أولاً: المحدد الإيراني
بداية يجب علينا تذكر أن المعضلة الإيرانية لدول مجلس دول التعاون الخليجي، وبالقلب منها طبعًا السعودية، هي مشكلة حديثة مع نجاح الثورة الإيرانية، بالرغم من أن السياسة الخارجية الإيرانية لم تتغير كثيرًا بأهدافها عن المرحلة الشاهنشاهية إلا بإدخال الجانب العقائدي عليها، ثم الاستقلال من المظلة الأمريكية التي كانت جامعة للخليج وإيران معًا، وهو المتغير الأبرز الذي أحدث هذا العداء والذي سيعيننا لفهم التحركات السعودية الحالية إزاء التقارب الأمريكي الإيراني، لكن قبلاً علينا أن نضع ما يمكن أن نسميه “الاستراتيجية الشاملة للسعودية لمواجهة إيران” وهذه الاستراتيجية تتكون من الآتي:
الارتباط الكامل مع باكستان لدرجة التحالف بغرض أن تكون إيران محاصرة ما بين باكستان من الغرب والسعودية من الشرق، وهذا الارتباط مر بمرحلتين أساسيتين، الأولى هي أن السعودية كانت الممول الرئيسي للمشروع النووي الباكستاني، بل إنها قد دعمت انقلاب الجنرال ضياء الحق لكي يستمر هذا البرنامج النووي، وفي مخيلة السعودية أنه برنامج يوازن البرنامجين الإيراني والإسرائيلي على السواء.
وقد فصل الكاتب محمد حسنين هيكل في هذا الأمر بمحاضرته التي ألقاها بالجامعة الأمريكية عام 1998 في هذا الأمر، والذي طبع لاحقًا بكتاب “الخليج العربي المكشوف: تداعيات تفجيرات نووية في شبه القارة الهندية” وبالرغم من اللغة الدعائية والأيدلوجية بالمحاضرة إلا أنها أوفى مصدرًا تحدث عن ارتباط السعودية بالقنبلة النووية الباكستانية وهذا رابط الكتاب:
وكانت المرحلة التالية والمتزامنة أيضًا الشراكة التي انعقدت بين السعودية وباكستان لدعم الجهاد الأفغاني، بحيث تكون باكستان هي المحطة التي منها يدخل المجاهدون لأفغانستان والسعودية هي بلد التدريب، وعلى حسب بعض الشهادات التي سمعتها شخصيًا من بعض المجاهدين السابقين بأفغانستان فإن من قام بتدريبهم قبل الانطلاق لأفغانستان كانوا ضباطًا من المخابرات السعودية وبعض الضباط المصريين، ولم يروا أو يقابلوا مباشرة أي ضباط أمريكيين، ثم توطدت تلك العلاقة عندما كانت حكومتي باكستان والسعودية فقط هما الدولتان الوحيدتان اللتان اعترفتا بحكومة طالبان.
لذا اعتبرت السعودية أنه قد تم دق جرس إنذار أكبر عندما تفاوضت أمريكا على ترتيب دخولها لاحتلال أفغانستان – بالمناسبة كان مسؤول الفريق التفاوضي الإيراني بشأن الملف الأفغاني هو جواد ظريف وزير الخارجية الحالي – مع تجاوز أي تنسيق مع السعودية، وهذا تطلب تصعيد تلك العلاقة وتطويرها بين السعودية وباكستان، خاصة مع صعود نواز شريف لرئاسة الوزراء وتعهده بوضع حد للغارات الأمريكية بدون طيار على الأراضي الباكستانية، فتم إنشاء الصندوق الاستثماري لأصدقاء باكستان الذي تشارك فيه السعودية بأعلى نسبة مساهمة، وكذلك دخول الهند لتكون لاعبًا مباشرًا بأفغانستان.
