لم تكن العلاقة الإيرانية السعودية بأفضل حالاتها طيلة فترة حكم رجال الدين في إيران والممتدة للـ 37 سنة المنصرمة، ومرت بأزمات كثيرة، لكنها لم ترتق للمواجهة المباشرة بينهما لأسباب عديدة.
فمن الجانب الإيراني لا تستطيع إيران أن تشعل مواجهة مباشرة مع السعودية، وذلك لمكانتها الدينية عند العالم الإسلامي، ووجود أهم المقدسات الإسلامية بها، ودور السعودية في الاقتصاد العالمي، كونها من أكبر مصدري النفط الخام لدول العالم الغربي، وبالتالي فليس من المتوقع أن تبقى تلك الدول مكتوفة الأيدي وهم يرون شريانهم النفطي يتعرض لتهديد جدي، إضافة إلى أن إيران لا تحارب بجنودها وإنما بميليشياتها المتواجدة في البلدان التي تحاربها، وطابور إيران الخامس في السعودية، لم يصل للمرحلة التي يستطيع فيها زعزعة الوضع الأمني الداخلي السعودي لصالح إيران.
أما من الجانب السعودي، فإنها تحجم عن التورط بحرب مباشرة مع إيران لأسباب عديدة أيضًا، أهمها عدم التكافؤ العسكري والبشري مع إيران والذي يميل بشدة لصالح إيران، إضافة إلى خشيتها من إثارة إيران للجيوب الشيعية المتواجدة في السعودية، وتعلم السعودية أيضًا، أنَّ إيران تعتمد في حروبها على سياسة النفس الطويل وحروب الاستنزاف، وأفضل مثال عليه هي حربها مع العراق التي استمرت ثماني سنوات، وحرب الحوثي في اليمن التي لم تنته بعد مرور أكثر من سنة، والسعودية ليس لها الطاقة البشرية والعسكرية التي تمكنها من الدخول في حروب استنزاف من هذا النوع.
لكن هذه الأسباب لم تمنع الدولتان من خوض حروب بالنيابة، فأحداث البحرين، والحرب في سوريا، وحرب اليمن، هي حروب بين السعودية وإيران ولكن بالوكالة، ماعدا الحرب الإيرانية العراقية والتي دخلتها إيران بشكل مباشر مع العراق، تلك الحرب التي لقن العراق فيها درسًا لإيران جعل قائدهم الخميني يتجرع كأس السم ليموت بعدها بحسرة عدم احتلال العراق، وأخذت إيران درسًا لا تنساه، وهو ألا تدخل حربًا بشكل مباشر أبدًا، نفس الشيء تعلمته أمريكا من حربها مع العراق، فهي الآن تحجم عن التدخل العسكري المباشر بأي بلد بالعالم، والتدخل الأمريكي الوحيد بعد العراق هو تدخلهم بليبيا، وقد وصفه أوباما لاحقًا، بأنه خطأ كبير اقترفته إدارته.
بالتأكيد إننا لا نرضى للسعودية مثل هذا المصير لا سامح الله، فالسعودية بغض النظر عمن يحكمها، فإن لها مكانه خاصة بقلوب كل المسلمين بالعالم.
لكنَّ التطورات الجديدة على العلاقة بين الدولتين والتي تلوح بالأفق ستكون أكثر أهمية وأكثر شراسة، خاصة بعد التغيرات الجذرية التي حدثت على خريطة التحالفات الدولية والتي بسببها سوف يتحتم على السعودية أن تعالج مشاكلها لوحدها وبدون حماية غربية كما كان بالسابق.
فميزان القوى بين إيران والسعودية قد تخلخل، ففي الوقت الذي خرجت إيران من العقوبات الدولية التي كانت جاثمة على صدرها وتحد من نشاطاتها التوسعية إلى حد ما، نرى أنَّ السعودية قد فقدت مكانتها عند الدول الغربية وبالذات أمريكا، ودعا الرئيس الأمريكي صراحة في معرض حديثه عن السعودية بمقابلة مع جريدة مجلة ذي أتلانتيك الأسبوعية إلى “سلامٍ باردٍ” بين طهران والرياض (بمعنى آخر أوباما يطلب من السعودية الاستسلام لأجندة إيران بالمنطقة وعليها أن لا تعترض)، واصفًا حلفاءه السعوديين، بأنهم “قوى جامحة تريدنا الدخول في مواجهة حاسمة ضد إيران، بيد أن الأمر لا يخدم المصالح الأمريكية.
