ترجمة وتحرير نون بوست
أصبحت فنزويلا اليوم دولة فاشلة؛ فوفقًا لأحدث الإحصاءات الصادرة عن صندوق النقد الدولي، تمتلك فنزويلا أسوأ نمو اقتصادي في العالم، تعاني من أسوأ تضخم، وتحتل المركز التاسع ضمن أسوأ الدول في معدلات البطالة في الوقت الراهن، كما تحتل المركز الثاني في معدل انتشار جرائم القتل، ناهيك عن أن معدل وفيات الرضع ضمنها اطرد بالسوء حتى 100 مرة خلال السنوات الأربع الماضية، وفي حال لم يكن جميع ذلك سيئًا بما فيه الكفاية، فإن عملة فنزويلا الوطنية، فقدت 99% من قيمتها، إذا ما حكمنا على ذلك من خلال السوق السوداء، منذ بداية عام 2012؛ بالمحصلة، هذا ما يمكن تسميته بالانهيار الاجتماعي والاقتصادي الكامل، والذي حدث على الرغم من أن فنزويلا تتمتع بأكبر احتياطي للنفط في العالم.
لم يسبق لبلد كان يجب أن يكون غنيًا للغاية وأن تحوّل ليصبح بهذا الفقر، ولكن الأمر ليس مستغربًا؛ فالحكومة الفنزويلية هي المسؤولة حتمًا عن ذلك، فعلى الرغم من أن سقوط أسعار النفط إلى مادون الـ50 دولارًا للبرميل لم يساعد فنزويلا في محنتها، ولكن هذا الانخفاض بالأسعار لم يكن يتوجب أن يكون قاسيًا لدرجة يتحتم فيها على الدولة دخول حالة من الديستوبيا الجنونية على غرار تلك التي يصورها الفيلم السينمائي ماكس المجنون (Mad Max)؛ فبعد كل شيء، جميع البلدان الأخرى التي يبدأ اقتصادها وينتهي بحدود الآبار النفطية استطاعت على الأقل تجنب هذا المصير المزري، وهذا ما يعني بأن فنزويلا هي كارثة من صنع الإنسان.
إنها دولة عصابات، لا تعرف كيف تمارس أي عمل سوى بيع المخدرات وسرقة المال لنفسها؛ ففي الواقع، تم القبض على اثنين من أبناء عمومة الرئيس نيكولاس مادورو بتهمة التآمر لإدخال 800 كغ من الكوكايين إلى الولايات المتحدة، كما يُشتبه بأن الساعد الأيمن للرئيس يقوم بإدارة عصابة لتهريب المخدرات بنفسه، فضلًا عن أن المال العام يتمتع بعادة من الاختفاء لا يمكن تفسيرها إلا من خلال صبّه ضمن الجيوب الخاصة.
يقدّر مسؤولان سابقان من فنزويلا، بأن العام الماضي شهد اختلاس أموال عامة تصل قيمتها إلى حوالي 300 مليار دولار، وهنا يكفينا أن نعرف بأن منظمة الشفافية الدولية تصنف فنزويلا كتاسع أكثر دولة فسادًا في العالم، والدول التي تتأخر عنها في التصنيف، الصومال، كوريا الشمالية، أفغانستان، السودان، جنوب السودان، أنغولا، ليبيا، والعراق، جميعها دول مارقة أو ممزقة بالحروب التي تعصف بها.
فنزويلا هي التمثيل الحي لما قد تؤول إليه الأمور في أي دولة تسيطر عليها كارتلات المخدرات، الأميّة اقتصاديًا، لتدير شؤونها بطريقتها الخاصة؛ فالفساد لم يعمل على إثراء حفنة من الأشخاص ضمن البلاد فحسب، بل عمل على خلق الكثير الفقراء أيضًا، ذلك أن الحكومة حاولت السيطرة على الاقتصاد إلى حد قتله، وبالطبع كل هذا جرى تحت مسمى “الاشتراكية”.
