قيل عنها أنها ” الدولة المنسية ” و ” المنعزلة” و ” المحايدة”..إلا أن ذلك لم يؤثر على كونها الدولة الأكثر استقرارا في المنطقة، والتي نجحت في إبعاد نفسها عن ساحات الصراع السياسي والطائفي في الشرق الأوسط، بفضل سياسة حاكمها المتمرس في إدارتها بصورة رآها البعض إيجابية تخدم أهدافه التنموية وهو ما تجسد في تحسين مستوى مواطنيها خلال العقود الأخيرة، بينما رآها آخرون طريقة “استبدادية” كرست لما يزيد عن أربعين سنة من القمع والديكتاتورية.
سلطة عُمان..الدولة الخليجية الوحيدة التي نجحت في وقاية نفسها من التورط في آتون الحرب هنا وهناك، جراء سياسة الحياد والوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف المتصارعة، وهو ما جعلها شقيقة الجميع وإن اختلف معها جيرانها الخليجيين، وباتت خارج حساباتهم السياسية والعسكرية مؤخرا.
العديد من التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية العُمانية فرضت نفسها مؤخرا على موائد النقاش بمعاهد الدراسات والأبحاث الإقليمية والدولية، لاسيما في ظل عدد من المتغيرات القادرة على إعادة رسم الخريطة السياسية والاقتصادية لدول المنطقة خاصة تراجع أسعار النفط، والعوار الدستوري الخاص بالانتقال السياسي للخلافة في السلطنة.
” نون بوست” في هذا التحليل تلقي الضوء على أبرز هذه التحديات التي من المحتمل أن تواجه سلطنة عمان حال رحيل السلطان قابوس، ومدى ما تمثله هذه التحديات من تهديد حقيقي لمستقبل الشعب العماني على المستويات المختلفة، وكيف يمكن التعامل معها وفق رؤية تضمن مستقبلا آمنا ومستقرا.
قابوس بن سعيد.. مابين الاستبداد والتنمية
يعد السلطان قابوس بن سعيد أحد أقدم الحكام في العالم اجمع، إذ يتربع على عرش السلطة في عُمان منذ 1970م، عقب الإطاحة بوالده سعيد بن تيمور، فيما أطلق عليها حينها ( انقلاب القصر)، وعلى مدار ما يقرب من 46عام نجح قابوس في تحييد السلطنة بعيدا عن الصراعات الإقليمية والدولية، حتى باتت عُمان أشبه بالدولة المنسية والمعزولة في آن واحد.
ولد قابوس بن سعيد في 18 نوفمبر 1940، وهو السلطان التاسع والحاكم الثاني عشر لأسرة البوسعيد، إذ كان يطلق على الحاكم لقب “إمام” قبل أن يطلق عليه لقب “سلطان”، حيث ينحدر نسب قابوس من الإمام أحمد بن سعيد المؤسس الأول.
واجه سلطان عمان عشرات الانتقادات في طريقة إدارته للحكم في البلاد، تتلخص معظمها في إحكام قبضته على كافة مفاصل الدولة، حيث يتفرد وحده بما يزيد على 12 منصب متفرق بين عسكري وأمني وسياسي ومالي، في الوقت الذي يعاني فيه العمانيون من إشكالية الجهل بمعرفة نظام الحكم لديهم، أو قراءة ما يمكن أن يكون عليه الوضع مستقبلا، إذ وضع قابوس معظم أسرار الدولة في وصاياه الخاصة التي لا يجرؤ أحد على الاطلاع عليها إلا بعد وفاته، مما يجعل مصير سلطنة عمان بالكامل ( مجهولا ).
البروفيسور أندرياس كريغ، أستاذ جامعة “كينغز كوليج” في لندن والخبير في الشؤون الخليجية، وصف حكم السلطان قابوس بـ” المستبد للغاية”، ملفتا أنه حافظ على سلطاته السياسية بقبضة من حديد، فضلا صلاحياته بالتدخل المباشر في أغلب الوزارات على عكس المعمول به في الدول الأكثر سلطوية في المنطقة.
كريغ أشار إلى أن قابوس نجح في تحقيق طفرة اقتصادية لبلاده خلال السنوات الماضية وضعتها في منطقة الأمان بعيدا عن استنزاف موارد الدولة في الصراعات الإقليمية المشتعلة والتي تكاد تصيب الدول الخليجية الأخرى بالشلل الاقتصادي، وهو ما يحسب لقابوس غير أن هذه السياسة المنعزلة لها أبعاد سلبية أخرى.
