هذا كتاب جديد نعرضه للسادة القراء، لعلم من أعلام الفكر المقاصدي في عالمنا العربي والإسلامي، يتناول معالجة علمية أصولية فقهية متميزة، في سياق البناء الفقهي والأصولي الإسلامي العام لمسألة الأغلبية، أو الأكثرية في المجالات العامة التي تهم شؤون الأمة، وخصوصًا المجال السياسي، نظرًا لما صادفته تلك المسألة من أفهام خاطئة، وممارسات بائسة، أورثت أمتنا استبدادًا مقيمًا، قضى على قواها الحية، وجعل أغلبية أبناء الأمة هملاً، لا رأي لهم يؤخذ، ولا حس يسمع، ولا اجتهاد يقبل.
فقد كان غالب زمان على الأمة – ولايزال – الرأي لمن يملكه، للفرد الواحد الذي يسنده السيف، ويقويه المال، وتعضده العصبية الغاشمة، سواء كانت عصبية النسب أو عصبية المصلحة.
وفي زمان الثورات العربية، وفي ذروة الحلم بالعدل الذي يأتي به الناس، ويحفظونه ويحافظون عليه بالشورى الملزمة، كتبت هذه الكلمات منبهة أبناء أمتنا العربية المسلمة لقضية من أهم القضايا التي قضت على كل بارقة أمل في إصلاح الأمة في القديم، لعلنا نتداركها ونبتعد عن تخرصات المتخرصين من المغفلين، وما أكثرهم في أمتنا الذين لا يفهمون النصوص على وجهها الصحيح، أو الذين يزينون الظلم والاستبداد لأن فيه مرتعهم الآمن، وزادهم الوافر.
جاء الكتاب في أربعة فصول، ليجيب على هذه الأسئلة: هل للأغلبيات المختلفة من الناس، والعلماء، وممثلي الأمة والمقدمين فيها، مزية واعتبار زائد لكونها أغلبية؟ هل لها أولوية ورجحان على غيرها؟ وهل الحكم الذي يصدر عن الأغلبية، والرأي الذي تذهب إليه، يعتبر صوابًا لكونه قول الأغلبية؟ وهل يعتبر راجحًا على ما خالفه؟ وهل يعتبر ملزمًا؟ وهل يجب الاحتكام إليه والعمل به؟ (ص7)
ليست من المسائل المنصوصة
يتناول الفصل الأول، مسألة الأغلبية في سياق الأدلة الشرعية، حيث يؤكد المؤلف أن هذه المسألة ليست من المسائل المنصوصة، فليس هناك نص يأمر صراحة باتباع الأغلبية ولزوم حكمها، كما أنه ليس هناك نص ينهى أو يحذر من ذلك، وإنما هي مسألة اجتهادية استنباطية، والنصوص التي يمكن اعتمادها في الاستنباط كثيرة، ولكنها جميعًا تحتاج إلى تدبر واستنطاق، لكي تفصح عن دلالتها في الموضوع.
أولا: القرآن الكريم: يؤكد المؤلف، أنه ليس هناك نص محدد في القرآن يمكن اعتباره في المسألة، إلا أن قوله تعالى يمدح المؤمنين {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} يعطي إيحاءً قويًا بأن الممدوحين يتداول أمرهم بينهم، وهذا لا يتحقق إلا عندما يكون البت جماعيًا، إما بالإجماع، أو مع بقاء خلاف يسير قد يرفع بالتراضي والتغاضي، وأقل ما يتحقق به ذلك اتفاق أغلبية المشورين (ص 10)، وكذلك يمكن استنباط الأمر ذاته من قول ملكة سبأ لملأها “ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون”.
ثانيًا: سنة المصطفى – صلي الله عليه وسلم – وسيرته: يؤكد المؤلف أننا لا نجد إلا ما يشهد لذلك ويؤيده، فقد كان الرسول حريصًا ألا يمضي أمرًا من أمور المسلمين – مما لا وحي فيه – إلا بعد مشورة المسلمين موافقتهم، والموافقة تتمثل في إجماعهم أو في قول جمهورهم وأكثريتهم، وذكر المؤلف، نماذج لذلك في غزوة بدر، وأحد، والخندق.
