ماذا يحدث حين تنخفض أسعار سلعة ما؟ طبقًا لما تقوله أساسيات الاقتصاد فإن المستهلكين يتجهون بشكل أكبر لشرائها مستغلين هبوط أسعارها، تمامًا كما يحدث حين تقوم المتاجر المختلفة بالإعلان عن فترة تنزيلات لبضائعها أملًا في جذب المزيد من المشترين، والذين قد يتجهون لشراء ما يزيد عن حاجتهم من الملابس إذا أعجبتهم على سبيل المثال، وتلك القاعدة لا تبدو منطقية لأول وهلة في عالم الطاقة، فهبوط أسعار الكهرباء مثلًا أو البنزين لا يعني شراء كميات أكثر مما نحتاجه منها، بيد أنها تصبح منطقية خاصة إذا ما تحدثنا على مستوى عمالقة الاقتصاد العالمي كالصين والولايات المتحدة، والذين يقومون بالفعل ببناء احتياطيات من براميل النفط لاستخدامها وقت الأزمات في المستقبل.
الصين بالتحديد عاكفة هذه الأيام على زيادة الاحتياطي الخاص بها، مستغلة في ذلك هبوط الأسعار الشديد لشراء أكبر كمية ممكنة بالسعر الرخيص، فعلى الرُغم من تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني، وهي واحدة من مسببات هبوط أسعار النفط أصلًا بسبب تراجع الطلب على النفط في السوق الصيني المتباطئ، إلا أن استيرادها لبراميل النفط الخام قد زاد خلال العام الماضي بشكل أتاح لها إضافة 124 مليون برميل نفط لمخازن الاحتياطي، وهو ضعف الرقم الذي قامت بتخزينه في العام الذي سبقه.
تستمر أسعار النفط على حالها تحت حاجز الخمسين دولار، ويستمر شحن النفط المتنامي، حيث وصل عدد ناقلات النفط المتجهة للموانئ الصينية مؤخرًا لأعلى معدل له منذ 16 شهرًا، علاوة على إضافة الصين خلال الربع الأول من العام الحالي 787 ألف برميل إلى مخازنها في أعلى معدل أيضًا منذ عام 2004، وهي إضافات تهدف بها الصين للوصول إلى الاحتياطي الخاص بها إلى حوالي 600 مليون برميل بنهاية العقد الحالي، أي 90 يومًا من احتياجاتها النفطية، في ارتفاع واضح عن الاحتياطي الموجود حاليًا، والذي يُقدر بحوالي 200 مليون برميل أو 30 يومًا فقط.
طبقًا لعدد من المحللين المتخصصين في مجال الطاقة، فإن أحدًا لم يتوقع زيادة بهذا الشكل في استيراد الصين للنفط، هكذا يقول دانييل أنغ، المحلل بشركة فيليب فيوتشرز، مضيفًا أن الصين قد قاربت بالفعل على ملئ جميع مخازنها الموجودة، ولكن تلك التوقعات لم تأخذ في الحسبان أمرين مهمين؛ أولهما أن الصين شرعت في بناء منشآت تخزين جديد في الفترة الماضية بخمسة مواقع على الأقل ستستوعب 100 مليون برميل أو أكثر، علاوة على منشآت لا تزال قيد الإنشاء.
أما ثانيهما فيأتي من تحول في إحدى السياسات الخاصة بمنشآت تكرير النفط في الصين، والتي فرضت عليها قوانين الحكومة المركزية الصينية قيودًا في كمية النفط بعد تكريره التي تستطيع إنتاجها يوميًا في السابق، إذ قامت مؤخرًا بإرخاء تلك القيود من 20 ألف برميل فقط مسموح بإنتاجها يوميًا إلى 100 ألف، أي زيادة خمسة أضعاف في الإنتاج، وهو ما أدى لقفزة في استيراد منشآت التكرير الصينية لبراميل النفط، لا سيما وأن تلك المنشآت عانت في السابق من عدم استغلال إمكانياتها كاملة وفق القوانين القديمة لتقف عند إنتاج 30 أو 40 بالمائة فقط من قدرتها الكاملة، وهو ما يعني أن استيرادها للنفط حاليًا قد زاد على الأقل بمرتين أو ثلاث.
فكرة إنشاء احتياطي من براميل النفط
من أين أتت فكرة تخزين فائض من النفط لوقت الأزمات؟ تعود تلك الفكرة لحظر تصدير النفط الذي قامت به الدول العربية المصدرة للنفط في أكتوبر 1973 أثناء الحرب بين مصر وسوريا من ناحية وإسرائيل من ناحية، وهو الحظر الذي استمر حتى مارس 1974 وأدى لمضاعفة أسعار النفط عالميًا أربع مرات، ليُحدث طفرة اقتصادية هائلة لدى الدول المصدرة للنفط مثل السعودية وإيران وروسيا ونيجيريا وفنزويلا والكويت وليبيا، ولكن يؤدي في نفس الوقت لأزمة طاحنة لدى الدول المستوردة، خاصة الغربية منها والتي طالها حظر النفط وهي على أبواب فصل الشتاء.