الأستاذ بجامعة “كينغز كوليج” أكد أيضا على نجاح السلطان قابوس في البقاء حليفاً للغرب ومحاوراً لإيران، وهو ما تسبب في حدوث هزات عنيفة بين السلطنة ودول الخليج في أكثر من موقف، مما أسقط عُمان من حسابات دول مجلس التعاون الخليجي عند مناقشة القرارات ذات الصبغة العسكرية كما هو الحال في الحرب ضد اليمن أو التلويح بالتدخل العسكري في سوريا.
وفي المقابل فقد أشار الكاتب الصحفي علاء حموده، مدير التحرير الأسبق لجريدة ” عمان” أن السلطان قابوس نجح على مدار العقود الأربعة الماضية في ترسيخ مبدأ ” مصلحة بلاده” فوق كل اعتبار، وهو ما دفعه إلى عدم الخوض في خصومات مع أي دولة مجاورة، مما حفظ للسلطنة اقتصادها واستقرارها السياسي.
واستنكر حموده التصريحات التي تنعت قابوس بـ ” الحاكم المستبد” منوها إلى أن عُمان انتهجت الآلية اليابانية في التعامل مع الأزمات الإقليمية، حيث اختارت مسقط لنفسها دور المحايد والواقف على نفس المسافة من الجميع، واكتفت بالانشغال بتنمية اقتصادها الداخلي وتحسين مستوى المعيشة لمواطنيها، مما جعلها دولة شقيقة لجميع الدول على غرار ما تفعل اليابان منذ الحرب العالمية الثانية.
السلطان تيمور بن سعيد وبجواره ولده قابوس
عُمان ما بعد “قابوس”
تعرض السلطان قابوس خلال السنوات الأخيرة لأكثر من أزمة صحية عنيفة، كادت أن تودي بحياته، آخرها إصابته بسرطان القولون في 2014، حيث تصدرت شائعة وفاته مانشيتات الصحف والمواقع حينها، وبات الحديث عن مستقبل السلطنة بعد قابوس حديث الساعة لكافة الفضائيات وقتها، لكن تماثل السلطان للشفاء أخمد نيران الحديث عن مستقبل عُمان بعد رحيل أكبر حكامها سنا وأعظمهم شأنا، إلى أن أصدر معهد الشرق الأوسط بواشنطن، مؤخرا ورقة بحثية عنون لها بـ” أبرز التحدّيات الاقتصادية والسياسية التي ستواجه عُمان، بعد رحيل «قابوس»”..ليضع العديد من علامات الاستفهام حول ما يمكن أن يواجه هذه الدولة المنسية والأشبه بالمنعزلة حال غياب المسيطر الأول عليها، خاصة بعد الهزة الاقتصادية والأمنية العنيفة التي تواجهها دول المنطقة بلا استثناء، إضافة إلى أن تلابيب الحكم وأسرار الدولة أسيرة وصايا السلطان وغير مسموح لأحد الاطلاع عليها إلا بعد وفاته.
الاعتماد على النفط
تعد سلطنة عُمان الدولة الأكثر تأثرا بتراجع أسعار النفط في الآونة الأخيرة، إذ يعتمد اقتصادها بصورة رئيسية على مجال النفط بما يقرب من 85% وهو ما يمثل تهديدا واضحا لمنظومة الاقتصاد العماني خاصة مع تراجع الاحتياطي النقدي لديها بصورة أقل بكثير من «الكويت»، و«قطر» و«الإمارات».
الورقة التي أصدرها معهد الشرق الأوسط بواشنطن ذكرت أن عُمان في تسعينات القرن الماضي اكتشفت تراجع المخزون النفطي لديها والمرجح نهايته خلال 20عاما،على عكس ما أشارت الدراسات حينها، بما يؤكد خطأ ما تم حسابه في بداية الأمر، وهو ما يعد كارثة بكل المقاييس، مما دفع الحكومة إلى وضع خارطة طريق جديدة باسم «رؤية 2020»، تهدف إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي للسلطنة بحلول عام 2020 ، عن طريق تمكين القطاع الخاص، ودمج السلطنة في الاقتصاد العالمي، وتنمية الموارد البشرية بالسلطنة، وبالطبع، زيادة أرباح السلطنة من المجالات الاقتصادية غير النفطية، كذلك تطوير آليات منظومة الغاز الطبيعي لاسيما في ظل ما تحققه من نتائج جيدة؛ إذ يمثل – الغاز الطبيعي- ما يقرب من20% من الدخل القومي العُماني، نتيجة توريده لدول الشرق الأقصى بعد إسالته من الغاز المستورد من الدوحة وطهران، كما تسعى السلطنة إلى استغلال موقعها الجغرافي المتميز لتصبح مركزًا تجاريًا مهمًا، عن طريق إنشاء مركز شحن وتفريغ ضخم بمدينة «الدُقم»، على ساحل «المُحيط الهندي».
