كان لسيد قطب كتابات ناقدة كثيرة، في الأدب والفكر خاصة، وكان فيها جوانب نظرية جديرة بالاعتبار، إحدى تلك الكتابات نقده لكتيب صغير، كتبه الكاتب السوري المعروف شفيق جبري، ونشرته دائرة المعارف المصرية، ضمن سلسلة اقرأ سنة 1945م، بعنوان “العناصر النفسية في سياسة العرب”، وقد عثرتُ على الكتاب صدفة، في أحد معارض الكتب، بنسخة قديمة بالية، لكن ما فيها من كلام كان جاذبًا لقارئة مثلي، تحب التاريخ والأدب العربي.
وذكر جبري في ذلك الكتيب (لا تتجاوز صفحاته 144 من القطع الصغير، كتاب جيب) بعض المواقف والمواقع من تاريخ صدر الإسلام وتاريخ بني أمية، مبرزًا العنصر النفسي الذي قامت عليه تلك المواقف، محاولاً كشف مدى دراية صاحب الموقف أو الموقعة بالعناصر النفسية المحيطة، أو عدم درايته، وأثر علمه بهذه العناصر أو الجهل بها على قراراته، ومجريات الأحداث.
وكان لسيد قطب ملاحظات على ذلك الكتب، مع امتداحه له ولكاتبه، ولعل أبرز تلك الانتقادات، أن سيد قطب وجد أن شفيق جبري “يهش لروح النفعية في السياسة، ويشيد بأصحابها، ولا يعترف بغير النجاح العملي، ولو على أشلاء المثل العليا والأخلاق”.
قد تكون رقعة الإسلام قد امتدت على يدي معاوية ومن جاء بعده، ولكن روح الإسلام قد تقلصت، وهزمت، بل انطفأت
واستشهد قطب بقول جبري في كتابه متحدثًا عن حادثة “خديعة المصاحف” المشهورة تاريخيًا، قائلاً: “وعلى كل حال فإن هذه الخديعة التي أوحى إلى صاحبها بها علم النفس، كان فيها حقن دماء المسلمين، وخديعة فيها منتهى حرب ومنتهى دماء، إنما هي خديعة خير”.
ويقول سيد قطب معلقًا على كلام جبري: “قد تكون رقعة الإسلام قد امتدت على يدي معاوية ومن جاء بعده، ولكن روح الإسلام قد تقلصت، وهزمت، بل انطفأت، فإن يهش إنسان لهزيمة الروح الإسلامية الحقيقية في مهدها، وانطفاء شعلتها بقيام ذلك الملك العضود، فتلك غلطة نفسية وخلقية لا شك فيها”.
كما أن قطب يعيب على جبري في كلامه ذاك، أن فيه دعوة للناس إلى البُعد عن الأخلاق بحجة النجاح السياسي، ويقول: “إذا احتاج جيل لأن يدعى إلى خطة معاوية، فلن يكون هو الجيل الحاضر على وجه العموم، فروح مكيافيلي التي سيطرت على معاوية قبل مكيافيلي بقرون، هي التي تسيطر على أهل هذا الجيل، وهم أخبر بها من أن يدعوهم أحد إليها! لأنها روح النفعية التي تظلل الأفراد والجماعات والأمم والحكومات”.
ولا ينسى قطب تبرئة نفسه من تهمة التشيع، لأنه انتقد تصرف معاوية وانتصر لعلي رضي الله عنه، وقال: “وبعد فلست شيعيًا لأقرر هذا الذي أقول، إنما أنظر إلى المسألة من جانبها الروحي الخلقي، ولن يحتاج الإنسان أن يكون شيعيًا لينتصر للخلق الفاضل المترفع عن الوصولية الهابطة المتدنية، ولينتصر لعلي على معاوية وعمرو، إنما ذلك انتصار للترفع والنظافة والاستقامة”.
الملاحظ أن سيد قطب تناول الموضوع من جانب أخلاقي محض، في وقت صار الحديث فيه عن الأخلاق ضربًا من المثالية اللاواقعية، وفي زماننا هذا، صار الحديث عنها من المضحكات!
فعندما يتحدث الناس اليوم عن السياسة والأخلاق، فإنهم يجعلونهما طرفين متقابلين لا يلتقيان، فأهداف السياسة تنحصر في تحقيق الغاية مهما كانت الوسيلة، وهو ما يجعلها خارجة عن نطاق الانضباط الأخلاقي الذي يعمل ضمن مجموعة القيم المثالية.
ومع أن المختصين يعرّفون السياسة بأنها طريقة قيادة جماعة بشرية، لما فيه خيرها ومنفعتها، فإنهم برروا الوسائل التي يمكن الوصول من خلالها لمنفعة هذه الجماعة مهما كانت متعارضة مع مجموعة القيم والمثل الموجهة للسلوك الإنساني، وهو تطبيق لمبادئ ميكافيلي النفعية، والتي تفرض على السياسي أن يكون مستعدًا، وبشكل مسبق، لأن يكون خارجًا عن نطاق القيم الأخلاقية، ومحدداتها السلوكية.
ومن جهة أخرى فإن بعض الباحثين لم ينفوا إمكانية ارتباط السياسة بالأخلاق، غير أنهم جعلوا لكل نظام سياسي أخلاقه المحددة، حتى قالوا إن “السياسي يكون سياسيًا بقدر ما يتمثل أخلاق سلطته وإرادتها وروحها”.
وعلى هذا فالسلطة تعطي لرموزها أخلاقهم وتحدد أداءهم السياسي وسلوكهم الفردي العام والخاص، وكذلك الثورة فإنها تمنح المعارض السياسي أخلاقه وتحدد سلوكه السياسي والفردي.
وفي الحالة السورية، فإن الأخلاق التي يعمل من خلالها السوريون تستمد من الأهداف التي يسعون إليها، فهدف بناء دولة القانون وتحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، يجب أن نصل إليه بأخلاق سياسية تحترم القانون وتحترم قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
لكن اللافت أن كثيرًا من السوريين، لم تترسخ تلك الأخلاق في وعيهم، بل صار الوصول للسلطة والمحافظة على المنصب هو الغاية التي تبرر كل وسيلة يمكن استخدامها لتحقيق هذا الهدف.
يخطئ من يعتقد أن النجاح العملي هو أقصى ما يطلبه الفرد وما تطلبه الإنسانية، فنجاح بدون أخلاق لا يمكن أن يسمى نجاحًا، (أسميه نصب، سرقة، وصولية، تسلق…..إلخ) وكما يقول سيد قطب فإن “ذلك نجاح قصير العمر ينكشف بعد قليل”.
إن الأخلاق التي يعمل من خلالها السوريون تستمد من الأهداف التي يسعون إليها، فهدف بناء دولة القانون وتحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، يجب أن نصل إليه بأخلاق سياسية تحترم القانون وتحترم قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية
وكما قال جبري نفسه: “فإن السياسة التي لا خلق لها إنما هي سياسة لا تلبث أن تتلاشى كما يتلاشى الدخان في الفضاء، وما نجحت سياسة بعض رجال العرب في الماضي، (…) إلا لأن أصحابها كانوا على خلق عظيم، وكانوا زيادة على ذلك عالمين بأسرار النفوس، واقفين على حقائق الطبائع، مطلعين على خفايا الأمزجة، فإذا تجرد رجال السياسة من الأخلاق ومن معرفة نفوس الناس، ضاعت سياستهم، وضاع الناس، وضاعت البلاد في وقت واحد”.