ودعا أوباما، الرياض، إلى تقاسم النفوذ في “الشرق الأوسط” مع إيران”، كأن الرئيس الأمريكي يقول “لا تعتمدوا علي في حربكم مع إيران ولا تتوقعوا مني فعل الكثير لكم”، بل وصل الأمر بأمريكا، أنها بدأت تلوّح بتحميل السعودية المسؤولية عن تفجير برجي التجارة العالمي سنة 2001، الأمر الذي جعل السعودية هي الأخرى تلوح بسحب ودائعها الموجودة في الخزانة الأمريكية والتي تقدر بمئات المليارات من الدولارات، إذا ما مررت أمريكا مثل هذا القرار، وهو أمر إذا ما نفذته السعودية فستدخل أمريكا والعالم بأزمة اقتصادية كبرى على حد تعبير أوباما، ومع هذا فإن الكونغرس الأمريكي قد صوّت على السماح لأهالي ضحايا برجي التجارة العالمي بمقاضاة السعودية وتحميلها مسؤولية التفجير، ناهيك عن تلميحات أوباما ضد السعودية واتهامها باضطهاد النساء.
بينما الأمر مختلف في العلاقة بين إيران وأمريكا، حيث أفرجت أمريكا والدول الغربية الأخرى عن عشرات المليارات الإيرانية المحتجزة، بعد الاتفاق النووي بين إيران مع الدول خمسة زائد واحد، كما وبرأت إيران من أية مسؤولية لها في تفجير برجي التجارة العالمي، ونرى الأمور سائرة باتجاه تعزيز النفوذ والقوة الإيرانية بالمنطقة، والانحسار والضعف للسعودية.
لم تنته الضغوط الإيرانية والأمريكية ضد السعودية عند هذا الحد، فتعتزم إيران حاليًا تجريد السعودية من شرف إدارة المقدسات الإسلامية، حيث دعت إيران إلى تسليم المقدسات الإيرانية إلى هيئة إسلامية مستقلة دون تدخل الحكومة السعودية، على اعتبار أن السعودية لا تضمن سلامة الحجيج، وذلك على إثر الأحداث المأساوية التي حدثت في الحج العام الماضي، والتي أشارت كل الدلائل على أنها حدثت بفعل فاعل، وأن إيران ليست بعيدة عن شبهة التورط فيها، كما قررت إيران عدم إرسال الحجاج الإيرانيين للديار المقدسة بعد أن فشلت بتمرير الشروط الإيرانية التي طالبت بها من الجانب السعودي، بإطلاق الحرية لحجيجها باستغلال الحج لأغراض سياسية، وهذا ما رفضته السعودية بشدة.
ناهيك عن محاولات إيران إلصاق تهم دعم الإرهاب بالسعودية، والترويج للمذهب الوهابي، وأيّدها بذلك أوباما حين اتهم السعودية بشكل مباشر بنشر التطرف والإرهاب في المنطقة، والعالم، وضرب مثلاً بكيفية استخدام المال السعودي في تغيير طبيعة الإسلام المعتدل في إندونيسيا.
إن الاتفاق بين إيران وأمريكا ضد السعودية ليست مصادفة، بل يؤكّد على استراتيجية تتبعها أمريكا في مستقبل علاقاتها بدول الشرق الأوسط، واستبدال حلفائها الحاليين بالحليف الجديد القديم، إيران.