تراجع أسعار النفط من 150دولار للبرميل إلى 35 – 40دولارا بما قيمته 70% خلال العامين الآخرين، دفع حكومة مسقط إلى اتخاذ بعض الإجراءات التقشفية الصعبة على غرار الرياض والدوحة ودبي، وهو ما انعكس بصورة مقلقة على المواطنين والخبراء بشكل عام، وبات الحديث عن مستقبل السلطنة الاقتصادي المعتمد كلية على النفط دون التطعيم ببنية استثمارية أخرى، هاجسا لدى القائمين على أمور البلاد، إذ يمثل التحدي الأكبر أمام من سيخلف قابوس في الجلوس على عرش السلطنة.
حقول الغاز المسال في عُمان والتي تمثل 20% من الدخل القومي
الفراغ السلطوي
الهاجس الثاني الذي يمثل تهديدا وتحديا خطيرا أمام مستقبل السلطنة – داخليا وخارجيا- هو الفراغ السلطوي المتوقع حال رحيل قابوس، وهو ما أكدت عليه الورقة البحثية السابقة، حيث أن عُمان ليس لها ولي عهد معروف، أو خليفة تجمع عليه فئات الشعب والحكومة، خاصة وأن السلطان الحالي ليس لديه أبناء ذكور، أو أشقاء على قيد الحياة يتولون المنصب من بعده، وهو ما يجعل مستقبل العرش مهدد عقب رحيله.
داخليا فإنه وعلى عكس ما هو معمول في الدول الخليجية المجاورة، فإن معظم أفراد العائلة المالكة يشغلون مناصب رمزية لا أكثر في ظل سيطرة قابوس على جميع السلطات الحقيقية، مما يهدد شرعية الخليفة الجديد للبلاد والذي ليس من المتوقع بسط نفوذه إلى ما هو عليه السلطان الحالي.
الطريف في الأمر أن قابوس على علم كامل بهذه الإشكالية الدستورية الخطيرة، ومع ذلك لم يحرك ساكنا في اختيار نائبا له أو أن يقر تعديلات جديدة من شانها الخروج من هذا المأزق، إلا أنه قام بتعديل دستور البلاد مؤخرا ليسمح للعائلة المالكة بأيامٍ ثلاثة لاختيار خليفة له بعد وفاته، وفي حال الفشل في التوصل لاسم خليفة واحد من المرشحين، ،فقد ترك «قابوس» رسالتين باسمين مختلفين، كما قال في مقابلة صحفية عام 1997، يفتح إحداهما مجلس أعلى مكوّن من رؤساء المحكمة العُليا، وأعضاء من المجالس البرلمانية العمانية «مجلس الدولة ومجلس الشورى»؛ ليتقرر على أساسها من يخلُف السلطان.
إلا أن عدد من التساؤلات يفرض نفسه حيال هذه الطريقة التي لم يعتاد عليها العمانيون ومن ثم في محفوفة بالمخاطر، منها: ماذا يمكن أن يحدث إن رفضت العائلة المالكة هذا الإجراء، واعتبرته تعديًا على حقها المقدس في اختيار خليفة السلطان؟ وماذا يمكن أن يحدث في حالة ظهور رسائل مُتعارضة المحتوى؟
جورجيو كافيرو، مدير معهد دراسات دول الخليج، أشار إلى أن مسقط ستواجه مأزقا دستوريا خطيرا قد يهدد مستقبلها السياسي وأمنها ووحدة أراضيها حال رحيل قابوس دون تعديل دستوري يفصل الانتقال السياسي للسلطة، منوها إلى أن جمع كل السلطات في يد واحدة قد يساهم في تعقيد موضوع خلافة السلطان.
كافيرو، في تصريحات لموقع “Al-Monitor“، الذي يعنى بقضايا الشرق الأوسط، قال نصا: “إن وجود كل السلطات في يد قابوس يؤدي إلى تكهنات بشأن عدم وجود شخص قوي ثان يعتمد على شرعية مشابهة لشرعية السلطان”، ومن ثم فمن الصعوبة بمكان على أي شخص الحكم تحت الظل القوي للسلطان قابوس.