ثالثا: تصرفات الخلفاء الراشدين، وخاصة الصديق وفاروق وما صدر عنهما من بعض التصرفات التي توحي بالتفرد بالقرار ومخالفة المستشارين، والتي يتكئ عليها كثير من المغفلين والمحرفين لذم الأخذ بالأغلبية في أمور المسلمين، فبين المؤلف، خطأ هذه التصورات عن بيعة عمر لأبي بكر في السقيفة، وقضية قتال مانعي الزكاة، وإنفاذ جيش أسامة بعد وفاة رسول الله، ومسألة أراضي السواد المفتوحة الذي رفض عمر قسمتها على المقاتلين، موضحًا طبيعة هذه القضايا، وأنها أبعد ما تكون عما ذهب إليه دعاة الاستبداد وأعوان الفساد ممن يزينون للقادة والولاة الانفراد بالرأي. (ص54-67)
ليخرج من هذا كله إلى نتيجة مفادها أن: “نصوص القرآن الكريم، وتصرفات رسول الله، تشهد لصوابية الاعتداد برأي الأغلبية، إذا كانت في مواضعها، وفي نطاق حقها واختصاصها، وإذا لم يكن في النصوص السابقة كلام عن الأغلبية والأكثرية، فالعبرة بالمضامين والدلالات لا بالألفاظ والعبارات، ولهذا لا يضيرنا ألا نجد في الكتاب والسنة، مصطلح الأغلبية، ولا ألا نجد أيضًا الأشكال التنفيذية التي نراها اليوم، فحسبنا أن نجد الشرع، وخاصة تطبيقاته النبوية، قد اعتبر وقدر رأي الأمة، ورأي علماءها، ورأي قادتها، وأن الرسول كان ينزل عن رأيه لرأي هؤلاء، ويمضي وينفذ ما قال به جمهورهم أو مجموعهم”. (ص26)
اعتراضات وردود
خصص مؤلفنا الفصل الثاني لمناقشة بعض اعتراضات من وقفوا من مبدأ الأغلبية موقف الإنكار والرفض، والرد عليها.
وأول هذه الاعتراضات كانت عن كون الأكثرية في القرآن لا تأتي إلا مذمومة، فكيف نثق برأيها ونعتد به، مؤكدًا أن الآيات لم تهدر الأكثرية، لكنها أهدرت الخبث الكامن فيها والناتج عنها، لا الكثرة ذاتها، وعلى هذا الأساس يدعونا المؤلف لنفهم عشرات الآيات التي جاءت تذم أكثر الناس، وتصفهم بأنهم لا يعلمون، ولا يؤمنون، وأنهم فاسقون في ضوء هذا التفسير، وإذا أضفنا أن الآيات التي وصفت أكثر الناس بأنهم لا يعلمون، كانت تتحدث بصفة خاصة عن مجال الغيبيات التي لا يعلم الناس عنها شيئًا إلا بخبر الأنبياء، يكون من الغلط الفادح قطع الآيات التي ذمت الأكثرين من هذه الأصناف، عن سياقاتها وموضوعاتها، ثم الانتقال بها إلى صف المسلمين وجماعة المؤمنين، ثم الانتقال بها إلى إهدار الكثرة مطلقًا، وتفضيل القلة عليها. (ص27-38)
الكثرة نعمة
يرى المؤلف أن الكثرة في الأصل هي حكمة الله، وهي نعمته على خلقه، فالتكثير نعمة من الله كسائر نعمه، والكثرة مطلوبة ومرغوبة ومعتد بها، شريطة ألا تخرج من دائرة الإيمان والإصلاح إلى دائرة الكفر والإفساد. (ص38)
