عقد مؤتمر هيرتزيليا للمرة الأولى في ديسمبر من عام ٢٠٠٠، هذا المؤتمر الذي غدا حدثاً سنوياً متكرراً تجده مثبتاً في مفكرات السياسيين والمسؤولين العسكريين وشخصيات الصناعات الدفاعية من داخل إسرائيل ومن خارجها حول العالم.
تضمن التقرير الصادر عن مؤتمر هيرتزليا الأول قسماً حول ما اعتبر “الجانب الجغرافي والديمغرافي” لإسرائيل، وردت فيه الملاحظة التالية:
“تشجيع الاستيطان اليهودي في المناطق ذات الإشكال الديمغرافي (السكاني)، وخاصة في الجليل ووادي جزريل والنقب وما شابهها، أمر ضروري لمنع تشكل أغلبية عربية متواصلة جغرافياً يمكن أن تتسبب في شطر إسرائيل.”
هذه الحاجة إلى تهويد الجليل والنقب في ضوء الكلام عما يعتبر “تهديداً” ديمغرافياً يشكله المواطنون الفلسطينيون داخل إسرائيل لم تبرح كونها خاصية ثابتة تصطبغ بها السياسة الإسرائيلية منذ عام ١٩٤٨. فانطلاقاً من النخبة الأمنية والسياسية التي تشارك عادة في مؤتمر هرتزليا مروراً برؤساء البلديات ومخططي الأراضي، يقوم “مشروع التهويد” كما يقول الأكاديمي الإسرائيلي حاييم يعقوبي على “أساس من الفرضية الصهيونية التي تعتبر إسرائيل أرضاً ودولة تعود ملكيتها حصرياً إلى الشعب اليهودي.”
هذا هو السياق الذي ينبغي أن نفهم من خلاله الأحداث الأخيرة في النقب، وخطة “التطوير” المعروفة باسم براور – بيغن التي ستعني تهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين البدو من قرى تقرر تدميرها وتوطينهم في مدن سكنية متدنية المستوى أقرت الحكومة إنشاءها. انطباق ما يعرف بالإطار الاستعماري على هذا الذي تقوم به إسرائيل دلل عليه بشكل لا لبس فيه “يوم الغضب” الذي نظم على نطاق دولي يوم الثلاثين من نوفمبر (تشرين الثاني) والذي شهد تظاهرات احتجاجية كبيرة شارك فيها بدو فلسطين ومؤيدوهم والمتضامنون معهم.
وفي ضوء ما ووجهت به سياسة الحكومة الإسرائيلية من معارضة وحجم التغطية الإعلامية البارزة لذلك، لجأ السياسيون والمعلقون الإسرائيليون إلي الدفاع عن الخطة من خلال صيغة بسيطة، وهي الزعم بأن المصالح العليا للبدو هي التي تتعرض للتهديد من قبل المحرضين السياسيين ومن قبل أقلية صغيرة من مثيري المشاكل.
هذه الرسالة، التي لا تتجاوز كونها صيغة ممجوجة من صيغ الخطاب الاستعماري في توصيف مقاومة السكان الأصليين لخطط تهجيرهم والاستيلاء على أراضيهم، جسدها الرد الصادر عن دورون آلموغ الذي وصفته صحيفة هآرتيز بأنه “يترأس فريق تنفيذ خطة إعادة توطين البدو”.
فبعد يوم الغضب أصر آلموغ علي أن “٨٠ بالمائة” من السكان أيدوا الخطة، وهي – من وجهة نظره – الأغلبية التي ظلت “صامتة بسبب الضغود الاجتماعية الداخلية”. نعت آلموغ أعضاء الكنيست العرب بأنهم أدوات “إثارة وتحريض” واعتبر البدو “ضحايا للتلاعب العربي” ورأى بأنهم إنما “تظاهروا ضد الخطة خشية ما سيصدر من رد عن مجتمعهم”.
