ترجمة أسماء بلحاج حسن
“كل واحد منا، وتحت ظروف محددة، يمكن أن يصبح جلادًا”، يرفض أبرهام دي سوان الأستاذ الهولندي في علم الاجتماع بجامعة أمستردام وكولومبيا (نيويورك) أن يتعامل مع هذه الفرضية كمسلمة، في كتابه “التقسيم من أجل القتل” الذي صدر مطلع هذا العام والذي يتبع فيه نموذجًا مختلفًا عن السائد لتحليل وفهم طريقة تصنيع مجرمين وجلادين، إذ يتعين علينا أن ننظر أيضًا إلى أولئك الذين لم يصبحوا قتلة.
متى وكيف يمكن أن يتحول مواطن متحضر مسالم إلى جلاد؟ هذا المقال عودة إذن إلى أهم المجازر في التاريخ.
ينقسم المؤرخون المعنيون بدراسة المجازر الجماعية إلى نوعين: أولئك الذين يدرسون محنة ومصير الضحايا وأولئك الذين يبحثون في نوايا مرتكبيها، ينتمي عالم الاجتماع أبرهام دي سوان إلى هذا النوع الثاني، ولكنه أيضًا يتجاوزه في مقاربة تسعى للذهاب إلى ما وراء الأحداث من خلال مقارنة الوقائع وترتيبها وتحليلها وفهمها في هذه المحاولة التي تنطلق من حصيلة مروعة: إذا كانت حروب القرن العشرين قد قتلت عشرات الملايين من الأشخاص، فإن العنف الجماعي ضد المواطنين العزل حصد ما لا يقل عن مائة مليون نسمة، وكانت هذه المجازر (…) تتطلب مشاركة آلاف أو حتى مئات الآلاف من الأشخاص الذين كانوا على استعداد للقتل العشوائي لعدة ساعات، أيام، أو أسابيع في بعض الأحيان، وفي بعض الحالات، استمروا في القتل لمدة شهور أو حتى لسنوات عديدة، “كيف يمكن لهذا أن يحدث؟ كيف يمكن أن يقتلوا وأن يستمروا في ذلك بدون أي اكتراث؟”.
تم إحياء هذا النقاش في عام 1992 من قبل كريستوفر براونينغ، مؤرخ الهولوكوست الذي يقول إن أعضاء الكتيبة 101 من الشرطة الألمانية المسؤولة في عام 1942 عن إعدام اليهود في بولندا لم يكونوا مقتنعين بالنازية بل كانوا مجرد رجال عاديين.
هيمنت أطروحة الجلاد “العادي”، مدعومة بكتابات حنة آرندت حول “تفاهة الشر” (تعتبر حنة آرندت أن الشر “تفاهة” بديهية وبأنه لا ينّم في الضرورة عن مشاعر معادية للسامية أو عن شخصية مختلة عقليًا حيث تقول: إن انجذاب الشعب نحو الشر والجريمة ليس شيئًا جديدًا، الناس لم يتوانوا عن الترحيب بأعمال العنف مدركين أن هذه الأعمال قد تكون سيئة لكنها أعمال خلاّقة)*، ونظرية “الخضوع إلى السلطة” لستانلي ميلغرام (كل سلطة تُفسد، والسلطة المطلقة تُفسد بشكل مطلق)**، طويلاً على الساحة، لا يخفي سوان في هذا الكتاب رفضه لهذه الأطروحة ونيته لدحضها، فهل سيتمكن من ذلك؟
عندما يرى المهزوم الدولة أو أي طرف مارس عليه شكلاً من أشكال العنف والقمع على وشك الهزيمة يسارع قبل الفرار، في الانتقام منه وإبادته
يجب أولاً تحري الدقة في تحديد الموضوع: ما يريده عالم الاجتماع هو البحث في تفاصيل القتل “وجها لوجه’” أي أبعد من مجرد بحث في فعل الطيار وهو يصب وابلاً من القنابل على عدو غير مرئي، إنه يريد أن يفهم الظروف المشتركة لعمليات الإبادة الجماعية (الأرمن واليهود والتوتسي)، ولكن أيضًا التمييز العنصري (ضد الفلاحين الأوكرانيين في 1932-1933)، الاغتيالات السياسية (الشيوعيين الإندونيسين في عام 1965) أو المذابح الدينية (الهندوسية والمسلمون في الهند، 1947)، كل هذه الحالات، يقول أ. دي سوان، تتطلب بالتأكيد سلطة تنظم وتمول وتوجه هذه المذابح، ولكن أيضًا عددًا هامًا من الأذرع المسلحة التي تؤدي هذا الدور، تحت أي ظروف وبأي وسيلة يتم كل هذا القتل؟
يجيب أ. دي سوان من خلال تصنيف نوعي؛ هناك أولاً ما يسميه جنون المنتصر، والذي ينتج في ظل الكراهية القومية أو العنصرية بعد النصر العسكري (اليابان في الصين في عام 1937، المحرقة بالرصاص، 1941-1944)، ثم هناك السيطرة عبر الإرهاب وهو عبارة عن نظام استبدادي يكسر مقاومة جزء من السكان يتخويفهم من القتل والمجاعات (روسيا عام 1930، كمبوديا الخمير الحمر).