وثاني هذه الاعتراضات المردودة، هي أن الأمير إذا استشار، فإنه يختار بعد ذلك ما بدا له ويعزم عليه، ويمضي متوكلاً على الله، لا على أغلبية ولا على أقلية مستندين على آية آل عمران {وشاروهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}، معتمدين على تفسير الإمام الطبري في سياق تفسيره للآية وضعوه في غير موضعه، فكلام الطبري عن أمر يتعلق بما نزل فيه وحي، وحكم الله فيه بحكم، فإن الواجب أن ينفذ ما أمر الله به، ولا عبرة حينئذ بالأكثر أو الأقل أو الجميع، في حين أن الآية لم تتعرض لاتباع الأغلبية ولا لعدم اتباعها، ولا لجواز ذلك ولا لوجوبه ولا لمنعه، فتحميلها الدلالة على جواز تفرد الأمير بالأمر ومخالفة مستشاريه أو جميعهم، إنما هو تكلف وتعسف. (ص38-40)
ثم ينتقل إلى ثالث الاعتراضات والمتعلقة بدعواهم مخالفة الرسول – صلى الله عليه وسلم – لآراء أصحابه، وعدم التفاته لمعارضتهم واستيائهم، في صلح الحديبية، حيث يؤكد المؤلف أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – إنما كان ينفذ الوحي، الذي لا تبقى معه أقلية ولا أكثرية، ولا تبقى معه شورى أصلاً، فالتمسك بالصلح وتجنب القتال كان بوحي من الله، فتصرف النبي بصفته رسولاً، ينفذ أمر ربه، ولا يستطيع أن يعصيه، فلم يبق مجال لآراء الناس، ولهذا لم يستشاروا في الأمر أصلاً (ص40-43)، مما يجعل اعتراضهم هنا على غير بينة، نتيجة الفهم الخاطئ والتأويل المتعسف.
وكان رابع هذه الاعتراضات الزعم المتهافت الذي تمسك به البعض، بخصوص ما حدث في غزوة أحد – التي تظهر أشهر ما يشهد للعمل بمبدأ الأغلبية كما تقدم -، معتبرين أن الرسول في خروجه لم يلتفت إلى الصحابة في عدولهم عن الخروج، حيث يرد المؤلف دعواهم مستندًا إلى أن الشورى قد تمت وأعطت ثمرتها، ولم يبق إلا التنفيذ، كما أن الصحابة لم يغيروا رأيهم، وإنما آثروا إرضاء الرسول تأدبًا معه وتقديمًا لحقه، فكيف يعتبر قمة الشورى والنزول على رأي الأكثرية إهدارًا لها؟
ويرد المؤلف على اعتراضات أخرى يسوقها خصوم الأغلبية، من نوعية: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يستشر في بعض الأمور إلا فردًا أو فردين، وأحيانًا استشار جماعة، لكنه أخذ برأي فرد واحد منهم، مثما أخذ برأي الحباب بن المنذر في بدر، أو رأي أبو بكر في الأسرى، أو رأي سلمان الفارسي في الخندق، مؤكدًا أن هذه الأمثلة لا تعني عدم التقيد برأي الأغلبية ولا تعني إهدار استشارة الأغلبية، فمعظم هذه الحالات كان آراء خبراء لا مجال للعدول عنها. (ص49-51)
ليخلص المؤلف في نهاية ردوده على خصوم الأغلبية إلى أننا مهما أخذنا بالاعتبار أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يتصرف في كثير من الأمور بصفته إمامًا حاكمًا للمسلمين، وبصفته قائد جيشهم، وقائد معاركهم العسكرية، فإن شخص رسول الله لا يمكن تجريده من ثلاث صفات جليلة خاصة به، كانت تهيمن على تفكيره وتدبيره وأقواله وأفعاله:
- أنه رسول الله يؤيده الوحي ويصوبه، وليس هذا لأحد من بعده أيًا كان.
- عصمته صلى الله عليه وسلم، فيكون تصرفه مأمونًا من أي خطأ، أنى لغيره أن يكون معصومًا.
- كونه أفضل الخلق، وأكملهم عقلاً، وأسد نظرًا، فما يطاول رسول الله أو يتطلع لمنزلته.