دعونا نستوقف أنفسنا لدقيقة هنا؛ هل كان يصعب على فنزويلا أن تنفق بعض عائدات البترودولار على الفقراء دون أن يعمل ذلك على تقويض اقتصادها؟ كل ما كان يتوجب عليها القيام به هو إرسال شيكات للمواطنين تتضمن مبلغ حصتهم من أموال النفط في البلاد، وهو ذات النموذج الذي طبقته ألاسكا، ولكي نكون منصفين، استطاعت فنزويلا القيام بذلك لفترة من الزمن، عندما كانت أسعار النفط في خانة المئات، وبهذه الطريقة خفّضت حكومتها نسبة الفقر في البلاد بمعدل 30% خلال الـ12 عامًا الأولى لها في السلطة.
ولكن لا يمكنك أن تستمر في توزيع عائدات النفط إن لم تحقق المزيد من الأرباح النفطية لإعادة توزيعها، والسبب الأول الذي يقف خلف ذلك هو قيام الرئيس السابق، هوغو شافيز، باستبدال الأشخاص الذين كانوا يتقنون عملهم في شركة النفط المملوكة للدولة بأشخاص يستطيع ضمان ولائهم له؛ حيث كان المقربون من النظام سعداء وعلى أتم الاستعداد لأخذ الأموال من الشركة، ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء ضخ الشركة بالأموال التي تشتد الحاجة لها لتحويل نفط البلاد الخام الثقيل إلى نفط مكرر؛ ونتيجة لذلك، انخفض الإنتاج بنسبة 25% بين عامي 1999 و 2013.
أما السبب الثاني الذي يقف خلف عدم تحقيق البلاد لأرباح نفطية تمثّل طبعًا بانخفاض أسعار النفط إلى النصف خلال العامين الماضيين، وإذا ما قمنا بإضافة هذين العاملين سويًا، بيع كميات أقل من النفط بسعر أقل من ذي قبل، فسينتج لدينا حكم بالإعدام الاقتصادي لبلد لا يمتلك اقتصادًا سوى بأعمال تصدير النفط، المُعوّل عليها لتدعم كل نشاط آخر في البلاد.
ولكن فنزويلا حصلت على شيء أسوأ من الموت، لقد أقحمت نفسها بنفق من الجحيم المستمر؛ فمخازنها فارغة، مستشفياتها لا تملك الأدوية الأساسية، فضلًا عن أن الدولة لا تستطيع تحمل تكلفة إبقاء أضوائها منارة؛ التقدم الذي حققته البلاد في محاربة الفقر انعكس على عقبيه، الشرطة تلاحق المحتجين، وعناصر الحراسة المدنيين يلاحقون صغار المجرمين، لدرجة قاموا فيها بحرق أب بالغ من العمر 42 عامًا وهو على قيد الحياة لسرقة 5 دولارات.
ولكن كيف وصلت الأمور إلى هذا المنحى؟ السبب خلف ذلك هو أن الحكومة لم ترتضِ بمجرد السيطرة على قطاع النفط فقط، بل أرادات أن تسيطر على جميع أعمال البلاد؛ ففرضت التسعيرات على أصحاب الأعمال، وحددت الأشخاص الذين يُسمح لهم بفرض الأسعار، لا بل حددت أيضًا الأشخاص الذين يُسمح لهم بالاصطفاف ضمن الطوابير للحصول على تلك الأسعار المدعومة، وبالمحصلة، هذا هو الشيء الوحيد الذي توفّره فنزويلا بشكل جيد اليوم: ساعات وساعات من طوابير الانتظار.