ومن هنا يمكن فهم سعي قطر للتدخل بالملف الأفغاني وإنشاء مكتب لطالبان بالدوحة بإطار تنافسها مع السعودية على التصدر لمعضلة الأمن الخليجي وحمايته من إيران، ومن ثم توقعنا أن التقارب الحالي مع قطر سيسفر عنه استفادة السعودية من هذا التدخل القطري بالأزمة الأفغانية لخلق بيئة معادية لإيران بأفغانستان ودفع طالبان لعداء مع إيران.
تطوير السعودية لقوة صاروخية بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية، وقد شرحنا بملف العلاقة مع الأمريكيين العوائق والفرص المتاحة لتطوير تلك القوة، وكذلك بتقرير راند الذي نوهنا إليه ذكر أيضًا أنه من الممكن أن تتجه السعودية لبناء قوة نووية من المرجح أن تكون معتمدة على باكستان، ولكن نذكر هنا أن تلك القوة كانت عن طريق صفقات مع روسيا حليف إيران الأقوى وهو ما نشره موقع ديبكا الإسرائيلي ويمكن الاستزادة هنا:
سلاح النفط: ذكرنا سابقًا محددات العلاقة مع الأمريكيين في خلق السياسة النفطية السعودية، والآن علينا أن نذكر استخدام السعودية للسياسة النفطية بمواجهة أعدائها وبالمقدمة منهم إيران بالطبع، فهذه الأزمة الحالية ليست أول سابقة للسعودية، وقد كانت من إحدى الدول الرئيسية التي دعمت سياسة النفط مقابل الغذاء في العقوبات على عراق صدام ما بعد عاصفة الصحراء للتخلص نهائيًا من منافسة النفط العراقي لها.
الآن يمكننا بهذا التشبيه أن نفهم لماذا تنتهج السعودية زيادة الإنتاج حتى تخفض من أسعار النفط، إن المعني الأساسي كما وضحنا بالرغم من تضرر السعودية نفسها هو أن تضع نفطها لخدمة أهداف حليفها الأمريكي تجاه منافسيه كروسيا والصين والهند وتجاه البلدان التي يجد معها توترًا كإيران، فهنا إيران أمام خطوة خفض الأسعار لا تجد مساحة كبيرة للمراوغة، إذ إن الخطوات التي اتبعتها خاصة مع استمرار العقوبات ومنها الحظر على نفطها حتى يتم استكمال الصفقة النووية هو تحرير ورفع الدعم عن المحروقات ثم اتخاذ خطوات سياسية تصعيدية، وهو ما حدث بتصريح الرئيس الإيراني روحاني أن هناك دول تستهدف أمن إيران بسياسة خفض النفط، ثم إلغاء زيارة جواد ظريف للرياض العام الماضي لالتقاء نظيره سعود الفيصل والتي كانت ستبحث تسوية الأزمة اليمنية قبيل انطلاق عاصة الحزم، ثم اتخاذ الحوثي ما تلا هذا من تصعيدات باليمن.
