول طبيعة العقليات التي توجه القادة العرب في أمور كهذه تشمل مصائر دول وأمم بالكامل، تضم بين جنباتها الملايين من البشر.
أنماط السلوك السياسي الرسمي العربي في التعامل مع إرث سايكس بيكو
أدى هذا المنطق الذي حكم الاتفاقية وغيرها من الاتفاقيات التي رسَّم بها الاستعمار حدود الدول العربية بينها وبين بعضها البعض أو بينها وبين جيرانها في آسيا وإفريقيا، إلى الكثير من الأزمات والنزاعات، التي حالت – كما تقدم – دون نجاح الكثير من التجارب التكاملية والوحدوية العربية.
فكانت هذه الأزمات عامل فشل مهم لتجربة التكامل العربي التي تبنتها جامعة الدول العربية، وتشمل منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، والعملة العربية الموحدة والاتحاد الجمركي العربي.
كما أنها حالت دون نجاح تجربة الاتحاد المغاربي، الذي تأسس في فبراير من العام 1989م، وضم ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.
الطريف أن منظمة الوحدة الإفريقية تعاملت بشكل أفضل وأكثر براجماتية مع هذه المشكلة، مشكلة الحدود الاستعمارية، عن العالم العربي، ووضعت في حينه حدًّا للكثير من الحروب الإقليمية التي كانت يمكن أن تندلع، عندما نصَّ الميثاق التأسيسي للمنظمة في العام 1963م، على الاعتراف بالحدود المتوارثة عن الاستعمار، كحدود دولية للبلدان المنضوية في المنظمة، وهذا الأمر لو كان قد تم في جامعة الدول العربية؛ ما كانت قد وقعت مثل هذه الأزمات وغيرها.
في الإطار السابق، لم يكن الشكل الصراعي هو القائم في كل الأحوال في التعامل مع الإرث الاستعماري في موضوع ترسيم الحدود وتوزيع الأقاليم، وما شابه، حيث إن هناك تجارب جيدة، حكمها التوافق السياسي، بما في ذلك السعي إلى التحكيم الدولي.
وتعتبر السعودية حلقة مشتركة بين غالبية هذه التجارب، وكان للمال والنفط السعوديَّيْن، بالإضافة إلى التأثير الروحي للمملكة بسبب وجود الحرمَيْن الشريفَيْن والأراضي الحجازية فيها، دور كبير في ذلك.
فهناك تجربة ترسيم الحدود مع الكويت؛ حيث وقع الخلاف الشهير بين السعودية والكويت على منطقة تبلغ مساحتها حوالي 5770 كيلومترًا مربعًا بين حدود المملكة العربية السعودية وإمارة الكويت، بسبب عدم حسم اتفاقية “العقير” الموقعة في العام 1922م، بين حكومة نجد وإمارة الكويت لتبعية تلك المنطقة، حيث نصت على أن يتشارك الطرفان الحقوق فيها، من خلال “المساعي الحميدة لحكومة بريطانيا العظمى” لحين التوقيع على اتفاق آخر بين الطرفَيْن.
ولكن إعلان قيام سلطنة نجد والحجاز، في العام 1926م، ثم المملكة العربية السعودية عام 1932م، حال دون حصول هذا الاتفاق، حتى يناير من العام 1970م، عندما تم التصديق على اتفاق لترسيم الحدود بين السعودية والكويت، استغرقت مفاوضاته حوالي 10 أعوام.
وذات السيناريو تكرر تقريبًا في المنطقة المحايدة بين السعودية والعراق، وهي أكبر نسبيًّا؛ حيث تبلغ مساحتها حوالي 7 آلاف كيلومتر مربع، وكان وراءها “سايكس بيكو” أخرى مصغرة، هي معاهدة المحمرة أو “خورمشهر”، التي تم إبرامها في الخامس من مايو من العام 1922م، بين المملكة المتحدة، التي كان العراق تحت وصايتها، وسلطنة نجد في ذلك الحين.