وإذا كان رسول الله وهو من هو في صفاته تلك لم يثبت أنه أمضى أمرًا من أمور الرأي، ضدًا على ما يراه أصحابه، أفيكون للأمراء من بعده، وهم على ما هم عليه من الآفات وقصور الصفات أن يخالفوا أهل الرأي والخبرة والفضل، جميعهم أو أكثريتهم، ويتفردوا بما بدا لهم ويحملوا الأمة عليه؟ إن هذا لهو البلاء المبين. (ص51-54)
حتى في العلم، اعتبر المسلمون الكثرة
تناول المؤلف في الفصل الثالث مسألة الترجيح بالكثرة عند العلماء، على الرغم من أن المجال العلمي الصرف، هو أقل المجالات خضوعًا للكثرة والأغلبية، لأن الكلمة فيه أولاً وأخيرًا للدليل والبرهان، ولأن العبرة فيه بأصحاب الاختصاص وبالمبرزين في كل اختصاص، ومع هذا كله فإن العلماء اعتبروا الكثرة والأكثرية، مرجحًا في عدد من المواضع والحالات، استجابة لقواعدهم، وتماشيًا مع مناهجهم متمثلاً في ذلك بمجالي رواية الحديث، حيث إن كثر الرواة يبعد عنهم الغلط والسهو والكذب، وكذلك الترجيح بين الاجتهادات بالكثرة، فالقول الذي يكون عليه أكثر العلماء، يكون أصوب وأرجح في الغالب. (ص69-81)
الأغلبية والإجماع
في الفصل الرابع الذي ختم به مؤلفنا كتابه، تناول أهمية العمل بالأغلبية، ومجالاته، مؤكدًا على أن العمل بمبدأ الأغلبية إنما هو في الحقيقة، فرع عن العمل بمبدأ الإجماع، فإذا كان الإجماع يستمد حجيته وقوته من الكثرة التي لا مخالف لها، أو لا مخالف لها يعتد بخلافه، فإن هذا الأساس موجود في مسألتنا ولكن بدرجة أقل، والتقارب والتباعد بين الإجماع والأغلبية يزيد وينقص تبعًا لنسبة الأغلبية مع الأقلية، وقد يرتفع نسبة الأغلبية حتى لا يبقى بينها وبين الإجماع إلا فارقًا ضئيلاً.
وإذا كانت المسائل والأحكام التي تتقرر بالإجماع تعتبر صوابًا لا شك فيه، وتعتبر من الأحكام القطعية، فإن الأغلبية تعطي أكبر قدر من الصواب، وتمثل أقرب المراتب من مرتبة الإجماع. (ص83)
اعتبار الأغلبية: صواب أصولي ومنهجي
يقع الاعتراض على تحكيم الأغلبية – كما يشير المؤلف -، باعتبار أنها ليست معصومة، وليست دائمًا على حق، وليس الصواب دائمًا في جانبها، بل من الممكن أن تخطئ الأغلبية وتصيب الأقلية، وأن تخطئ الأغلبية العظمى ويكون الصواب مع الواحد المخالف، أو الاثنين، وهذا صحيح، ولكنه لا ينقض صحة الترجيح بالأغلبية، حيث إن إهدار قول الأغلبية لقول الفرد أيًا كان موقعه، هو خطأ أصولي ومنهجي، ينبثق عنه – مع الأيام – ما لا يحصى من الأخطاء، واعتبار قول الأغلبية، إنما هو صواب أصولي ومنهجي، فهل ننبذ طريق التعقل والعقلاء، لأن العاقل ربما أخطأ رشده، ونعتد بالعمى والعميان لأن الأعمى ربما أصاب قصده؟!
الأخذ بالأغلبية: إعادة الاعتبار لسواد الأمة
الأخذ بالأغلبية يجعل السبيل معبدًا أمام سواد الأمة للاشتراك في شؤونها وتحس أن لتفكيرها وزنًا ولجهدها اعتبارًا، كما أن الناس معه أقرب وأسرع للانقياد والتنفيذ وأكثر حماسًا في العمل والالتزام، وأكثر تحملاً لتبعاته ونتائجه أيًا كانت، بخلاف ما إذا كان القرار فرديًا فالتهرب من تبعاته يكون غالبًا، كما أنه يمنع الأمراء والرؤساء من الاستبداد.
