تسير تركيا بخطوات ثابته تجاه تحقيق أهدافها الاستراتيجية المرتكزة في أن تصبح واحدة من أكبر عشرة اقتصاديات في العالم في مئوية تأسيس الدولة التركية، ولعل ما حفزها على تحقيق ما تصبو إليه الأزمات الداخلية والخارجية التي تحاك لتركيا، وتخفيف الاعتمادية على روسيا بعدما فرضت الأخيرة عقوبات اقتصادية على تركيا جراء إسقاطها طائرة السوخوي أواخر العام الماضي، وتشارك دول الاتحاد الأوروبي تركيا هذا الهدف إذ هي الأخرى تريد تخفيف اعتمادها على روسيا في مجال الطاقة.
خريطة الطاقة يعاد رسمها
بعد إعطاء خمس دول في جنوب وشرق أوروبا موافقة رسمية يوم الثلاثاء الماضي 17 الشهر الجاري لبدء تشييد خط أنابيب يعرف بممر الغاز الجنوبي سينقل الغاز من حوض بحر قزوين إلى الأسواق الأوروبية، إذ تم تدشين المشروع المخصص لنقل الغاز المسمى بـ “تاب” في مدينة تيسالونيكي بشمال اليونان يوم الثلاثاء الماضي بحضور رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس الذي قال على هامش تدشين المشروع إن “خريطة الطاقة لجنوب وشرق أوروبا يجري إعادة رسمها وهذا يحول اليونان إلى مركز للطاقة في المنطقة”، تبلغ تكلفة المشروع 5 مليارات يورو وسيشارك البنك الدولي للإنشاء بتمويل جزء منه بمبلغ قدره 1.5 مليار يورو.
وستسهم كل من الشركات التالية في تنفيذ المشروع، شركة بريتش بتروليوم بنسبة 20%، وسوكار 20%، وسنام 20%، وفلوكسيز 19%، وأيناغاز 16%، وأكسبو 5%.
يعرف المشروع بممر الغاز الجنوبي ويبلغ طوله الإجمالي 870 كيلومترًا ويتألف من مشروعين من خطوط الأنابيب “تاب “و”تاناب” ستنقل الغاز من حقل “شاه دينيز2” الأذربيجاني إلى الأسواق الأوروبية.
إذ سبق تدشين خط الأنابيب “تاناب” من قِبل كل من الرئيس أردوغان والرئيسين الجورجي والأذري في العام الماضي 2015 بتكلفة إجمالية تبلغ 11 مليار دولار.
وينطلق تاناب من مدينة باكو في أذربيجان ويقطع جورجيا ليعبر أكبر مسافة له في تركيا وينتهي بمستودعات لتخزين الغاز، ليُنقل الغاز من هذه المستودعات عبر خط أنابيب “تاب” إلى اليونان فألبانيا والبحر الأدرياتي إلى إيطاليا، ويعد هذا الخط أكبر مسعى لتحصيل مصادر إمداد جديدة إلى المستهلكين الأوروبيين.
وبحسب خبراء في مجال الطاقة فإن خط الأنابيب سيلبي 20% من احتياجات الاتحاد الأوروبي من الغاز، لذا ينظر إلى المشروع على أساس أنه يخدم أمن أوروبا وذلك لأنه يدخل في إطار استراتيجية التنويع التي تخفض من احتياجات أوروبا في مجال الطاقة، إذ من المقرر أن يصل حوالي 10 مليارات متر مكعب يوميًا من الغاز الأذري إلى أوروبا بحلول عام 2020.
تركيا مركز لتوزيع الغاز
تنفيذ هذا المشروع سينقل تركيا من حال إلى حال، حيث سيخولها لتصبح مركزًا عالميًا لتجارة الغاز من آسيا والمنطقة العربية ولاحقًا تصديره إلى أوروبا، ففرع الطاقة في المفوضية الأوروبية يرى أن “تركيا دولة مستقرة سياسيًا وعضو في حلف شمال الأطلسي وهذا سيجعلها محطة آمنة لتجميع الغاز من دول المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وتصديرها لاحقًا إلى أوروبا”، كما أن تركيا بعد أن تصبح مركزًا يغذي أوروبا بالغاز الطبيعي ستقوى علاقتها مع كل من بروكسل وواشنطن أكثر مما هي عليه الآن.
تركيا من الناحية الأخرى ستستفيد من خط الأنابيب بتحقيق أمنها في إمدادات الغاز، وفي الوقت الراهن تستهلك تركيا حوالي 50 مليار مترمكعب من الغاز الطبيعي ومن المتوقع أن تزداد الكمية إلى 72 مليار مترمكعب بحلول عام 2030، والمتوقع أن ينقل خط أنابيب السيل الجنوبي 10 مليار مترمكعب من الغاز الأذري، ولكن النسبة سترتفع إلى 20 مليار مترمكعب.
وحاليًا تستورد تركيا 55% من حاجتها من الغاز من روسيا وتستهلك 50% من الغاز الوارد في إنتاج الطاقة الكهربائية، والجدير بالذكر أن تركيا تشتري الغاز الروسي بأسعار عالية تبلغ حوالي 418 دولارًا لكل ألف مترمكعب، وعلى الرغم من تعهد الجانب الروسي بخفض السعر بنسبة 10.25% في شهر مارس/ آذار الماضي، إلا أن روسيا لم تف بما وعدت وأبقت السعر على ما هو عليه، علمًا أن روسيا تبيع الغاز لدول الاتحاد الأوروبي بسعر 242 دولارًا لكل ألف مترمكعب.
أما خط الغاز الروسي التركي المزمع إنشاؤه لتوصيل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر البحر الأسود من خلال خط “تركيش ستريم”، فإن المشروع مجمّد بفعل الخلاف الحاصل بين البلدين، ولا يظهر في الأفق أن تركيا ستتخلى عن الغاز الروسي بقدر ما تسعى في الفترة المقبلة أن تملك أوراق ضغط من حيث تنويع مصادر الإمداد والتحكم بالسعر أكثر.
المشروع استراتيجي لأوروبا أيضًا
المشروع مهم للاتحاد الأوروبي بقدر أهميته لتركيا، إذا بات الهدف الاستراتيجي لأوروبا التي سعت لتحقيقه في السنوات الماضية هو تنويع مصادر الغاز إلى أوروبا وتقليل اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي، والهدف الآخر لأوروبا هو منع روسيا من الاقتراب تجاه اليونان لتجعلها ممرًا للغاز إلى أوروبا، إذ كانت روسيا تنظر إلى اليونان لربطها بشكل مباشر بالغاز الروسي خصوصًا بعد الأزمة المالية في اليونان، وحاول الرئيس بوتين استغلال نقطة ضعف اليونان لتنفيذ أهدافه عبرها وبدأت المحادثات وقتها بالفعل بين الحكومة اليونانية وشركة غاز بروم الروسية إلا أن أوروبا أفشلت هذا المسار من خلال خطط إنقاذ اليونان من الإفلاس، لذا فإن إنشاء هذا الخط سيُبعد شبح روسيا عن أوروبا بالسيطرة على اليونان.