أما خارجيا، ففي تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، عن أبعاد الحكم في سلطنة عُمان حال رحيل السلطان “قابوس”، وتأثير غيابه على العلاقات العربية مع السلطنة وفي المنطقة بشكل عام، أشارت إلى إن السلطان يحكم البلاد منذ ما يقرب من 46 عاما، وأن السلطنة تعد أكثر بلدان العالم العربي استقرارا، إلا أن أي تحول أو تغيير في القيادة العمانية سيكون له تأثير كبير على الشرق الأوسط وسياسات أمريكا ودول غربية أخرى تعاونت عن قرب مع السلطان في قضايا خاصة بعملية السلام بين العرب ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وتأمين شحنات الطاقة العالمية.
كما لفتت الصحيفة إلى الدور الكبير الذي لعبه السلطان “قابوس” للتقريب بين الإدارة الأمريكية وإيران، حيث ساعدت جهوده في المفاوضات الحالية التي تهدف تقنين تطلعات البرنامج النووي الإيراني، مقللة من فرص الحصول على سلطان جديد في حجم ” قابوس” قادر على القيام بنفس الدور الذي كان يقوم به السلطان الأكثر تربعا على العرش في تاريخ الحكام العرب الحاليين.
قابوس في ضيافة مرشد إيران على خامنئي
التهديدات الأمنية
بالرغم من محاولات البعض التقليل من حجم المخاطر الأمنية التي تواجه ” عُمان ما بعد قابوس “، إلا أن الشواهد التاريخية تجبر القائمين على أمور هذا البلد على وضع هذه المخاوف تحت مجهر الاهتمام والعناية، وهو ما أشارت إليه العديد من الدراسات والتقارير الأمنية في المنطقة.
تحديان لا يمكن تجاهلهما من المحتمل أن يكونا غصًة في حلق السلطان القادم، الأول: التحدي القادم من الداخل، حيث أن الفراغ السلطوي الذي سيتركه رحيل «قابوس» ربّما يدفع بعض القبائل إلى محاولة إعادة «الإمامة الإباضية» إلى حكم عُمان مرة أخرى، حيث أنها لم تنسى ما فعله بها السلطان سعيد بن تيمور عام 1959، واعتقال 31 ناشطًا إباضيًا، واتهمتهم بالتآمر؛ لإعادة الإمامة الإباضية، وإن كان هذا الاحتمال ضعيفا إلا أنه يجب ألا يغيب عن أذهان المهتمين بمستقبل السلطنة.
أما التحدي الثاني: فهو القادم من الخارج، وحسبما ورد في الورقة البحثية التي ناقشت مستقبل ما بعد قابوس، فإن الاختراق الجهادي لعُمان يعد أمرا صعبا نتيجة عدد من العوامل التاريخية، السياسية والدينية والتي لعبت دورًا هامًا في استقرار السلطنة، فعلى الجانب الأمني، تتمركز القوات العسكرية اليمنية على الشريط الحدودي مع اليمن بمحافظة ” ظفار ” لمنع أي اختراق أمني أو تهريب أسلحة أو مواد تهدد امن واستقرار الدولة.
وسياسيا، فسياسة السلطنة التي تميل للغة الحوار وتسوية الخلافات بشكل سياسي سلمي بعيدا عن العنف، فضلا عن سيطرة مذهب التسامح والعدل على الفكر الإسلامي العماني وهو ما يتضح في كونها الدولة الخليجية الأكثر حمايةً واحتواءً للأقليات الدينية، من «الهندوس والمسيحيين والسيخ»، وهو ما أكده أيضًا تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن الحريات الدينية، في 2012، والذي أظهر غياب الانتهاكات المجتمعية، وجرائم التمييز العنصري، عن أراضي السلطنة.
تلك السياسة المتسامحة والتي تعلي قيم الحوار والعفو من الصعب أن تصبح أرضا خصبة للإرهاب والذي يحتاج إلى ساحات الصراع والمواجهات الفكرية والمسلحة وهو ما يغيب عن المشهد العُماني في الوقت الراهن.
مما سبق يتضح أن هناك عدد من التحديات السياسية والاقتصادية ستواجه سلطنة عُمان بعد رحيل السلطان قابوس، بعضها يهدد امن واستقرار البلاد، فضلا عن أن تجاهل بعضها الأخر قد يدخل الدولة الأكثر استقرار في المنطقة في غياهب الصراعات، على السلطة تارة، وعلى لقمة العيش تارة أخرى، فماذا أعد القائمون على الحكم الآن لمواجهة هذه التحديات؟