كنتيجة لتلك الواقعة، قامت الولايات المتحدة عام 1977 بتدشين أول احتياطي إستراتيجي من النفط Strategic Petroleum Reserves والمعروف اختصارًا بـSPR، وهي سياسة راكمت فائضًا من براميل النفط في مخازن مخصصة لذلك حتى وصلت بالاحتياطي اليوم إلى حوالي 690 برميل، بما يكفي لتلبية احتياجات الاقتصاد الأمريكي كاملة لثلاثة وسبعين يومًا، وهو احتياطي لم يعد ملحًا بالطبع بالنظر لثورة النفط الصخري الأمريكي، والاكتفاء الذاتي الذي اقتربت الولايات المتحدة من تحقيقه في مجال النفط، لكن ذلك لم يغنيها عن الإبقاء على الاحتياطي لاستخدامه تحت أي ظرف يتعلق بأزمة في إنتاجها المحلي، لتتفادى ما جرى عام 1973.
على نفس المنوال سارت معظم الدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية، والتي يملك معظمها حوالي 90 يومًا من الاحتياجات النفطية كاحتياطي في المخازن، والصين بدورها تسير على نفس الطريق منذ ظهورها كعملاق اقتصادي يستورد النفط والغاز بنهم شديد لتزويد شعبه وصناعاته بالطاقة، وبالنظر للهبوط التاريخي في أسعار النفط حاليًا، فإنه ليس من وقت أنسب لزيادة معدل الشراء والتخزين مثل هذه الأيام، لا سيما وأن الأزمة الاقتصادية التي طالت منتجي النفط الآن مثل السعودية وإيران وروسيا تدفعهم للبحث عن مشترين أكثر من أي وقت مضى لسد العجز في الميزانيات، وبالأخص السعودية التي تريد الاستمرار في سياساتها بضخ النفط للأسواق والحفاظ على نسبتها من السوق بوجه منافسة شركات النفط الصخري الأمريكي.
هل التخزين الصيني كفيل برفع سعر النفط؟
الصين تملك الآن 219 برميل كاحتياطي، وتتجه لبناء منشآت تحتوي على 132 مليون برميل، وتخطط لمنشآت تحوي 148 برميلًا آخر
السؤال الآن هو ما إن كان ذلك التوجه الصيني كافيًا لإعادة الأسعار إلى ثمانين ومائة دولار للبرميل كما كانت قبل سنوات، وما إن كان الطلب الصيني الزائد عن الاحتياج داخل الصين كفيل بأن يؤدي لارتفاع سعر النفط وفقما تقول القاعدة الاقتصادية الكلاسيكية، والجواب هو أن الطلب الصيني الزائد يؤثر قليلًا في عدم سقوط الأسعار لأقل من 35 دولارًا، لكنه ليس كافيًا لرفع الأسعار بنفسه، فالنمو في الطلب على النفط لتخزينه لا يمكن بحال أن يتجاوز 3% هذا العام، في حين يحتاج النفط إلى زيادة في الطلب لا تقل عن 10% ليقفز بسعره.
“فائض النفط حاليًا في السوق العالمي هو حوالي مليونيّ برميل يوميًا، واتجاه الصين ناحية تعزيز الاحتياطي الإستراتيجي للنفط لا يستغل سوى نصيب ضئيل من تلك الكمية اليومية،” هكذا يقول ميسوين ماهِش، أحد محللي بنك باركليز في لندن، فالصين لا يسعها أبدًا أن تستورد هذا الرقم في اليوم الواحد لاستيعاب الفائض العالمي، بل ولا يمكنها حتى أن تستورده أو تستورد نصفه في شهر واحد، وهو ما يعني بالتبعية أن 2% من الفائض العالمي يتجه للمخازن الصينية، في حين تظل هناك ملايين من البراميل شهريًا متاحة في الأسواق تؤدي للإبقاء على سعر النفط دون الخمسين دولارًا.
عودة النمو الصيني لسابق عهده فقط هي الكفيلة بدفع برميل النفط لعبور ذلك الحجز إذن، نتيجة الطلب القوي الذي ستجلبه في قطاعات الاقتصاد الصيني المختلفة، وبالنظر لكون التباطؤ الأخير سمة باقية لفترة طويلة في الصين نتيجة تحوّلها من اقتصاد نامي إلى اقتصاد متقدم على غرار اليابان وألمانيا، فإن أسواق النفط ستكون بحاجة إلى ظهور طلب قوي على النفط في مناطق مختلفة تعوّض تراجع النمو الصيني، وأبرز المرشحين حاليًا هم الهند ودول جنوب شرق آسيا وبعض الدول النامية في أفريقيا مجتمعة.
علاوة على ذلك، فإن عودة ذلك النمو للاقتصاد العالمي سيعبر بالبرميل حاجز الخمسين دولارًا لكنه لن يعود به إلى المائة دولار بسهولة، وذلك لأن أحد الأسباب الرئيسية في هبوط أسعار النفط كانت ثورة النفط الصخري الأمريكية، والتي يجب أن يحصل فيها تباطؤ هي الأخرى نتيجة لتكلفتها المرتفعة مثلًا، أو نمو الطلب الأمريكي بشكل يفوق إنتاج الشركات الأمريكية، وهي توقعات لن تحدث على الأرجح قبل العام 2020 وفق تقرير وكالة الطاقة الدولية.