لم يكن الشباب في أكثر فترات التاريخ الماضية والحالية، وطيلة محطات مناصرة الدعوات والرسالات ومشاريع التغيير والإصلاح، وكذا الثورات، فئة على هامش متن المبادرة والاقتراح والبذل والمواكبة والتأثير في الزمن ووسم المسار بأعمال وأدوار لا زالت خالدة، بل كانوا فئة مزامنة لعصرها، ومنخرطة في الإجابة النظرية والعملية عن قضايا وانشغالات عديدة.
وقد ساهم شباب عالمنا العربي والإسلامي (باستثناء أولئك الذين أرادوا جعل أنفسهم كائنات عابرة؛ لا أثر ولا خبر) في الدفع بحركات التحرر الوطنية إلى تحقيق أهدافها، رغم مختلف العراقيل التي عرفها مسار التحرر الشاق والطويل، والأعطاب التي وضعت في الطريق لصرف الشباب عن واقع ومستقبل أوطانهم، وإفراغ طاقاتهم النقدية الخلاقة والعملية المبدعة من أي هم حضاري ووازع ديني ومضمون وطني، إلا أنهم استماتوا حتى أزف وقت إجلاء المحتل، وكانوا في الموعد مع لحظات التفكير والتنظير والعمل لتوسيع دائرة الوفاق الوطني من أجل بناء دولة الشرعية والديمقراطية وسيادة دور الأمة.
كما واصل الشباب الانخراط المباشر في نضالات الأمة ضد الفساد والاستبداد، ولم يرض الاستكانة لعهود التحكم والتكميم التي طالت لسنواتٍ، فقمعت الطاقات، وعطلت المقدرات المجتمعية والسياسية والثقافية لعدد غير قليل من شباب العالم العربي والإسلامي، فجعلوا من مطلب إسقاط الاستبداد ونظم الظلم العربية نقطة مركزية في جدول نضالهم ونشاطهم المدني، وباستثمارٍ ناجزٍ لوسائل تكنولوجيا الاتصالات الجديدة، عبأ الشباب سنوات القهر والفقر للثورة على الأنظمة العربية المتدثرة في رداء الدولة الحديثة القامعة للحريات والكابتة للتطلعات، وخرجوا للميادين محتجين ومفدين الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية بأرواحهم.
فكانوا هم الطلائع الغر لثورات الربيع الديمقراطي العربي، وأصوات الشعوب للتحرر وسواعد الأمة للنهوض والاستقلال الثاني، وهم الأمل الحي اليوم في تحقيق النصر التاريخي للأمة ضد المشروع الاستيطاني الإحلالي الغاصب لأرض فلسطين، وهم مكابح توقيف مشاريع التفكيك القائمة على استئناف ما بعد مأوية سايكس – بيكو في المنطقة العربية، وهم المعول عليهم في التخفف من أغوال الطغيان الأناني والترسبات الماضوية التي مزقت الأنسجة المجتمعية في أكثر من قطر، والانخراط في توجيه جهود نهوض “العائلة الوطنية” بأعباء ما بعدية الربيع الديمقراطي على أرضية وفاق تاريخي فاعل وموصل إلى المبتغى.
وهم المعقود في نواصيهم رهان إعادة الوهج للحركات الطلابية في الوطن العربي، وفي تكتيل جهود الاتحادات والمنظمات للعمل على النهوض بقطاع الطلاب، والإسهام الإيجابي في الدفع باستعادة الجامعات لأداء وظائفها الاستراتيجية، وعلى رأسها: إنتاج المعرفة، إنتاج القيم وتخريج النخب، وهم كذلك الفئة الــمتوقع منها الحفاظ على سلامة التنظيمات والهيئات والأحزاب والشبيبات والعمل التنظيمي المنظم الذي تشتغل فيه من فقدان المناعة والانزياح نحو التساقط الأخلاقي والترهل التنظيمي والارتخاء الوظيفي والفتور الإيديولوجي.
