معالم خريطة أولية للمجتمعات العربية
عند القيام بالنظر لمجتمعاتنا العربية باستعراض منظومات القيم وتراكيب العلاقات يمكن أن نجد الآتي:
عاشت هذه المنطقة من العالم عصورًا تاريخية مختلفة، وسرت فيها دعوات وعقائد وأيديولوجيات ودول مختلفة مازالت آثارها وشواهدها قائمة حتى الآن، ويمكن القول بأن الوضع الحالي للمنطقة تشكل على إثر نتائج الحرب العالمية الأولى وتداعياتها، وهناك العديد من الدلائل التي تشير أن المنطقة تعيش حاليًا تصدع المعادلات القديمة وهناك إرهاصات لمرحلة جديدة لم تتضح ملامحها بعد.
وتقع هذه المنطقة في مكان جغرافي كان يتوسط إمبراطوريات عديدة ويحوي ممرات برية ومائية هامة ويحتوي على موارد طبيعية تهم العالم، كما أن هذه المنطقة تحتوي على أماكن مقدسة للعديد من الديانات، كان هذا المكان مسرحًا دائمًا للغزو الخارجي والاحتلال الاستيطاني والحروب الأهلية والتهجير والهجرات، آثار وشواهد كل ذلك مازالت قائمة حتى الآن.
ما تراكم من تفاعلات الزمان والمكان أنتج كثيرًا من القضايا الوجودية العالقة والتي يتعاقب انفجارها وهدوءها في تجارب تطبع بصماتها على الأجيال المتلاحقة وعلى أشكال الحراك الاجتماعي.
لا يتسع المجال في هذا السياق للحديث عن هذه التفاعلات وحصادها بالتفصيل، لكن يمكن القول بأن المجتمعات العربية تسود فيها ثلاثة نظم قيمية في خليط تختلف نسب مكوناته منها من مكان إلى آخر، كما أن هناك نظامان يظهران بشكل أقل في بعض الطبقات أو في بعض الحالات.
إن غالبية مجتمعاتنا تعيش في ذات الوقت والمكان ثلاثة أزمنة أو عوالم مختلفة، وأحيانًا أكثر من ذلك.
- في العالم الأول
مهما اختلفت أسماء وشعارات التنظيمات التي يقوم تماسكها على روابط الدم أو العلاقات الوشائجية وتسعى ليكون لها سلطة ما على الآخرين، فهم يعيشون جميعًا بنفس منظومة القيم وطريقة التفكير والتقييم والنضج النفسي، يمكن أن ترى هذا العالم في التجمعات والتنظيمات القبلية، والحركات والأحزاب السياسية وأجهزة الدولة التي تحولت إلى قبائل، والشركات العائلية، والتنظيمات العسكرية الفئوية أو الجهوية.
- وفي العالم الثاني
مهما اختلفت أسماء وأيديولوجيات التنظيمات التي يقوم تماسكها على اعتقادهم امتلاك معتقدات سامية تجعل لها تميزًا ووضعًا خاصًا فوق الآخرين وأن من واجبهم فرض هذه المعتقدات، فهم يعيشون جميعًا بنفس منظومة القيم وطريقة التفكير والتقييم والنضج النفسي، يمكن أن ترى هذا العالم في التنظيمات الدينية والقومية والعلمانية الشمولية والتنظيمات العسكرية العقائدية.
- وفي العالم الثالث
حيث تحالفات المال والسلطة في اقتصاد ريعي بالأساس، تحالفات تمتد لخارج الحدود مع أشباهها في العالم، يحضرني هنا مصطلح “حكم الشركات Corporatocracy” الذي صاغه جون بيركنز صاحب كتاب “الاغتيال الاقتصادي للأمم.. اعترافات قرصان اقتصادي”، وكان مما ذكره في سياق شرح هذا المصطلح أن شبكات مجموعات النخب التي تتحكم في كثير من الشركات متعددة الجنسيات – التي كان هو شخصيًا يعمل لدى إحداها – والمنظمات والحكومات حول العالم تشكلت بسبب وجود منظومة قيمية عند فئات معينة من البشر وليست نتيجة لعملية تآمر وتخطيط مركزي.
لا يوجد حاليًا إحصاءات يمكن الاعتماد عليها في تقدير النسب، لكن بحسب تقديري فإن هذه العوالم الثلاثة تشكل غالبية المشهد الاجتماعي السياسي في المجتمعات العربية.
هناك أيضًا عالم صغير يتواجد بأعداد ليست كبيرة وتجربة لم تنضج بعد يمكن أن تراه في بعض التجمعات والمنظمات التي تبحث عن بدائل سياسية واقتصادية واجتماعية تصلح لقطاع من الناس في المجتمع وتراعي البيئة التي يعيشون فيها.
بعد هذا العرض المختصر يمكنني الآن أن أعود للإجابة عن سؤال معادلة النجاح لأقول بأن معادلة النجاح المذكورة كانت تنتمي إلى قيم عالم لم يتشكل بعد بشكل منظم وواسع في المنطقة العربية، ولنسمه “العالم الجديد”.