إليك كيف يعمل، أو بالأحرى لا يعمل، النموذج الاقتصادي الفنزويلي: حاولت الحكومة الفنزويلية وقف التضخم الجامح الناجم عن طباعتها المفرطة وغير المحسوبة للعملة الوطنية من خلال إجبار الشركات على بيع سلعها بأسعار تقل عن الأسعار التي تريدها الشركات، والمشكلة تكمن هنا بأن الشركات لن تعمل على بيع منتجاتها بأقل من أسعار تكلفتها؛ مما أسفر عن ترك رفوف المتاجر فارغة بدون بضائع، وللتعويض عن ذلك، قامت الحكومة بدعم قلة مختارة من الأعمال من خلال بيعها الدولار بأسعار تنخفض للغاية عن أسعار السوق؛ فمثلًا يبلغ سعر تداول البوليفار الفنزويلي في السوق السوداء حوالي 1750 بوليفار للدولار الواحد في الوقت الراهن، ولكن السعر التفضيلي للحكومة، والذي تدعم من خلاله بعض التجار، هو حوالي 6.3 بوليفار للدولار الواحد، إذن، الأمر يشبه دفعك لدولار واحد لتحصل مقابله على 170 دولار.
فكرة الحكومة من خلف هذا التصرف هي أن إعطاء الشركات الأموال سيتيح لها كسب المال، وهو سبب لإعادة تعبئة رفوفها، حتى عندما تبيع هذه الشركات بالأسعار المنخفضة عن سعر التكلفة التي يُفرض عليها التعامل بها، ولكن الرياح لا تجري دائمًا بما تشتهي السفن.
فكر في الأمر من خلال هذا المثال: يمكنك استخدام الـ169 دولار التي أعطتك إياها الحكومة لتشتري الحليب، مثلًا، بسعر 3 دولار في الخارج لتبيعه في الداخل بسعر 2 دولار، أو يمكنك أن تعيد بيع الدولار الذي كسبته بقيمة السوداء على الفور لتربح 169 دولار؛ ففي الحالة الأولى، ستكسب حوالي 112 دولار، أما في الحالة الثانية فتكسب 169 دولار.
إذن، ليس من المربح بالنسبة للشركات التي لا تدعمها الدولة بالدولار أن تعيد تعبئة رفوفها، وبالمقابل ليست من المربح بما فيه الكفاية قيام الشركات المدعومة بتعبئة رفوفها في الوقت الذي تستطيع أن تكسب فيه من بيع الدولار في السوق السوداء أكثر مما يمكنها تحقيقه من خلال بيع البضائع في الداخل، ولهذا السبب عانت فنزويلا من نقص حاد بالسلع الأساسية- في كل شيء ابتداءًا من الأغذية ومرورًا بالمشروبات الكحولية وورق المرحاض وحتى المستلزمات الطبية الخاصة- حتى قبل انخفاض أسعار النفط.
وهنا قد يتساؤل مراقبون، لماذا لا تقوم الحكومة بالتخلص من نظام دعم سعر الصرف؟ الإجابة ببساطة هو أنه إذا كان من الصعب أن تجعل شخصًا يفهم أمرًا تعتمد قيمة راتبه على عدم فهمه له، فإن الأمور تصبح أشد صعوبة عندما يعتمد اختلاس الأموال على عدم فهم الشخص لهذا الأمر، وبعبارة أخرى، تمتعك بسلطة اتخاذ القرار حول الأشخاص الذين يحصلون على الدولار المدعوم يعني تمتعك بهذا الدعم بحد ذاتك، ومن خلال ذلك يمكنك أن “تشفط” القليل من تلك المبالغ، أو ما يعادل 300 مليار دولار، إذا كنت ميّالا إلى ذلك، وهذا ما فعله أنصار تشافيز.
صحيح بأن هذه السياسة لا تعد حكيمة على المدى الطويل، ولكن ضمن هذا المدى الطويل سيعمل المستفيدون على تحويل أموالهم إلى حسابات مصرفية سويسرية وإلى الشقق الخاصة في ميامي، وفي غضون ذلك مازل يوجد لدى المسؤولين بلدًا لينهبوها.
المصدر: واشنطن بوست