وقد أثار الحراك الديمقراطي الذي شكل طفرة عظيمة في التاريخ العربي الراهن، والذي لم ينبثق من تيار عقدي معين أو حزبٍ سياسي محدد، ولا مثل توجهًا إلا توجه القوى الحية في الأمة المتطلعة إلى استعادة وظائفها الأساسية التي ابتلعتها الدولة العربية الحديثة، (أثار) الإعجاب إلى مسألة غاية في الأهمية، تلك المتمثلة في تجاوز الفكر الكلاسيكي للثورات التي عايشتها الأجيال السابقة عن زمن 2011م.
إذ اندلعت ثورات – في المتن منها شباب العالم العربي – بلا “قيادة” جامعة، ولا “زعيم” موجه، ولا “إمام” مرشد، ولا “حزب” مخطط، ولا “جماعة” متحكمة في برنامج الثورة بدءًا وإبانًا وانتهاءً، بل جاء الربيع الديمقراطي على قدرٍ، معبرًا عن مخزون السخط المتراكم عبر سنواتٍ في البنيات التحتية للمجتمعات العربية، ومتجاوبًا مع حاجيات أجيال التحول والتلامس الحضاري التي أخذت من العولمة والحداثة والتقدم التـقني ما يخدم تلك الحاجيات وينجح خيار الانتفاض، ويدعم مسار الثورة وحلم استكمال معركة التحرير الوطني الكبرى.
كما استدعت لحظات ما بعدية الربيع الديمقراطي بسط مجموعةٍ من القضايا للنقاش والحوار والتفاكر الجمعي، ولعل أدعاها للحضور في برنامج القوى الوطنية، موقع الشباب العربي والشبيبات الحزبية والمنظمات الطلابية في الإعداد لما بعدية المرحلة، وفي التعاون على استكمال مسار الثورة، والإسهام في التأسيس لمرحلة جديدة للوطن تنبني على تحشيد الطاقات والفرقاء الوطنيين وتمتيع الشباب بالحق في النقاش والحوار وإبداء الرأي وإعمال النظر في الرهانات والقضايا الاستراتيجية، وتملك الخيار الديمقراطي ومفرداته العمل على تفعيل مخرجاته، وفسح المجال لقول كلمتهم فيما يخص ذاتيتهم الشبابية وتطلعاتهم وانشغالاتهم وما ناضلوا عليه قبيل ربيع الأمة، وإشراكهم في إدارة مرحلة الانتقال الديمقراطي، على أرضية وفاق وطني جامع، عاصم من تفرق الجهود وتفكك الحشود وهدر الطاقات وقمع الأفكار والمبادرات.
وتنطرح اليوم بقوة قضايا الشباب في أجندة اشتغال حكومات دول الربيع الديمقراطي، وتنتـصب الأسئلة ضاغطة على الفاعل السياسي والحكومي والمدني على حد سواء، محرجة إياهم فيما له صلة بتحقق ذاتية الشباب وأدواره في الوفاق الوطني من أجل الديمقراطية وبناء دولة “الوقت”، دولة الكرامة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وحماية الحقوق والحريات والنهوض بها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأوسع معانيه، وتثمين المنجزات وحماية المكتسبات وتحصين المسار والخيار، وعن موقع الشباب في الاستراتيجية الوطنية المندمجة، وحضوره في برامج التشغيل والتمدرس والسياسة الرياضية والفنية والثقافية، وتأثيره في السياسات العمومية، وموقعه من المؤسسات الدستورية، واستثمار قدرته على تجــدد وهج النضال الديمقراطي.