ذهب آلموغ أيضاً إلى الادعاء بأن “المعارضين البدو” كانوا يهدفون إلى “إيجاد تواصل ترابي بين الخليل وقطاع غزة”، وهو ادعاء في غاية الغرابة لأن كسر التواصل الترابي العربي هو الهدف المعلن للسلطات والمخططين الإسرائيليين في منطقة النقب (وفي غيرها أيضاً).
لم يكن آلموغ الوحيد، فقد كانت ردود غيره من الإسرائيليين متممة لرده ومتوجة للخطاب الاستعماري. ففي مقال افتتاحي في الجيروزاليم بوست، تحدثت الصحيفة عن “حالة التسيب والفوضى في منطقة النقب” وعن “متسللين إلى المنطقة يعيشون فيما يشبه الدولة ضمن الدولة” وختمت ذلك بالطبع بمناشدة لإيجاد حل “لمعاناة البدو”.
وصف أحد المحللين الإسرائيليين النقب بأنه أشبه ما يكون “بصحراء عملاقة بانتظار أن تزهر” بينما نشرت ذي تايمز أوف إسرائيل مقالاً تندد فيه “بقيادات عرب إسرائيل” لما يقومون به من “إثارة وتحريض” وتكيل المديح لخطة براور معتبرة إياها “خطة حكومية حبكت بعناية”. أما شمعون بيريز فاعتبر أن الحكومة الإسرائيلية أدرى بما هو أفضل للبدو. ويذكر أن شمعون بيريز كان قد طالب ذات مرة باتخاذ خطوات تبدد الخطر الذي يشكله تعداد السكان غير اليهود في منطقة النقب.
بدت عضو الكنيست السابق إينات ويلف كما لو كانت تمارس لعبة بنغو استعمارية حينما نشرت مقالاً تتحدث فيه عن دولة إسرائيل “الحديثة” الديناميكية مقابل البدو أصحاب “التقليد الأبوي” و “الطبيعة القبلية غير المستقرة” الذين يصطبغ مجتمعهم “بالتقاليد المنقولة مشافهة” و “بالنزاعات والثارات” و “بتعدد الزوجات”. تجد في كل ما يكتب بهذا الشأن تأكيداً على الرسالة “التمدينية” التي تحملها إسرائيل، وحتى أولئك الذين يسلطون الضوء على المشاكل مثل “الفجوة الاجتماعية والاقتصادية التي تفصل اليهود عن البدو” في منطقة النقب ينتهون إلى الترويج لسياسة “الجزرة والعصى” (أي التطوير مقابل التدمير).
ومع ذلك، وبعيداً عن التركيز على المعركة التي تدور رحاها في مواجهة براور، ظهرت تقارير في الأسبوع الماضي حول مزيد من مبادرات التهويد هذه المرة في منطقة الجليل، وهي قصة تكشف بوضوح الاستراتيجية الإسرائيلية المتكررة هنا وفي النقب وفي سواه.
تقول صحيفة هآريتز بأن قسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية، وهو كيان يعمل مع الحكومة الإسرائيلية وبالنيابة عنها، بصدد “إعداد خطة لتوطين المزيد من اليهود في منطقة الجليل لتحقيق التوازن الديمغرافي مع السكان العرب”. وهدف هذه الخطة هو جلب “مائة ألف ساكن جديد” إلى الجليل الأوسط، هذا في الوقت الذي يقوم فيه قسم الاستيطان المذكور “بالدفع إلى الأمام بخطط الحكومة الإسرائيلية لإقامة عدد من البؤر الاستيطانية في منطقة النقب”.
نقلت هآريتز نص الفقرة التالية من الخطط المشار إليها لتبين كيف أن “التطوير” يتعلق في واقع الأمر “بالديمغرافيات”، أي بالتركيبة السكانية:
“يتمثل الواقع الحالي في المنطقة الريفية من الجليل الأوسط في عدم وجود خيارات استيطانية يمكن أن تجذب سكاناً يهود مستقرين وتوجد بذلك توازناً ديمغرافياً ذا معنى. تتطلب المحافظة على المنطقة وضمان سيطرتنا عليها الاستمرار في تطوير تشكيلة الاستيطان الريفي بالتوازي مع التطوير الحضري”.