ما يبدو مثيرًا للتناقض هو عندما يرى المهزوم الدولة أو أي طرف مارس عليه شكلاً من أشكال العنف والقمع على وشك الهزيمة يسارع قبل الفرار، في الانتقام منه وإبادته (واصل الألمان ترحيل اليهود في 1944-1945، قام الهوتو باور بإبادة التوتسي في 1995 بدلاً من مواجهة الجبهة الوطنية الرواندية).
في كل هذه الحالات، يبحث كل نظام أو دولة أو سلطة حزبية عن مساعدة الجيش والميليشيات والشرطة، ولكن هذا ليس ضروريًا على الإطلاق، إذ يسميها أ. دي سوان المذبحة الضخمة المنظمة تلك التي يرتكبها “الشعب” ضد مجموعة مستهدفة من السكان (الهند وباكستان، 1947).
كل واحد منا، وتحت ظروف محددة، يمكن أن يصبح جلادًا
ويطلق أ.دي سوران على ذراع هذه الانتهاكات، “التقسيم” الذي ينطبق على المجتمعات كما الأفراد، في كل مذبحة هناك “شعب النظام” و”المجموعة المستهدفة”، قبل أن يتعرض أفراد هذه الأخيرة لهجوم لا بد أولاً من التحريض على كراهيتهم والتقليل من شأنهم وتجريدهم من إنسانيتهم، وهكذا يتم فصلهم عن بقية المجتمع، ثم عندما يمر الجلاد إلى التنفيذ، يحدث تقسيم آخر حيث يتم اضطهادهم وتعنيفهم بعيدًا عن أنظار شعب النظام، في الغابة أو في المخيمات.
منذ أوائل القرن العشرين وربما قبل ذلك لا ينكر منفذو عمليات القتل أنهم يرتكبون فعلاً إجراميًا إذ يمكن أن يتم إنكار القتل أو إخفاءه لدواعٍ عسكرية وحربية ومحو آثاره، ومع ذلك في عملية التعذيب أو القتل، فإن التناقض الذي يطرح نفسه هو أن التأثير المروع للاغتصاب والإعدام يعتمد أيضًا على الدعاية الخاصة بهم لدرجة الاستمرار والديمومة، في رواندا، في عام 1994، كان على سكان القرى المشاركة أو المساعدة في إبادة جيرانهم، وبقي التقسيم جزئيًا للغاية.
أخيرًا يحدث انفصام ثالث داخل جسم وعقل المنفذين، فوجئنا أثناء محاكمتهم أين كان هناك، الكثير من الجلادين، الذين يقدمون أنفسهم باعتبارهم “مواطنين صالحين”، من دون أدنى كراهية لضحاياهم، وقد أظهروا انعدامًا تامًا للندم، مؤكدين أنه لم يكن لديهم خيار سوى الانصياع للأوامر.
علاوة على ذلك كانوا فعلاً أشخاصًا مختلفين عن أولئك الذين نفذوا أفعالاً بشعة، لنذكر حالة أثارها أ. دي سوان، عندما قام بها روبرت ليفتون وهو طبيب نفسي أمريكي بمقابلات مستفيضة مع أطباء نازيين من أوشفيتز، انتهى إلى استنتاج مفاده أن محاوريه لم يتصرفوا بتلك الطريقة إلا لأنهم يعتقدون أن أعمالهم لا تصدر عنهم ولكنهم ينسبونها إلى “أنا” أخرى، هذه “الأنا” كانت موجودة جنبًا إلى جنب مع “الأنا” الأصلية التي لم تكن تهتم بما يحدث في المعسكرات.
وبما أنهم تمكنوا من تحقيق هذا الانفصام (…)، فإنهم كانوا قادرين على مقاومة مثل هذا الوضع نفسيًا، كانوا يعيشون ازدواجية “الأنا”، “وفي إجابته على مسألة مشاركة الأشخاص العاديين في أعمال العنف والكراهية والقتل، يقدم دي سوان مقاربة نفسية، إذ يعتقد أن هذه الازدواجية أو الانفصام الذهني يسمح لأشخاص عاديين بالانخراط في أعمال عنف مروعة ضد الناس العزل الذين ربما كانوا بالأمس فقط، أقرب جيرانهم.
هل هذا يسمح بإبطال أطروحة “تفاهة الشر” التي عارضها عالم الاجتماع بشدة في بداية الكتاب؟ ليس تمامًا، وذلك لعدم وجود المفتاح الذي من شأنه أن يفسر كيفية وصول الجلادين إلى تحقيق حالة الانفصام، هل يمكن، كما دعا أ. دي سوان، رفض التفسير عن طريق الحالات والوضعيات؟ يبدو هذا صعبًا لأن عالم الاجتماع هو نفسه حريص على تحديد الحالات الأفضل التي تؤدي إلى المذبحة.
يستغرق التفريق بين سلوك الجلادين (أكثر أو أقل حماسًا أو مترددًا) نهجًا أكثر تفصيلاً من ذلك الذي يفترض أن نكون جميعًا في نفس الظروف، لنصبح جلادين عاديين، مع وجود هذه التحفظات، يبقى لمحاولة دي سوان الفضل الكبير في تحديد كيفية تحول المجتمع من الحضارة إلى البربرية.
المصدر: مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية