لطالما تردد على أسماعنا العديد والعديد من الأمراض والأزمات التي تصيب الاقتصاد، والمقصود بالمرض هنا هو اختلال في تفاعلات الاقتصاد سببها تراجع الاقتصاد الإنتاجي في مقابل زيادة إيرادات الثروات الريعية على الدولة يترافق معها زيادة في معدلات البطالة والفقر والفساد وغيرها، والمرض الهولندي أحد تلك الأمراض.
المرض الهولندي
يعبر مفهوم المرض الهولندي عن الآثار غير المرغوب فيها التي يخلفها اكتشاف الموارد الطبيعية على القطاعات الإنتاجية وخصوصًا القطاع الصناعي، وسمي بهذا الاسم نسبة إلى حالة الكسل والتراخي الوظيفي التي أصابت الشعب الهولندي في النصف الأول من القرن الماضي 1900-1950 بعد اكتشاف النفط والغاز في بحر الشمال، إذ جلس الشعب عن العمل وركن إلى الراحة والخمول والإنفاق الاستهلاكي في شتى المجالات، مقابل تلقي إعانات بطالة من الدولة، بل تفشت ظاهرة إعانات الإعاقة والعجز حيث وجد الفرد أن أخذ إعانات بطالة وإعاقة أفضل له من العمل والإنتاج.
بعد فترة ظهر ما لم يكن في الحسبان أمام الدولة الهولندية، فبسبب الاستخدام المفرط وغير الرشيد لآبار النفط والغاز تم استنزافها ونضوبها في النهاية فأصيب الاقتصاد الهولندي بصدمة كبيرة وتوقف الوراد الذي كان يرد الدولة من تلك الثروات، فسمي بالمرض الهولندي علمًا أنه معروف على الصعيد العالمي منذ أكثر من 30 عامًا وأول من نشر هذا المصطلح مجلة الإيكونوميست البريطانية في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1977.
يقول البروفيسور جوزيف ستيغلز الحائز على جائزة نوبل عن هذا المرض “بعد اكتشاف الموارد السخية في هولندا واجهوا معدلات متزايدة من البطالة وتفشي ظاهرة الإعاقة بين صفوف القوى العاملة، فالغريب أن العمال الهولنديين الذين فشلوا في البحث عن وظائف اكتشفوا أن استحقاقات العجز والإعاقة أفضل لهم ماديًا من الاكتفاء باستحقاقات البطالة”.
والمعنى العام الكامن للمرض الهولندي ينصرف إلى العلاقة بين التوسع في استغلال الموارد الطبيعية معدنية كانت أم زراعية وبين الانكماش في مجال الصناعات التحويلية، وهي نفس العلاقة التي تفضي إلى مزيد من العوائد المالية وفي نفس الوقت تخلق فرص عمل قليلة للعمالة الوطنية، وربما مزيد من استيراد قوى عاملة أجنبية تتمتع بمهارات خاصة ومطلوبة في ظل انكماش تصدير المنتجات المحلية المصنعة التي تفقد بإطراد مزاياها النسبية من جهة ولا تكاد تصمد للمنافسة السعرية لأسواق التبادل التجاري الدولي من جهة أخرى.
وطن غني ومواطنون فقراء
نتيجة ارتفاع حصيلة الموارد الطبيعية ارتفعت قيمة العملة المحلية في هولندا، مما جعل السلع الهولندية المنتجة غالية الثمن، في حين أصبحت السلع المستوردة رخيصة في نظر المواطن الهولندي بسبب توفر المال لديه، مما قلل من القدرة التنافسية للمنتجات الهولندية في الأسواق العالمية وبالتالي انعكس سلبًا على التجارة الهولندية فباتت تستورد أكثر مما تصدر واختل ميزان المدفوعات، والمحصلة النهائية لهذا الوضع تردي النشاط الإنتاجي وخاصة القطاع الصناعي ويطلق على هذه الظاهرة وصف “اللاتصنيع”.
وفي ظل هذا العزوف عن الإنتاج والاضمحلال عن النشاط الصناعي تنخفض فرص العمل وترتفع معدلات البطالة ولا يتورع العمال عن المطالبة باستحقاقات العجز والإعاقة وسط ارتفاع أسعار الصرف، وهذا ما جعل الاقتصاديون يحذرون من الاعتماد فقط على الموارد الطبيعية لأنه يخلق أوطانًا غنية ومواطنين فقراء وهذا هو جوهر الإصابة بالمرض الهولندي.
الجذور التاريخية لهذا المرض
قد يكون تشخيص هذا المرض في الاقتصاد ناجم عن الاعتماد على العوائد الريعية واضمحلال الأنشطة الإنتاجية الصناعية حديث العهد، إلا أن لهذه الظاهرة جذورًا تاريخية قد تعود إلى بدايات القرن السادس عشر وجميع الحالات المتجسدة في وجود ثروات سخية في هذا البلد أو ذاك بفضل اكتشافات وهبتها الطبيعة من موارد طبيعية ثمينة سواء في مجال المعادن النفيسة كالذهب والألماس والفضة أو في مجال الطاقة مثل النفط والغاز أو حتى على شكل محاصيل زراعية ذات قيمة تجارية وعائد نقدي كبير كالبن والشاي والسكر والكاكاو، لذا يمكن القول أن أعراض هذا المرض أصابت إسبانيا في القرن السادس عشر عندما حصلت على ثروات نتيجة اكتشاف واستغلال مناجم الذهب والنحاس من مستعمرات إسبانيا في أمريكا اللاتينية وقامت باكتناز معدن الذهب باعتبار حيازته تعبر عن قوة الدولة انطلاقًا من الأفكار التجارية (الماركنتالية) وتركت مجال التطور الإنتاجي، كما شهدت أستراليا منذ منتصف القرن التاسع عشر الحالة ذاتها في الحصول على المعدن النفيس.
وفي بدايات القرن العشرين تبدت هذه الظاهرة في الاقتصاد الهولندي مع اكتشاف النفط والغاز والذي نسب إليهما ظاهرة المرض بشكل خاص.
في النصف الثاني من القرن العشرين شهدت كل من المكسيك والنرويج وأذربيجان تلك الظاهرة نتيجة اكتشاف النفط والغاز في أراضيها.
وفي العقود الماضية أصاب المرض الهولندي الاقتصاديات العربية التي اكتشف النفط فيها وخصوصًا بلدان الخليج والعراق والجزائر وغيرها إذ فشلت هذه البلدان في بناء قاعدة إنتاجية متقدمة بينما أفلحت في الإنفاق الاستهلاكي الباذخ والمفرط.
أسباب ظهور المرض
من العوامل المساعدة على ظهور المرض الهولندي الثروات الطارئة المتأتية من موارد طبيعية سخية ومطلوبة في السوق العالمية معدنية كانت أو زراعية تضفي على النشاط الاقتصادي الطابع الريعي؛ حيث تدر أموالًا بدون عمل وتؤدي إلى تعطيل قوى العمل ومواهب الإبداع وأنشطة الإنتاج، وجميعها تشكل مقومات التنمية والتقدم في أي بلد.
ومن الأسباب العامة لظهور المرض الهولندي، اكتشاف مفاجئ لمورد اقتصادي هام، زيادة كيرة في الأسعار العالمية لمنتج رئيسي، وظهور قطاع مزدهر بشكل مميز نتيجة تقدم تكنولوجي مفاجئ، وتدفق رؤوس الأموال من الخارج كالمساعدات والإعانات والقروض بشكل كبير.