ولكن بالمحصلة قد يبدو هذا ثمنًا مقبولاً للرياض لأن بالنهاية أمام تلك السياسة واستمرار عقوبات حظر النفط الإيراني ستجد إيران نفسها – وفق التصور الذي كان مطروحًا أمام الإدارة السعودية – مرغمة على الاستجابة لشروط الدول 6 الكبرى خاصة أن الفرصة الوحيدة التي كانت متاحة لإيران لإتمام الصفقة هذا العام قبل مجيء الإدارة الجمهورية – إذا فاز ترامب – التي شرحنا أعلاه تفاعلها مع السعودية، وبالتالي يتحقق للرياض مسألة التشبيك مع الأهداف الأمريكية والذي يجعل أمريكا مرغمة من وجهة النظر السعودية على ألا تستبعدها من الصفقة مع إيران، وقد شرح الدكتور مصطفى اللباد بعضًا من هذا بهذا المقال:
ألقى خالد بن سلطان، قائد القوة العسكرية المشتركة بحرب الخليج ومؤلف موسوعة وموقع مقاتل من الصحراء، محاضرة بمركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية بعيد حرب الخليج بعنوان “أمن الخليج من منظور وطني” وقد تم طباعتها بكتاب لاحقًا، ما يهمنا من تلك المحاضرة رؤيته لما تريده إيران من الخليج، وهي رؤية مغايرة للانطباع السائد عن رؤية السعودية والمتمثل في الهلع من إيران وأنها تهدف إلى تدمير الدول الخليجية من الداخل والسيطرة عليها… إلخ، ولكنه يطرح رؤية أكثر واقعية أن أهداف إيران بالخليج هو مرتكز لنقطتين: أن تامين الخليج مهمة موكلة للدول الـ 8 المطلة على الخليج، أي الدول الـ 6 لمجلس التعاون بالإضافة لإيران والعراق، وليس لقوات أجنبية أمريكية أو غيرها أو حتى مصرية أو سورية كما كان مطروحًا مع عاصفة الصحراء، والثانية بما أن إيران هي أكبر الدول المطلة على الخليج تسليحًا وعسكريًا فيجب أن تكون القوى الرئيسية لتأمينه، ليس فقط بنطاقه البحري بل وصولاً إلى البحر الأحمر.
ويفسر خالد اتجاه إيران للسودان من هذا المنطلق أي أن يكون لها تواجد على البحر الأحمر تحقيقًا لهاتين النقطتين، ومن ثم فيقترح خالد رؤية رئيسية للتعامل مع المهدد الإيراني قائمة أيضًا على نقطتين: الأولى كبح جماح أي عداء بين أمريكا وإيران قد يصل لتدخل أمريكي مباشر ضدها، إذ إن حينها أول المتضررين سيكون الخليج، والثاني هو إشراك إيران بأمن الخليج ولكن شريطة أن تكون السعودية هي القوة الرئيسية بهذا الأمن.
ومن تلك الرؤية نستطيع أن نفهم بشكل أفضل رؤية السعودية من التقارب الأمريكي الإيراني الحالي، فهي لا تعارضه وإنما تعارض أن تخرج منه إيران بأية مكاسب، وألا يمر عبر البوابة السعودية، حتى تكون الصفقة أولاً معطلة بشكل نهائي لطموح إيران النووي، وثانيًا تكون على حساب دور إيران الإقليمي، ويمكن الاطلاع على محاضرة خالد بن سلطان هنا:
النقطة التالية هي تقويض إيران بالجهاديين والمقاتلين المدعومين منها، تبعًا لدبلوماسية دفتر الشيكات التي شرحناها سابقًا.
ونود هنا أن تكون تلك النقطة شارحة بشكل واضح لآليات عمل السياسة الخارجية السعودية.
فكما تحدثنا بالشأن الخليجي عن مراوحة بين الإمارات وقطر، فأيضًا هنا السعودية تتعامل مع مثلث علاقات هي أحد أضلاعه وإيران طرف ثاني والقوى الإسلامية السنية الأخرى من تركيا والإخوان والجهاديين الضلع الثالث وهي تراوح بين هذا وذاك.
فعندما كانت السعودية تقدر أن الطرف الأخطر عليها ببيئتها الجنوبية هم الإخوان أو حزب الإصلاح اليمني تحديدًا، لم تجد غضاضة من التنسيق مع إيران والحوثي للإطاحة بالإخوان لإزاحة المشروع الإسلامي السني ككل، وهو الجهد الذي ابتدأته بدعمها للانقلاب المصري، ثم بعد أن تمت تلك المهمة تبدأ الآن السعودية دورة جديدة من التقارب مع إخوان اليمن بوساطة قطرية، بعد أن تم انتزاع خطرهم، وهو نفس الأمر حينما دعمت السعودية داعش في تمددها بالموصل لكي تحجم الخطر الإيراني أو تسقط حكومة المالكي، وهو ما تم، ثم مجددًا تعاونت بالحلف الدولي ضد داعش، بل أصبحت السعودية المقر الرئيسي لإدارة تلك الحملة، حتى مع تباعد موقف السعودية عن الحملة بإصرارها أن يكون الهدف النهائي إسقاط بشار، وأيضًا أحدثت السعودية تقاربًا مماثلاً مع إخوان العراق بوساطة تركية لكي تساهم السعودية بتكوين الحرس الجمهوري منهم، وهو ما اعترضت عليه حينها الإدارة المصرية متمثلة بعبد الفتاح السيسي، وبناء عليه أقدمت مصر على أن تتدخل لدعم حكومة المالكي ثم عبادي مباشرة ضد داعش دون تنسيق مع السعودية، وهو ما كان البند الرئيسي بزيارة عبد الله إلى مصر قبيل موته والتي صعد فيها السيسي للملك بالطائرة، كانت الزيارة مختصرة إلى رسالة واحدة وهي: استياء السعودية من التدخل المصري بالعراق دعمًا لحكومة عبادي.