بغض النظر عما آلت إليه الأمور لاحقًا وبغض النظر عن تفاصيل الأحداث، ففي لحظة معينة وبشكل قدري، تصرفت أطراف المعادلة وكأنها نظام شبكي تكاملي تؤدي فيه مختلف الأطراف المشاركة أدوارها بشيء من التناغم والاحترام والثقة بين المكونات وبشيء من اللامركزية التي وسعت الجميع أفرادًا ومنظمات.
لم يكن استمرار المعادلة الناجحة يحتاج لحصول تحول فوري في نظم القيم عند جميع الأطراف، ولكن ما كان مفقودًا أو ما لم يحصل بشكل كافٍ هو تواجد عنصر مكون جديد في المعادلة يكون دوره الأساسي تشجيع ودفع الأطراف المختلفة أن تعيش نظمها القيمية الحالية بحالة صحية وأن يقوم بدور التنسيق الوظيفي الفعال ومراقبة وإصلاح حالة التفاهم والثقة التي تكونت.
في رأيي، كان عدم الوعي بمعادلة النجاح وانغلاق كثير من الأطراف داخل نظمهم القيمية وعدم تشكل العنصر الجديد في المعادلة الضامن لاستمرارها هي العوامل الرئيسية الثلاثة التي أدت لعودة مختلف الأطراف – وإن كان بنسب مختلفة – ليتصرفوا طبقًا لما تمليه نظمهم القيمية كما تعودوا عليها بحالتها غير الصحية والتي كانت تؤدي إلى الفشل سابقًا باستمرار.
فلم يثبت أي كيان منظم ولا أي مجموعات منظمة أنهم كانوا منفتحين بشكل حقيقي وكامل للتغيير، فمعظم المجموعات المبادرة بدا وكأنها عالقة أو أسيرة داخل منظوماتها القيمية.
منظمات العالم الأول في الأغلب كانت منغلقة في نظمها وكانت جزءًا من المعادلات القديمة واستمرت كذلك، لكن بعضها واجه تحديات أودى بها لدرجات من التفكك.
ومنظمات العالم الثاني كانت تتأرجح بين الأسر والانغلاق، تعرض بعضها لهزات عنيفة أدت بالبعض لحراك داخل النظام القيمي وأدت بالبعض الآخر للنزول إلى الانتكاس أو التفكك.
أما منظمات العالم الثالث فاستمرت غالبًا منغلقة في نظامها بشكل غير صحي.
بذلك، فإن حصول تغيير على مستوى نظم القيم لم يتحقق ولو بشكل جزئي أو معقول، كما أن المشاكل الوجودية – كبعض العلاقات مع بقية المكونات القبلية والعرقية والطائفية والحزبية في المجتمعات والعلاقة بالدولة ومسألة السلطة – لكل عالم أو نظام قيمي مازالت عالقة ولم يحصل فيها أي تقدم حقيقي.
العنصر المفقود لاستمرار معادلة النجاح
مع قناعتي بأن النتائج التي وصل لها الحراك في المنطقة العربية طبيعية ومنطقية بسبب مستوى النضج النفسي عند مختلف الكيانات الموجودة في الساحة إلا أن النتيجة لم تكن حتمية.
ليس هذا مقام بكائيات على الماضي ولا مزايدة على أي طرف أو تحميله مسؤولية الإخفاقات، بل هو تأمل بعد جولة ميدانية في عدد من الدول العربية التي حقق فيها الحراك الشعبي بعض الإنجازات في البدايات ومحاولة للإجابة عن سؤال سبب إخفاق معادلة النجاح في الاستمرار وعن كيفية استخدام الأدوات المعرفية والتقنية المتوفرة في صناعة عنصر يضمن استمرار معادلة النجاح تلك بشكل فعال يؤدي إلى حالة المجتمع القوي المنشودة.
وقد كان القاسم المشترك الأكبر في التجارب التي استطعنا الاطلاع عليها هو وجود عدد كبير من المبادرات الصغيرة المتفرقة قليلة – إن لم يكن منعدمة – التواصل والتنسيق والتي تحمل رؤى فيها قواسم مشتركة.
ما كان لمعادلة النجاح أن تتكون بدون تلك الرؤية الجامعة التي تشكلت في لحظة تاريخية قدرية، وغالبًا كانت تلك الرؤية عبارة عن هدف واحد وهو الإصرار على رحيل رأس النظام وليس أكثر، فلما تحقق الهدف لم يعد هناك رؤية واحدة تجمع الناس حولها وتجعلهم يتحركون لا مركزيًا كله من موقعه ونظامه القيمي وبحسب قدرته باتجاه الهدف.
في رأيي، إن العنصر المفقود في المعادلة والذي كان من الممكن أن يضمن استمرارها هو الكيان أو مجموعة الكيانات القادرة على تحقيق التواصل وإدارة الحوار وتنسيق الرؤى بين المبادرات المجتمعية المختلفة ومساعدتها على التطور والاندماج وتنشيط الجوانب الروحانية الشافية للنفوس وإطلاق المشاريع والمبادرات التي من شأنها تغيير قواعد اللعبة وموازين القوى.
وإن كان الحراك الشعبي قد توقف في بعض المناطق أو دخل في متاهات العنف اليائس وفاته قيام هكذا كيانات فإن التاريخ لم ينته بعد، وأي حراكات قادمة لم يتم الإعداد لها والاستفادة من دروس الماضي لن تواجه مصيرًا أفضل من سابقيها.
ونكمل الحديث في المقال القادم.