حاولت اتفاقية “العقير” معالجة هذه المشكلة؛ إلا أنها بقيت حتى العام 1975م، عندما قام العراق والسعودية بتوقيع اتفاق تقسيم إداري للمنطقة، ثم معاهدة حدودية ثنائية، في العام 1981م، ولكنه لم يتم إدراجها لدى الأمم المتحدة لأسباب غير معروفة إلى الآن، ثم ألغيت الاتفاقيتَيْن بقرار من صدام حسين خلال حرب الخليج الثانية، مما أدى إلى انتهاء الوجود القانوني لها.
وتبقى تجربة مجلس التعاون الخليجي هي واحدة من أهم التجارب التي شهدها العالم العربي في مجال حل النزاعات الحدودية من خلال المفاوضات، ويعود ذلك إلى سبب مهم، هو إحساس دول الخليج بالضعف، وأن ما يبقيها على قيد الحياة، هو تضامنها والمظلة الإقليمية التي تجمعها، ممثلة في المجلس.
ولذلك؛ فإن مجلس التعاون الخليجي ظل صامدًا، حتى في أحلك ظروف الخلافات السعودية القطرية في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، بعد الانقلاب الذي وقع في مصر في الثالث من يوليو من العام 2013م، واستضافة قطر للإخوان المصريين بعد فض اعتصام رابعة والنهضة في 14 أغسطس من نفس العام.
وتشير مصادر إلى أن الأمر بين الرياض والدوحة، كاد أن يتطور إلى مستوى قطع العلاقات الدبلوماسية، بعد سحب كل من الإمارات والبحرين والسعودية لسفرائها من الدوحة، في العام 2014م، وغلق السعودية للممر البري الوحيد لقطر عن العالم.
لكن ذلك لم يحصل، وظلت العلاقات بين دول مجلس التعاون حاكمة لأي خلاف، ولذلك تم ترسيم الحدود البحرية للمملكة العربية السعودية مع دول المجلس بالتفاوض، وعبر سنوات طويلة، كما ساعد المجلس على معالجة الخلاف بين سلطنة عُمان والإمارات، وخصوصًا بين السلطنة وأبوظبي حول منطقة البٌريمي، والخلاف حول منطقة (دبا) الواقعة بين كل من عُمان، وإماراتَيْ الفجيرة والشارقة.
وطبعت التجربة التكاملية بين دول المجلس بطابعها على تفكير قادة الخليج في مختلف شؤون بلدانهم، فكان أن تحولت بعض المناطق المتنازَع عليها، وخصوصًا التي تتضمن ثروات أو تقع في مناطق حساسة جيوسياسيًّا، إلى مناطق تكاملية بين أطرافها، كما بين سلطنة عُمان والإمارات العربية المتحدة.
وكان هذا المنطق حاكمًا بدوره للتفكير السعودي في المجال الدبلوماسي والإعلامي في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع مصر، والتي بموجبها سوف تنتقل السيادة على جزيرتَيْ “تيران” و”صنافير” من مصر إلى السعودية؛ حيث طرحت الرياض حزمة من المشروعات التكاملية على أرض الجزيرتَيْن، وفي شبه جزيرة سيناء، مثل الجسر البحري، وجامعة الملك سلمان، من أجل امتصاص الغضب الشعبي المصري إزاء الاتفاق.
……..
وفي الأخير، فإن هناك الكثير مما يُمكن أن يُقال عن دور سايكس بيكو وأخواتها في تفتيت الخريطة الجيوسياسية للعالم العربي والشرق الأوسط بالكامل، وإغراقه في آتون من الصراعات التي لا تنتهي، ويبقى تساؤل حول قدرة الأنظمة الحالية على إعادة هيكلة هذا الوضع بالشكل الذي يحفظ ما تبقى من وجود الدولة القومية العربية في ظل الفوضى الهدامة الأمريكية وأدواتها العديدة في المنطقة!