بعد 38 عاما من تصريحات وزيارة السادات، طرح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي فكرة أخرى لما أسماه “بتوسيع دائرة السلام الدافىء مع إسرائيل”، لتدخل فيها بعض الدول العربية، إذا ما التزمت إسرائيل بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وحدود عام 1967!
تاريخيا لم يتخط السلام بين البلدين كونه سلامًا بين حكومتين، ولم يتحول أبدا إلى سلام بين شعبين، إذ لم تنجح حركات التطبيع، رغم كثرتها، في إعادة تشكيل الرأي العام المصري تجاه تل أبيب، التي يعتبرها قوة احتلال، وعلى الرغم من ذلك وجه السيسي مبادرته للشعب الإسرائيلي، وطالب الإعلام بدولة الكيان بإعادة بث كلمته عدة مرات!
محاولة للهروب
أزمات داخلية متتالية وفشل أمني واقتصادي، وحالة عامة متردية بالداخل المصري، تجاهلها كلها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ليعلن عن مسودة لمبادرة مصرية للسلام بين الفلسطينيين، وقوات الاحتلال الإسرائيلي.
المبادرة في حد ذاتها أو ما يمكن أن نسميه بـ “النداء المصري” ليست مستغربة من دولة بحجم مصر، ذات تأثير استراتيجي على المستويين الإقليمي والدولي وقبلهما العربي، لكن التوقيت فقط هو الذي يثير التساؤلات حول جدواها، ومدى إمكانية أن تخدم النظام قبل النظر لجدواها على الأطراف المعنية بها الفلسطينيين والاحتلال، ما يعني أن النظام المصري يسعى لرسم صورة ذهنية خارجية بحضوره وإمكانياته القيادية بالمنطقة.
المنطقة بأكملها تعاني من نيران موقدة وصراع مشتعل، على مدى سنوات عدة، والقدس المحتلة تتجرع مرارة الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي دون جدوى أو حل منذ عقود، على الرغم من المحاولات المتتالية لحلها ، ليظهر الآن السيسي ويعلن عن مبادرة مصرية لإحياء عملية السلام بين فلسطين وإسرائيل، لتكن ” .. صفحة مضيئة جديدة في تاريخ المنطقة”، على حد قوله شخصيا واصفا معاهدة السلام المصرية مع الكيان الصهيوني.
رد فعل مفاجئ
الملفت في الأمر أن القيادتين الأمريكية والإسرائيلية اللتين تجاهلتا خلال الأسابيع الماضية المبادرة الفرنسية الشبيهة بـ “النداء المصري”، سارعتا للإعلان عن دراسة الفكرة المصرية والترحيب بها، وسارع كيري لزيارة القاهرة بعد أقل من 24 ساعة من إعلان المبادرة، فيما سربت قيادات دولة الكيان أنباءً عن زيارة وفد رفيع المستوى للقاهرة لمناقشة المبادرة؛ ما يعني أن أمرا يحاك في الظلام يجب الحذر منه.
بعيدا عن فكرة المؤامرة دعونا نفند الفكرة من كل جوانبها الإيجابية قبل السلبية، لكي نتفادى الاتهامات المعلبة بمعاداة أي دور مصري نتمناه في القضية الفلسطينية.
من المعروف أن إسرائيل تنظر لمصر خلال الفترة التي تلت إسقاط حكم الإخوان المسلمين، بوصفها شريك استراتيجي مهم في المنطقة، ودورها فاعل في إمكانية “تحريك” عملية السلام، لكن هل هي جادة في الاستجابة إلى المبادرة، أم تنظر إليها من منظورها الخاص الذي سنبينه في السطور القادمة من هذا التحليل؟
السعودية هدف أول
المتابع للمشهد السياسي بالمنطقة يعلم تماما أن زيارة الوفد الإسرائيلي للقاهرة لن تحمل دلالات على جدية إسرائيل، ولكنها ستكون محاولة لإجراء اتصالات دبلوماسية؛ لاستجلاء المبادرة أو الفكرة، بل أنها لن تقبل أن تكون الدعوة المصرية تكرارًا لعملية مدريد، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتوقع خيرًا من نتنياهو، خاصًة وأن سياسته الواضحة لن تعطي للفلسطينيين الحد الأدنى من حقوقهم التاريخية، كما أنها لن تقبل أن تعود فلسطين إلى حدود 67، لكنها _المبادرة_ تصب في اتجاه آخر، هو محاولات النظام المصري لتوسيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل لإمكانية جر السعودية إليها، خاصة بعد اتفاقية ترسيم الحدود المبرمة مؤخرًا بين مصر والسعودية، بالإضافة لكون المبادرة يمكن أن تكون بديل مناسب للمؤتمر العالمي الذي تدعو له فرنسا، ويجد تجاهل كبير من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وهو ما يفسر سرعة الاستجابة الأمريكية والإسرائيلية لكلمات السيسي، حتى قبل أن تخط أقلام الدبلوماسيين المصريين الخطوط العريضة للمبادرة!
عربيا سنشهد خلال الأيام المقبلة ردود فعل إيجابية للنداء المصري من قبل الإمارات والسعودية، في محاولة لمحاصرة التحالف القطري – التركي الذي يقود القضية الفلسطينية الآن.