فكيف ينظر شباب المغرب والعالم العربي إلى مسألة الوفاق الوطني في بلدانهم؛ وما قراءاتهم لمساراته ومآلاته؟ وأية أدوار للشبيبات الحزبية والمنظمات الطلابية في إدارة استراتيجيات الانتقال الديمقراطي بالمنطقة؟ وهل يمكن أن نرى تقاربًا بين المرجعيات والأدلوجات وتعالي على تاريخ المآزق التي وضعت بعض الشبيبات والمنظمات و(الاتحاد الوطني لطلبة المغرب) نفسها فيه، والانتقال فورًا إلى الاجتماع على “كلمة سواء” بين الفرقاء الشباب، على ألا يتخذ بعضهم بعضًا منافسًا أو شيطانا مريدًا وجبت تصفيته، وألا يقدموا على مصلحة الوطن وشباب وطلاب الوطن مصالح جزئية أو فئوية، وأن يوقفوا نزيف الشتات الحاصل في المكان وفي الزمان وفي الأفكار والأذهان، وألا يضعوا نصب أعينهم إلا الاهتداء إلى الأهداف الصالحة والوسائل النافذة النافعة، وأن يعقدوا العزم على الاشتغال بشكل جمعي تعاوني على “التـفكير الكبير” وإنتاج الأفكار الكبرى المنسجمين مع الأهداف الصالحة، والانشغال “بالأفكار الطولى” الـمثمرة للوسائل النافذة؟ وهل يقدرون موقعهم في خريطة المجتمع المدني العربي الــمعاصر؟
إن إشكالات التعليم والتربية والتكوين والبحث العلمي، وتحديات البطالة والتشغيل والهجرة، ورهانات التقليص من الخسائر الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومعضلات العنف والتطرف والإرهاب، ومستجدات قضايانا الوطنية ومشكل وحدتنا الترابية، وآمال التجدد الذاتي والحضاري للأحزاب والحركات والمجتمع المدني، وصعوبات مدافعة الفساد والاستبداد والاستبلاد والتحكم.. إلخ؛ ملفات كبرى وقضايا لا يكفي عمر الواحد منا أن يشتغل عليها أو أن يوفيها حقها، ولا عمر شبيبة أو منظمة أو جمعية شبابية أو طلابية يكفي لذلك.
مما يعني لزومًا الاستثمار الأمثل لبيئة الاستقرار واستنفار الجهود الآن قبل الغد للشروع في تقديم ما يمكن تقديمه من أدوار لتفعيل وفاق وطني بين التنظيمات الطلابية والشبيبات الحزبية والبقية العاقلة من رشداء الحركة الطلابية المغربية والمغاربية والعربية، على أرضية برنامج وطني يضع الديمقراطية وسيلة وهدفًا، والنهوض والتقدم أفقًا وعملًا، والنهضة والحضارة وصولًا وأملًا.
إن جملة الإشكالات والأسئلة التي عرضنا أعلاه، نؤكد على ضرورة استحضارها في ترافق مستمر معنا، وبسطها بين أيدي الشبيبات والبقية المناضلة من فصائل الحركة الطلابية والمنظمات وشباب الجامعات، وليسلكوا عبرها مسلكًا هم بالغوه إذا ما أخلصوا القصد وجردوا السعي واستفرغوا الوسع وتخلقوا بأخلاق الكبار، ونهلوا من تجربة شباب الحركة الوطنية التي ناضل عناصرها بتحفز الشباب وبأحلام القادة العظام، فاستطاعوا أن يتركوا لنا وللتاريخ بصماتٍ لا تمحى، وما كنا بدعًا منهم، ولا أقل وطنية وحافزية وجاهزية عنهم، ولا أبطأ استيعابًا للدور والتحديات وعامل الوقت منهم.
فلنواصل المسير، نحو غاياتٍ أهم، ولنكن – حقا – خير الشباب بين الأمم، متوافقين متعاونين مناضلين ديمقراطيين، مـفوتين الفرصة على العابثين بالزمن الحضاري لبلادنا، والانتظاريين والانعزاليين، وزمرة المأزومين والمهزومين والفارغين والـمنسحبين، ولـــنــدع إلى وفاق وطني جامع بيننا معشر الطلاب والشباب وهيئاتهم المدنية الراشدة والناهضة.