لكن السعودية من جانبها لم تسكت على محاولات إيران وأمريكا، فقد حاولت أن تقاوم توسع النفوذ الإيراني بكل ما لديها من قوة، فمع وصول الملك سلمان إلى الحكم تغيرت السياسة السعودية بشكل كبير وانتقلت من موضعها الدفاعي إلى وضع المهاجم للنفوذ الإيراني، ابتدأت بتقليم أضافرها باليمن، إلى زيادة الدعم للمعارضة السورية ضد نظام الأسد والمليشيات الإيرانية، ثمَّ شن حرب اقتصادية على حزب الله في لبنان، وأخيرًا قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وحصارها دبلوماسيًا من قبل الدول الصديقة للسعودية، لكن الطريق مازال طويلاً لأن الإجراءات السعودية الحالية على أهميتها، إلا أنها جاءت متأخرة جدًا، لأن النفوذ الإيراني قد تجذّر بدول عربية عديدة.
تحاول إيران الآن ضمان وصول ميليشياتها بالعراق لمسك الحدود العراقية السعودية لكي يسهل عليها إرسال عملائها إلى الداخل السعودي، لأن إيران لا تقاتل بجنودها إلا نادرًا، بل تقاتل بعملائها من الشيعة العرب المغرّر بهم لتحقيق أغراضها، بينما يتوجب على السعودية أن تقاتل بنفسها وبجنودها لصد عملاء إيران، بينما كان من الأولى للسعودية أن تخلق مناطق نفوذ قوية لها هي الأخرى، ورجال يقاتلون معها، من خلال دعم الحركات الإسلامية الوسطية والبعيدة عن الفكر المتطرف.
لكن السعودية وباقي دول الخليج العربي مازالت تعاني من عقدة من الإخوان المسلمين ومن التيارات الوسطية الأخرى، وتعتبرها من أخطر التهديدات لأنظمتها، وهي بذلك واهمة كل الوهم، ففي اليمن تقاتل حركة الإصلاح (وهي حركة إسلامية وسطية) مع قوات الشرعية ضد الحوثي، إلا أن السعودية مازالت تنظر إليهم بعين الريبة، وعدم حسم السعودية لملف اليمن عسكريًا، كان بسبب خوفها من أن يتمكن الإصلاح من السيطرة على كامل اليمن، فهي تفضل أن يكون الحوثي جارًا لها، على أن يكون الإخوان المسلمين جارهم، وهو خطأ استراتيجي كبير تقع به القيادة السعودية.
على السعودية أن تستفيد من التأييد الشعبي الكبير للتيارات الإسلامية الوسطية المعتدلة في بلداننا العربية، وإلا فإنها ستقع بمطبّات كثيرة، تخسر فيها السعودية ويخسر العالم الإسلامي الكثير، وتتراجع قضيتهم سنوات طويلة إلى الوراء.
آن الأوان للسعودية أن تشكل معهم تحالف حقيقي لمواجهة المد الإيراني الشيعي بالمنطقة، وبما أن إيران تدعم ميليشياتها بالمال والسلاح، فعلى السعودية أيضًا فعل ذلك مع حركات التحرر الإسلامية المعتدلة، وأن تُدرك أن لا خوف من تلك الحركات، والتجربة المغربية دليل على ذلك، تلك التجربة التي أثبتت ما للملك المغربي محمد السادس من حنكة سياسية، جنّب فيها شعبه فتنة داخلية وأعطى لبلده دفعة كبيرة من الاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي بتصالحه مع الإسلاميين الوسطيين هناك.
إنَّ التحالفات الدولية التي تقوم بها السعودية لا تغني عن تحالفها الضروري مع الشعوب، فمهما توافقت سياسات الدول تبقى تلك الدول تفكر بصالحها أولًا، فتركيا التي نفتخر بسياساتها الخارجية المساندة للشعوب المظلومة، ولكن مصلحتها الاقتصادية تقتضي تعاونها مع إيران، فلم تقطع علاقتها معها، وبلغ حجم التبادل التجاري بينهما 35 مليار دولار، ودفاع تركيا عن حق الشعب الفلسطيني، لم يمنعها من التفكير بإعادة علاقاتها مع إسرائيل، للخروج من الطوق الذي بدأ يلتف حولها.
على عكس حركات التحرر، والتي تنطلق بعملها من عقيدة تؤمن بها، وتقاتل من أجلها، ومن النادر أن تتبع في عملها التوازنات السياسية التي تتبعها الدول، ذلك لأنَّ الشعوب لم يبق لديها شيء تخسره بعدما خسرت كل شيء.