خدروك بالوريد، وقالوا خُمولك مفيدٌ للوطن، مبعثرون نحن في المنفى، نحن الذين ركلتهم الحياة خارج أوطانهم وقالت لهم موتوا، اعتبروا فعلك هذا هرطقة، بدليل تجربتهم السابقة، رغم أنك لم تر أيديهم خارج جيوب بناطيلهم أبدًا، ولكن هل أخبرتهم أنهم خدعوا أنفسهم حين ظنوا أنهم مالكون لما حولهم، خدعوا أنفسهم حينما حشروا أنفسهم في عالم ضيّق، اكتفوا بالطعام والشراب، جعلوا بطونهم مقابرًا جماعية للنبات والحيوان، هم لم يقاتلوا لأجل ما أرادوا، هم فقط يبكون على ما فقدوا.
تستحيل أمامك الطرقات أوجاعًا، تعيش في حالة عارمة من الجري المتواصل، تدرك أن الطريق ما زال طويلًا، تسافر، تتأكد من صلاحية الحنين، تتشرب قهوة الغربة في الصباحات الباكرة، تتحدث إلى الناس حولك عن لواعج الوطن، يحسبونك مترفًا، وما أدركوا حجم النار المستعرة في داخلك، أثقلوا قلبك، تركوا جفاهم في صدرك، ومرة بعد مرة، فكلما تضيق الرؤية كلما تتسع العبارة، تقول بأنك تريد أن تبقى قويًا ومتماسكًا، لين العريكة، متواضعًا كريمًا، لأجلهم ولأجل من بقي على مسار السباق، ولكنهم لا يزالون يسفّهون أحلامك، ويسخرون من همتك، يتهمونك بشق الصف، ورغم أنهم يقولون ويكررون: من دخل قبره فهو آمن، فلا تستمع لهم، ولكنك رغم هذا تفكر بالتلاشي.
تفكر بدخول القطيع والتوقف عن التفرقة، يختل التوازن بين عالمك الحقيقي والخيالي، ترفض الخضوع، تفكر حينًا.. كيف ستسيطر على تناقضاتك، حتى أصبحت ذاتك متصدعة، يحسبك الجاهل غنيًا من التعفف، وأنت تبكي كما لم تبك عينٌ في غربة، تترحم على ضحكات لا تنسى، وعلى وجوه لا تمحى من الذاكرة، وصوتٍ اشتقت لسماعه، ولأن الأفكار تستمر ما دام هناك من يدافع عنها، فإنك تتساءل باستمرار: هل المأساة في الكسل والخمول، أم أنها في الشجاعة والهمة؟!
ذكر ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر أن من علامة كمال العقل: علو الهمة، وأن الراضي بالدون دنيء، وأن من أحب تصفية الأحوال، فليجتهد في تصفية الأعمال، فقد قال تعالى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا}.
أحيانًا يكون الأمر هكذا، فهم لم يدركوا أن الموت هو أفضل من حياةٍ بلا معنى، أفضل من ألفِ ألفِ حياةٍ بدون هدف، لم يعلموا أن هذا الدين قد بنيّ على أكتاف الرجال، على أكتاف رجالٍ صدقوا عهودهم، لم يكونوا ضعافًا ولا خادعين، كانوا مستعدين لأن يحملوا همّ الأمة، أدركوا أن الهم يتبع الهمة، يتبعها في عليائها، يكون عميقًا أكثر، أدركوا أن الهمة لا يدركها ورق الأرض ولا مدادُ الأمة، لم يكن لديهم ظمأ سلطة ولا شهوةُ خيراتٍ مادية، هم يملكون أكثر من ذلك، يملكون في صدورهم عقيدةٍ هي أكبر من هذا الكون، وإن الدنيا إنما تراد لتعبر لا لتعمر، وهذا ما يدلك عليه علمك ويبلغه فهمك، والعاجز من أتْبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، فالدنيا وسيلة وليست غاية، وتعس من جعلها غاية.
ولكن احذر، احذر من أن يغرك أمرك هذا، عندها لن تجد من يفوقك شقاءً، وأنت لست سوى مسكين مغرور، تذنب الذنب وتنسى، تظن نفسك مقياسًا للصواب، تظن أن الطريق إلى قلبك واضح، تظن أنك من الأخيار، فيبقى عقلك مهموم وروحك حزينة، وتملك فكرًا عظيمًا يعذبك أكثر من أي شيء آخر، تظن أنك تهوي من سماءٍ شاهقة، تحاول لملمة شظاياك، تحاصرك أحلامك بحثًا عن بقاياها داخلك، تخشى الوقوف على صخرة عالية، تخشى أن تكون القائد، تدع هذا لشخصٍ آخر، تأبى إلا أن تشتري السعادة بدماءك، ولن تجدها وأنت بعيد عن دينك، ولا تدرك أن السعادة هي بين يديك بدونِ ثمنٍ أو مقابل، بل بعبادةٍ واتباع.
تجهل أنك خليفة، وتنسى أن نور الله لا يوهب إلا للمصطفين، ولئن يهدي بك الله رجلًا واحدًا خير لك مما في هذه الحياة، وثق بأنك موهوب، ولتدرك أن الوقت ليس متأخرًا، وأن الله قد خصك بشيء مميز عن باقي البشر، قد وهبك قدرات مناسبة لتحقيق حلمك، ونِعم الله لا تفنى ولا تنتهي، لأنك تدرك أن جميعهم بشر، بينما أنت حياة، أنك الحياة بكاملها! ولأن بعض النِعم تأتي أحيانًا على صورةِ أشخاص فطوبى لقلوب مشرقة دومًا بالحب، مليئة بالهمة والعطاء، لذا فمن أي بابٍ من الأبواب يتسرب الشقاء إلى قلبك؟!