إيقاف سيل المفاسد
لو لم يكن من أصول الشريعة، مما يمكن الاحتكام إليه في مسألتنا، سوى أصل سد الذرائع – كما يقول المؤلف -، لكان الواجب بمقتضى الأصل أن يسارع العلماء إلى القول بتقييد سلطات الأمراء بإلزامية الشورى، إلزامية نتيجتها، المتمثلة في رأي مجموع المستشارين أو أكثريتهم، فقد أدى إبطال الالتزام بالرأي الغالب إلى استبداد متواصل وسفه متفاحش عبر العصور، ونشأ بسبب ذلك من المفاسد ما لا يحصيه إلا عليم الخبير. (ص91)
كفانا عميانًا وبرصانًا وعرجانًا
إذا كان الفطن النحرير كما يقول الإمام المرادي: ربما ستر عليه الحب والبغض، وجوه الرأي والرؤية، فإنهما يعدلان بالفكر عن الإصابة، فيحتاج إلى مشورة من رأيه صاف من كدر الهوى مبصر لوجوه الآراء” (ص92)، فما بالنا بالعرجان والبرصان والعميان الذين استبدوا بأمرنا على مدار الزمان.
مجالات العمل بالأغلبية
- التشريع الاجتهادي العام: التي تحتاجها الأمة لمواكبة التطورات والتحولات، ولاستيعاب المشاكل والنوازل والمستجدات.
- التأمير والتقديم: وهو من أهم مجالات الأخذ بالأكثرية، والتأمير يعني الرؤساء، بينما التقديم يعني به تولي بعض الأعمال وبعض الرئاسات، مما لا دخل عادة في الإمارة مثل من ينوب عن الناس في أمر أو من يتولى نقابة أو إدارة عمل جماعي.
- تدبير المصالح والشؤون المشتركة: والأغلبية هنا قد تكون أغلبية هيئة من الهيئات الشورية مثل حي من الأحياء أو قرية، وهنا يؤخذ برأي أغلبية عموم الناس المعنيين بالأمر، أو أغلبية المقدمين عندهم.
خاتمة
للاستبداد طبائعه التي لا تخفى على دارس، ولا حي يرزق في بلاد العربان، وله أسبابه المتعددة: الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية على حد سواء، التي تنتج نتائج وخيمة على الاجتماع الإنساني الذي يبتلى بهذا الداء العضال، ومن أهم أسبابه إهدار قيمة ورأي الأغلبية في شؤون الأمة، والتي يشدد هذا الكتاب على ضرورة معالجتها، لأن الفهم الأعوج للنصوص الدينية يؤدي إلى الأداء الأعرج للسياسة، وما يجره من تمكن داء الاستبداد في الأمة.
وربما كان من أهم التحديات الخطيرة الذي يواجه الثورات العربية اليوم، وهي في مفترق طرق هو: كيف نقيم صلحًا بين السياسة والفقه؟ وكيف نمارس السياسة من دون تفريط في الدين بكل أبعاده، ولعل الرسالة الأولية لهذا الكتاب تعود إلى الفقهاء والساسةِ أنفسِهم ليتقبّلوا مبدأ الأغلبية والشورى كقيمة إنسانية مجربة في إقامة العدل والحرية وتحقيق التنمية المستديمة التي تحقق الحياة الطيبة.
فلا غناء لنا، ولا حياة طيبة، ولا حرية حقيقية، ولا قضاء على الاستبداد، قبل أن نقتلع الاستبداد والاستعباد من قلوبنا وعقولنا وإنهاء ثنائية المستبد/ العبد من أنفسنا، ومن مؤسساتنا حتى يستقيم لنا أمرنا، ولن يكون هذا إلا ببناء مؤسسات الأمة السياسية والاجتماعية المبرأة من آفات الرأي الواحد، المقامة على دعائم الشورى وإعلاء رأي الأغلبية والأكثرية في مجالها ومكانها وبشروطها.