ينقل المقال عن رئيس مجلس منطقة الجليل الأدنى ملاحظته في معرض رده على الخطط بأن “الاستيطان والصهيونية ليستا كلمتين قذرتين”. وينقل عن عمدة الناصرة العليا شيمون غابسو قوله: “إنشاء تجمعات سكانية جديدة سيحافظ على أجزاء من وطننا”.
يقابل تشجيع الاستيطان اليهودي في النقب والجليل بشل قدرة الفلسطينيين على النمو الطبيعي والحيلولة بينهم وبين استخدام الموارد الطبيعية. وخذ على سبيل المثال الحقائق التالية:
“تبلغ مساحة الناصرة العليا ٢ر٣٠ كيلومتراً مربعاً مقارنة بمساحة الناصرة العربية البالغة ١ر١٤ كيلومتراً مربعاً. ويبلغ تعداد سكان الناصرة العليا ٥ر٤٠ ألف نسمة مقارنة بتعداد الناصرة العربية الذي يبلغ ٥ر٧٢ ألف نسمة …. ويقدر تعداد سكان بئر السبع بــــ ٧ر٣ أضعاف تعداد سكان ريحات بينما تقدر مساحتها بستة أضعاف مساحة ريحات.”
العامل الأهم في حسم التركيبة الإثنية للمجتمع في إسرائيل هو نظام التخطيط فيها – “فأربعة فقط من واحد وتسعين لجنة تخطيط وبناء محلي تقوم على خدمة تجمعات سكانية بعينها تقع في المناطق التي يقطنها العرب”. والاستنتاج من ذلك واضح لا لبس فيه: “إن الدولة التي تشجع أعضاء شعب واحد على الاستيطان في أي منطقة بينما تفرض في نفس الوقت قيوداً صارمة على نمو شعب آخر إنما تتصرف بشكل عنصري.”
بينما تحاول إسرائيل صرف النظر عن الانتقادات التي توجه إليها بشأن خطة براور من خلال الحديث عن “التطوير”، وادعاء الحرص زوراً وبهتاناً على التخفيف من “معاناة” البدو، والتنديد بما تسميه “المتطرفين” السياسيين، فإن التأمل في الصورة الكلية لاستراتيجيات التهويد في الماضي وفي الحاضر سواء في النقب أو في الجليل ستساعدنا في رؤية ما يجري بشكل أكثر وضحاً.
في عام ٢٠١٠، وفي معرض حديثه عن النقب والجليل، صرح رئيس مجموعة داخل الكنيست تسمى “الضغط من إجل إيجاد حلول إسكانية للأزواج الشابة” بما يلي: “إن من المصلحة الوطنية تشجيع اليهود على الانتقال للعيش في” الأماكن التي “تشهد نمواً سكانياً عربياً”. وفي وقت مبكر من هذا العام نقل عن راسل روبنسون المدير التنفيذي للصندوق الوطني اليهودي سعيه لجلب “٣٠٠ ألف يهودي” إلى الجليل بحلول عام ٢٠٣٠ نظراً لأن هذه المنطقة “فيها كثافة سكانية من العرب الإسرائيليين”.
والآن، توقف للحظة واسأل نفسك ماذا سيكون رد الفعل فيما لو أن حكومة دولة ما سعت على المكشوف إلى تغيير التركيبة السكانية في مناطق ترى هي أن عدد السكان اليهود (أو أي مجموعة إثنية أو دينية) فيها أكثر من اللازم. قد يطالب كثير من الناس بفرض عقوبات على مثل هذه الدولة. وهذا بالضبط ما يحث الفلسطينيون المجتمع الدولي عليه.
المصدر: ميدل إيست مونيتور