تعتبر الرواية في الأدب أحد أكثر الأجناس القصصية جذبًا للقراء وأحد أجمل أنواع الأدب النثري؛ فهي التي تمثل النوع الأحدث بين أنواع القصة، والأكثر تطورًا وتغييرًا في الشكل والمضمون بحكم حداثته، فهي سرد نثري طويل يصف شخصيات خيالية وأحداثًا على شكل قصة متسلسلة، كما أنها أكبر الأجناس القصصية من حيث الحجم وتعدد الشخصيات وتنوع الأحداث، وقد ظهرت في أوروبا بوصفها جنسًا أدبيًا مؤثرًا في القرن الثامن عشر، والرواية حكاية تعتمد السرد بما فيه من وصف وحوار وصراع بين الشخصيات وما ينطوي عليه ذلك من تأزم وجدل وتغذيه الأحداث.
وعرف العالم العربي أولى المحاولات الروائية في أوائل القرن العشرين عبر محاولات بسيطة عالجت موضوعات تاريخية واجتماعية وعاطفية، بأسلوب تقريري مباشر توخّت تسلية القارئ وتعليمه ثم تبعت ذلك محاولات فنية جادة في كتابة الرواية، وقد ظهرت الرواية في تونس قبل نظيراتها في المغرب العربي، فقد سبقت تونس جارتيها الجزائر والمغرب بخمس روايات أصدرتها في الفترة من 1945 حتى 1962، وقد سبق هذه الروايات الرائدة أعمال أخرى على طريق الرواية التونسية مثل “الهيفاء وسراج الليل” تأليف صالح السويسي 1906 سنة ، و”الساحرة التونسية” للصادق الرزوقي سنة 1910.
وكانت أول رواية بالمعنى الحقيقي صدرت في تونس لعلي الدوعاجي كان عنوانها “جولة حول حانات البحر المتوسط”، وصدرت في عام 1935، وقد شارك الدوعاجي الكتابة الروائية في تلك الفترة كتاب آخرون منهم زين العابدين السنوسي مؤلف الرواية التاريخية “قناة الجمر”، وقد كان لمحمود المسعدي دور كبير في تطور الرواية التونسية، إذ أصدر عدة أعمال في الفترة من 1939 وحتى 1945، استفاد خلالها من أساليب تراثية قديمة مثل السيرة والمقاومة، ومن أشهر أعماله “السد” التي صدرت بمقدمة لعميد الأدب العربي طه حسين، وسنحاول في هذا التقرير تقديم أكثر 5 روايات تونسية دخلت التاريخ ونجحت في تغيير مسار الرواية والأدب في تونس.
“حدث أبو هريرة قال” – لمحمود المسعدي
وهي رواية تترجم الأفكار الفلسفية الوجودية للكاتب التونسي محمود المسعدي، وتناقش رحلة شخصية تقليدية نحو الخروج من المألوف، وقد نشرت سنة 1973 عن الدار التونسية للنشر، وقد بث فيها الكاتب أفكاره الفلسفية الوجودية من خلال البطل أبو هريرة معتمدًا على لغة مكثفة وقديمة، واعتبرها الناقد توفيق بكار أهم مغامرة روائية في القرن العشرين، ونسبها بعض النقّـاد إلى الأقصوصة تارة وإلى الحديث الأدبي تارة أخرى، وتؤكد العديد من المصادر أن هذه الرواية قد ألفت في ثلاثينات القرن الماضي إلا أنها صدرت كاملة بعد ذلك بأربعين سنة.
يتبادل الرواة والشخصيات الأدوار فيما بينهم في الرواية، فتقوم بالأفعال السردية مرة، وتقوم بروايتها مرة أخرى، وهذه المناوبة تنقل السرد من مستوى إلى آخر، فما إن ترتسم ملامح الشخصية في عالم السرد بصورة فاعل يتولى إنجاز الأحداث، حتى تظهر بدور راوٍ يستعرض أفعال الشخصيات الأخرى، وقد قال الأديب المصري الكبير طه حسين إن الوجودية قد أسلمت على يد محمود المسعدي في هذه الرواية التي لا يدري إن كان فهمها أم لم يفهمها.
“الدقلة في عراجينها” – للبشير خريف
“الدڤلة في عراجينها” كتبها البشير خريف عام 1969، تعتبر من أطول الروايات التونسية من حيث عدد الصفحات، عنوانها ذو دلالة عميقة في الخطاب الواقعي الوصفي، جاءت صيغته في شكل جملة اسمية تقريرية لا تحتمل الالتباس، وتتحدث الرواية عن حكاية أسرة (سالم بن عبد العالي) التي يصفها الكاتب بأنها أسرة عريقة محافظة يخضع أفرادها في ممارستهم للسلطة العائلية إلى تراتبيّة عشائرية، ويحتفي البشير خريف في هذه الرواية بكل تفاصيل بلاد الجريد (في أقصى الجنوب التونسي) ويعكس صورة التعاسة والنفاق في هذه المنطقة ومع ذلك يحببك فيها على علاتها ويطرح مسألة ملكية الأرض كمصدر للمأساة الاجتماعية والنزاعات الأسرية وخصص قسم من الرواية للحديث عن النضال العمالي التونسي في عهد الاستعمار الفرنسي.