فعموما المتوقع استمرارًا لتلك السياسة هو كالآتي:
ستحدث السعودية تشبيكًا مع حكومة بغداد استنادًا لوجود سني بها أو اشتراطًا بهذا واستنادًا إلى دبلوماسية دفتر الشيكات مجددًا، حيث ستلعب السعودية على التشبيك مع تلك الحكومة لكي تنسف التوازن الذي أحدثه المالكي سابقًا بين ولائه لأمريكا وولائه لإيران، بحيث ينسحب الولاء ناحية أمريكا والسعودية ويبتعد عن إيران، وفي هذا يمكن فهم إقدام التيار الصدري مؤخرًا على اقتحام البرلمان العراقي بإيعاز إيراني حسب مراقبين لكي يعطل التفاهم الذي حدث بين سليم الجبوري وعبادي، وهذا المقال فيه شرح لتلك الفكرة:
إذا ما تصاعدت حدة التهديدات بشرق المملكة وأصبح خطر انتفاضة شيعية خطرًا جديًا، ستسمح السعودية لداعش بالتمدد شرق المملكة بهدف أن تقيم اتصال بينها بالعراق وبين مؤيديها باليمن مقابل أن تصطدم داعش مع شيعة المنطقة الشرقية.
بالطبع ستكون السعودية فاعلة بالحملة المرتقبة على الموصل ولكن قبل تلك الحملة شهدت العلاقات السعودية التركية تقاربًا قد بدأ بالفعل، لكي تدعم السعودية الأتراك بتدخل مباشر بحلب حتى لا تستفيد إيران من الفراغ الذي ستتركه داعش فتتمدد به.
سيلي هذا أو ربما يواكبه أيضًا تكوين السعودية محورًا للجهاد السني ضد كل من داعش وإيران على السواء، ترغب السعودية بأن يكون الإخوان جزءًا أساسيًا منه وهو ما أعلنت عنه فعلاً.
وهذا سيتزامن أيضًا بأن تمنح السعودية الضوء الأخضر للسيسي ومعه الإمارات لعملية محدودة بليبيا، حتى لا يتكون ببرقة أو الجبل مركزًا جديدًا لداعش تتحصن به عند هزيمتها بالموصل، وعلى هذا كان التزامن بين قدوم السيسي وأردوغان للسعودية العام الماضي، حتى يكون التنسيق بين النقطتين 3 و4 بنفس الوقت وعليه تكون الحاجة للمصالحة بين السيسي والإخوان.
آخر نقطة في الاستراتيجية السعودية تجاه إيران هي منعها من التمدد بالبحر الأحمر أو الجانب الإفريقي منه، وهذا تطلب أن تكون السعودية منفذًا للسودان من العقوبات المفروضة عليه مقابل أن تتباعد عن إيران، وأن تستثمر السعودية بإريتريا لكي تكون إريتريا مدخل البترول السعودي لإفريقيا، وعلى هذا لا تجد السعودية نهائيًا غضاضة بالاستثمار والتعاون مع إثيوبيا حتى لو كان على حساب الجار المصري.