شهدت نقاشات العلمانية في تركيا احتماءً جديدًا، غداة تصريحات رئيس البرلمان إسماعيل كهرمان الذي شدد على ضرورة عدم احتواء الدستور الجديد على مبادئ العلمانية.
وللاطلاع على العلمانية وتفاصيلها في تركيا، أجد أن اتباع أسلوب السؤال والإجابة الذي يعتمد عليه الخبير السياسي مصطفى كمال شان في مقالاته، نظرًا لما يوفره من سهولة في الطرح والاستيعاب، سيكون ملائمًا لطرح التفاصيل المعنية بشكل بيّن وموجز:
ـ لماذا أصبحت العلمانية سبب التوتر الرئيسي للأقطاب السياسية في تركيا؟
في الحقيقة رئيس البرلمان أعاد إحياء نقاشًا حادًا نائمًا ساهم أكثر من مرة في تدخل الجيش التركي عسكريًا، للانقلاب على نظام الحكم، حيث عادة ما كانت توصف الأطراف والحكومات التي تثوب المنهج المحافظ وتمنح الحريات الدينية للمواطنين بالرجعية أو التخلف، وهو ما جعل هذه الحكومات عرضة لانقلابات عسكرية خشنة، مثل انقلاب 27 مايو 1960، وأخرى ناعمة، مثل انقلاب 12 مارس 1971، بدعوى أنها تشكل تهديدًا للروح العلمانية التي تشكل الركيزة الأساسية للجمهورية التركية.
هذه الانقلابات النابعة عن دعم العلمانية الإقصائية أظهرت عبر التاريخ حقيقة العلاقة غير الصحيحة بين الدولة والدين في تركيا، حيث نتج عن هذه العلاقة تنافر واضح بين المواطنين الأتراك ودولتهم، إذ كان السبب الرئيس في احتدام العلاقة بين الطرفين هو تلك السياسة القمعية التي اتبعتها الدولة ضد مواطنيها المحافظين الذين رفضوا تطبيق العلمانية الإقصائية غير المعترفة بهويتهم الدينية في بلادهم.
ـ متى دخلت العلمانية في دستور الجمهورية لأول مرة ولماذا حازت على هذا الاهتمام المركزي في تركيا؟
على الرغم من أن تاريخ دخول العلمانية لدستور الجمهورية التركية يواكب عام 1937، إلا أن جذورها تعود إلى أقدم من ذلك بكثير، إذ إن التوجه العلماني بدأ يطفو على السطح في عهد التنظيم الذي بدأ عام 1839 عبر “فرمان غول خانه”، حيث قبل السلطان “عبد المجيد” بعض المبادئ العلمانية التي تم قبولها في الفرمان المذكور.
فرمان غول خانه كان بمثابة الشرارة التي أشعلت نيران الخلاف بين داعمي العلمانية والنهج الديني المحافظ، وقد ذكرت الوثائق التاريخية الانقلابات التي قام بها الوزراء داعمو العلمانية على الخلفاء الذين عارضوا تطبيق بعض مواد العلمانية، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الانقلاب الذي قام به مدحت باشا وأصدقاؤه ضد السلطان عبد العزيز عم السلطان عبد الحميد الثاني عام 1876.
وأخذ الخلاف الدائر بين الفكرين بالاتساع والتعمق حتى تم ترسيخ النهج العلماني للجمهورية التركية من خلال القوانين والمواد والدستور العلماني الذي اعترف بالعلمانية أساسًا للدولة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ـ كيف تأثرت العلمانية التركية من النماذج الأوروبية، وما هو الفارق الأساسي بينها وبين العلمانية الغربية؟
في الحقيقة عند إجراء مقارنة بين العلمانية التركية والعلمانية في الدول الأخرى، نلمس أن العلمانية التركية هي فريدة من نوعها ولا مثيل لها إلا في الجمهوريات الأولى لفرنسا، حيث تم فرضها آنذاك بنفس الشكل الذي تم تطبيقها من قبل مؤسسي الجمهورية التركية، حيث فُرضت على أساس أنها الهدف وليس الوسيلة للوصول إلى دولة علمانية تعامل جميع مواطنيها بشكل متساوٍ، ولكن ليس دون الرجوع إلى توجههم الديني، بل من خلال محو أي توجه ديني لهم سواء على صعيد الحياة السياسية أو الاجتماعية، عندما تحولت العلمانية إلى هدف أصبحت إقصائية وأصبحت تحارب وبدموية، في بعض الأحيان، أي شخص يعارض ولو مبدأ واحد من مبادئها.
ـ هل سيكون هناك علمانية في الدستور الجديد، وإذا كانت ستحتل مكانًا به فكيف سيكون الإطار العام لها؟
بعد عدة لقاءات أجريتها مع المقربين والمطلعين على دهاليز المشاورات السياسية لحزب العدالة والتنمية، خرجت بنتيجة شبه أكيدة ونهائية تنص على أن حزب العدالة والتنمية يريد تطبيق العلمانية في تركيا، للحفاظ على نظام عملها المؤسساتي بعيدًا عن الانجرار نحو التوجهات الدينية التي يمكن أن تولد خلافات قوية بين مواطنيها وبينها وبين الدول الأخرى وخاصة دول الاتحاد الأوروبي.
أما عن كينونتها، فقد رُسم لها أن تكون علمانية معتدلة تهدف إلى إبعاد التوجهات الدينية والمذهبية عن مؤسسات الدولة، وليس إبعاد المحافظين ومحاربة دينهم، وهذه التطبيقات أصبحت واضحة على الساحة دون دسترة العلمانية على هذا الأساس، ولكن مع وضعها في الدستور على هذا الأساسي، سيكون لها فرصة أكبر في الديمومة.