السيسي لم يقدم أى شروط مقترحة يقوم عليها هذا السلام، معتمداً فقط على ثقة الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى فى “رؤيته”، فى غياب أية ملامح لمشروع السلام المقترح – عن “ضمانات” مصرية للطرفين، وبعيدا عن ذلك كيف سيقنع النظام المصري الفصائل الفلسطينية المتناحرة للاجتماع على كلمة موحدة بخصوص التفاوض مع الكيان المحتل، مع كل ما يرونه من مظاهر الفرقة والانقسام فى مصر، وكيف سيقتنع الإسرائيليون برؤية الرئيس المصرى للاستقرار، مع كل ما يرونه من هشاشة الأوضاع فى مصر.
الداخل الإسرائيلي
دعونا إذا من نظرتنا لخطاب السيسي، لاكتشاف نظرة الجانب الإسرائيلي لها والتي بدأها “يتسحاق لفانون”، سفير إسرائيل الأسبق لدى مصر، خلال مقاله بصحيفة “يسرائيل هايوم” العبرية، الذي أكد فيه أن مبادرة السيسي لن تخرج عن كونها رؤية مصلحية بحتة ، لافتا إلى أن الرئيس المصري يريد أن يعيد لمصر الدور الذي كانت تقوم به في عهد مبارك، فيما يتعلق بالشرق الأوسط، والفوز بمساعدة أمريكية في المجالين الاقتصادي والعسكري واعتراف دولي بنظامه.
القراءة الإسرائيلية لم تقف عند هذه النقطة، بل تعدتها لاتهام صريح للسيسي بالتنسيق مع نتنياهو، حيث قال الكاتب الإسرائيلي “جاكي خوجي” في مقاله بصحيفة يديعوت أحرونوت تحت عنوان “مـاذا وراء مـبــادرة الــســيـســـي؟”، إنه وفقًا للمؤشرات، هناك تنسيق مسبق تم بين نتنياهو وزعيم معارضته هيرتسوج وبين السيسي بشأن مبادرة السلام المصرية؛ بهدف تهيئة الظروف لانضمام حزب العمل الإسرائيلي الذي يتزعمه هيرتسوج إلي الحكومة.
“السلام مثل الحرب كلاهما يحتاج للوحدة” هكذا ترى الصحيفة، معتبرة أن فكرة السيسي قربت وجهات النظر بين كل من نتنياهو، وزعيم معارضته هيرتسوج، الذي بات المرشح الأقوى الآن لمنصب وزير الخارجية.
وأضافت الصحيفة أن السيسي الذي كان في ماضيه غير البعيد رئيس الاستخبارات العسكرية المصرية، تعلم شيئا أو اثنين عن المعسكرات السياسية بإسرائيل، ويعرف أنه بدون هرتسوغ كوزير للخارجية، لا يمكن لنتنياهو أن يتحرك.
مبادرة خفية!
هنا لابد من الإجابة على تساؤل هام .. لماذا اختار السيسي أسيوط وخلال مناسبة تعد إيجابية وهي مشروع محطات الكهرباء لإعلان مبادرته تلك؟
الإجابة واضحة جدا أنه على الرغم من أنه يعلم أهمية التنسيق العسكري – الأمني – الاستخباري، يعلم أيضا كم العداء الذي يكنه الشعب المصري لدولة الكيان، وهذا هو السبب الذي جعله يختار مكانا نائيا جدا في جنوب مصر، لتسويق مبادرته أو معادلته القائمة على إعطاء أمل في دولة للفلسطينيين، ومنح ضمانات أمنية لإسرائيل، وهو بذلك يتعهد ألا يفرض حلولا من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكنه أن يسمح لنفسه بالفشل، لذا فإن خطته ستكون متعددة المراحل أولها الوحدة السياسية في الجانبين الفلسطينيين والإسرائيليين لتوحيد الأصوات ووجهات النظر، وفي حال تحقق ذلك سيتم الانتقال إلى مرحلة المفاوضات، حول الحدود، والمستوطنات، وتقسيم القدس وحق العودة.
إذن ما هي مكاسب مصر السياسية في حال نجحت في ذلك؟
بالإضافة لما سبق التأكيد عليه من المكاسب الاقتصادية والعسكرية من خلال الدعم الأمريكي والمعونات، فإن مبادرة السيسي تأتي في ظل قلق متنامي بداخل دوائر صنع القرار المصرية، من إمكانية رد فعل غير محسوب من قبل محمود عباس أبو مازن في نهاية تواجده على رأس السلطة الفلسطينية، وفي ظل التخاذل الأمريكي، وانشغالها بالانتخابات، ومع اقتراب دخول ترامب للمكتب البيضاوي، هذا التخوف والقلق المصري نابع من إمكانية لجوء أبومازن إلى خطوات أحادية الجانب، مثل التوجه إلى مجلس الأمن مطالبا بالإعلان عن نهاية الاحتلال، أو رفع دعوى ضد حكومة إسرائيل في لاهاي على ارتكاب جرائم حرب، وهي الخطوة التي سترد عليها دولة الكيان بقوة وعنجهية، لتشتعل شرارة المواجهة بالضفة ومنها بالطبع إلى غزة، وإذا ما أصيبت غزة بالعدوى فستكون احتمالاتها في أن تتسرب إلى سيناء كبيرة، وبالتالي فإن خطوة السيسي بمثابة قرص مهدئ للحالة القابلة على الاشتعال بالمنطقة، على أن توافق إسرائيل بالمقابل على ما يمكن تسميته بـ “دويلة فلسطينية في حدود الجدار” مقابل “سلام السيسي الدافىء”!