قسم الكاتب روايته إلى 3 أجزاء يتبعها بطابع تسجيلي انتقادي، بمعنى أن عديدًا من الشرائح الاجتماعية تتعرض لاستغلال الإقطاع ومن هنا جاءت الرؤية الاجتماعية لدى الكاتب رهينة مفهوم الإطار الفكري المتكئ على الانتساب الحزبي والإيديولوجي الماركسي كمعين اشتهر ذلك الوقت، لحل المعضلات وتجاوز الأزمات وتذليل العراقيل والمعوقات، كما امتزج بخليط من المؤثرات الأجنبية وتتجلى لنا ملامح هذه الرؤية معًا كلما أوغلنا في عالمها الفسيح خطوة خطوة.
“التوت المر” – لمحمد العروسي المطوي
“التوت المر” هي رواية اجتماعية من النوع الواقعي ذات طابع اجتماعي للأديب التونسي المعاصر محمد العروسي المطوي صدرت عام 1967 في 214 صفحة وتروي صراع ثلّة من الشباب الوطني ضد ما كرسه المستعمر من آفة تعاطي التكروري (وهو نوع المخدرات كان منتشرًا في تونس في السابق) والمتاجرة به، وقد لاقت الرواية نجاحًا كبيرًا، حيث تم اختيارها ضمن أفضل مائة عربية، كما تمت ترجمتها إلى لغات أخرى من بينها الإسبانية في سنة 2006.
وتتناول القصة العديد من القضايا الاجتماعية كالمعاناة من الفقر والبؤس والشقاء من أجل الحصول على لقمة العيش وتمثل عائلة الشيخ مفتاح نموذجًا لذلك في القصة، فهي عائلة شردتها الحرب فعانت الويلات بحثًا عن الأمن والاستقرار، فيما تمثل عائشة وهي إحدى الشخصيات في الرواية نموذجًا بشريًا مجسمًا للبؤس الإنساني لمعاناتها الشلل بسبب غياب المال، ومعاناتها اليتم بسبب موت الأم ومحاولة الهروب من الواقع البائس.
“سهرت منه الليالي” – لعلي الدوعاجي
وهي مجموعة قصصية من أشهر ما كتبه الأديب التونسي علي الدوعاجي، وقد جاء عنوانها من عنوان محمد عبد الوهاب وقد جمعها عز الدين المدني من الجرائد والمجلات القديمة وأصدرها عام 1969 مع مقدمة إضافية، وتتميز عن غيرها من القصص بالنقد البناء الذي يبرز من خلال نقل الواقع المعيشي، وقد تم اقتباس عملين فنيين عن هذه القصة وهما شريط سينمائي بعنوان “في بلاد الطررني” ومسرحية بعنوان “سهرت”، وعدد صفحات الرواية 127.
وتحكي قصة سهرت منه الليالي التي أخذ منها عنوان الرواية، عن حياة امرأة تعاني الأمية تزوجت رغمًا عنها من رجلٍ يتعاطى السكر والعربدة، حيث تعاني هذه الزوجة من لسان زوجها السليط أيضًا، فهو يتفوه بكل كلمات البشاعة والألفاظ السوقية البذيئة، وينعتها بأفظع الصفات، لها ولأولادها، فكانت خالتها تقوم بزيارتها، لتفضي إليها ما يزعجها، وتبكي بين يديها، فتشكو لها حالها ومعيشتها مع رجلٍ تشعر تجاهه بكل أصناف الكره، وهو بالوقت نفسه يكره حتى أبنائه، إضافة لزوجته، ويعيشون معه أسوأ حياة، ناهيك عن الفقر المدقع الذين يرزحون تحت ظلّه في جو من الكآبة والسواد القاتم الذي يخيم على حياة هذه الأسرة.
وتصور هذه المرأة كمثال للمرأة الشرقية التي رغم معانتها إلا أنها تسهر على راحة زوجها، غير مبالية بنفسها، وقد جسدت هذه المجموعة القصصية الواقع التونسي المعيش بصوره الحيّة، بأسلوب مرح وواعظ، وفيه من العمق والإبداع الشيء الكثير، حيث الانتقاد للحياة التقليدية التي يعيشها المجتمع، في ظل قلة الوعي وربما الأمية، التي كانت نتيجة لاستعمار البلاد لفترات طويلة.
“ليلة السنوات العشر” – لمحمد صالح الجابري
ليلة السنوات العشر وهي رواية تونسية ألفها الكاتب التونسي محمد صالح الجابري سنة 1982 تم اختيارها بين أفضل مئة رواية عربية وتحوي 275 صفحة، وقد تم تحويلها إلى فيلم سينمائي وتحكي الرواية عن قصة كفاح الشعب التونسي أيام الاستعمار الفرنسي.
وتتحدث الرواية عن ثلاثة زملاء قدامى منذ أيام الدراسة، هم لمياء، ونجيب، ومروان، يلتقون من جديد بعد عشر سنوات، حيث يعيش الوطن فى حالة اجتماعية متردية، على حافة الانفجار، وينطلق كل منهم في الحديث عما حدث له طوال السنوات العشر الأخيرة، منهم من عمل بالسياسة، ومنهم من لاقى المصاعب العديد، ومنهم من وقف محايدًا إزاء ما يحدث في تلك الفترة.
وتعتبر الرواية معاصرة لأحداث جانفي 1978 في تونس وما فيها من تناقض بين الحكومة والمنظمة النقابية وما فيها من أزمات متولدة وبداية لتشكل نوع من الفكر التقدّمي في تونس أو بداية ظهور فكر لا يرى في رموز الاستقلال حقيقة كاملة ولا يرغب في طاعتهم، وتمثل تبلورًا لفكر الرفض السياسي والتمرد على الروابط الاجتماعية السائدة.