تولى العسكريين زمام القيادة كاملة فى المجتمعات والدول والمؤسسات أمر بالغ الخطورة والتعقيد،فالمؤسسات العسكرية والأمنية لها نظام حاكم للأفكار، ورؤية نفسية خاصة يتم غرسها فى عقول وقلوب كل من يلتحق بها وينتسب إليها، وهذه الحزمة من الأفكار والتصورات قد تكون صالحة لإدارة شؤون المؤسسات العسكرية والأمنية داخل الثكنات وساحات الحرب لتحقيق أقصى درجات الانضباط والتواصل بين القيادات والجنود وقت المعارك والإلتحام مع الخصوم ،ولكن تطبيق هذه الأفكار الحاكمة للعقل العسكري على الحياة المدنية يسبب مصائب كبيرة، وإخفاقات بالغة ، سأتناول فى هذا المقال أهم الأفكار الرئيسة التى تستولى على العقل العسكري حيثما حل أو ارتحل لنُدرك مدى خطورة هيمنة العقل العسكري على الفضاء المدنى والسياسي والإجتماعى سواء على المستوي المحلى أو على المستوي العالمي .
الخبرة التاريخية
قررت اليابان رفع الراية البيضاء والاستسلام لدول الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية لتنسحب من الساحة العسكرية بعدما لحق بها الأذى البالغ والكبيرمن جراء الحرب فكان الرد الأمريكي هو الهجوم النووي على هيروشيما وناجازاكي في أغسطس 1945!!!
انهزمت ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى وقررت الانكفاء على نفسها وإعادة بناء ما دمرته الحرب فكان الرد من الدول الأوربية المنتصرة هو فرض الغرامات الباهظة على الألمان واقتطاع أجزاء من التراب الألمانى لصالح الدول المنتصرة والقيام بطلعات جوية من الدول المُنتصرة لتدمير المتاحف والمعامل الألمانية لتحقيق أكبر قدر من المهانة والإذلال للشعب والأمة الألمانية !!!!
فى حرب الخليج الثانية فى العام 2003 قدم العراق تنازلات ضخمة للمجتمع الدولى وفتح منشأته العسكرية للتفيش وأخضع كل مفاصل الدولة السيادية للرقابة الدولية ولكن أصرت القيادة العسكرية الأمريكية وحلفاءها على تفكيك وتدمير العراق بشكل كامل !!
العقل الصفري
كل ما تقدم يؤكد لنا أن العقل العسكري عقل صفري أُحادي النظرة لايؤمن بالحلول التفاوضية ولا يعمل بفلسفة دع الجميع يربحون فى النزاع، وإنما النفسية العسكرية قائمة على فكرة لابد من تكسير الخصم وشل حركته وتدمير قدرته على الحركة وضرب نقاط قوته بقسوة ثم بعدها يبدأ التفاوض والحوار، وهذا قد يكون مفهموما فى ساحات المعارك، لكن المشكلة الكبري تبرز عندما تتولى قيادة عسكرية زمام قيادة دوله من الدول أو مجتمع من المجتمعات ستتحرك فى إتخاذ قراراتها بناء على هذا العقلية الحاكمة وستنظر لكل تدافع فى المجتمع المدنى وصراع سياسي بين الأحزاب باعتباره صراع عسكري، لابد من تكسيرعظام الخصوم فيه وتركيعهم ثم بعدها يبدأ الحديث معهم ؛وهذا يسبب كواراث قاتلة ومصائب كبيرة تحل بالمجتمع والدولة والسلام العالمي؛فالمجتمع المدنى كل يوم هو فى تدافع وتنافس وتشاحن حول العديد من الرؤى والتصورات الخاصة بطريقة إدارة الدولة والمجتمع والناس، فالحياة السياسية قائمة على التناقض و التطاحن بين الأيديولوجيات المختلفة فستجد فى المجتمع أحزاب تتبنى الرؤية الإشتراكية ،وأخرى تُنادي بالليبرالية ،وثالثة تؤمن بالأيديولوجية الإسلامية وفى هذه الحالة لا استقرار للمجتمع إلا بالحوار والتواصل والتفاوض وتقديم التنازلات بين الأطراف وعقد التحالفات والصراع عبر صناديق الإقتراع، وكل هذه الأشياء السابقة لا يتحملها العقل العسكري الذى لايعرف سوى لغة الحسم وتحقيق الإنتصار بالضربة القاضية ولمس الأكتاف .
المخالف خائن
ويزيد من تعقيد هذا المشهد السابق هو أن العقل العسكري مبنى أيضاً على أن مخالفة الأوامر العسكرية جريمة كبري قد تصل عقوبتها للإعدام وقت الحروب – وعندما كنت أخدم بالجيش كنت أرى مدى الفزع الذى ينتاب الجندى عندما يصفه أحد القادة بأنه ُيكسر الأوامر لأن هذا يعنى أن هناك عقابا أليما ينتظره-.
فلك أن تتخيل سقف الحرية والعدالة فى المجتمع عندما تتولى قيادة عسكرية زمام القيادة فيه؛ حيث سيصبح كل مخالف فى الرأى فى مخيال القيادة خائن، وضد الأمن القومى ومصالح البلد العُليا ينبغى محاكمته، والتضيق عليه؛ لأن العقل والنفسية العسكرية لم تتدرب على أن تنوع الأراء وتعدد الحلول ثراء للمجتمع وللدولة وللأمة .وإنما النفسية العسكرية تنظر للعالم وللمجتمع والناس على أنهم أفراد فى كتيبة عسكرية ينبغى منهم تنفيذ الأوامر بدون مناقشة ولاتفكير ولا أخذ ولا رد.
الخلاصة
وبناء على ما تقدم نُدرك جميعا أن المجتمعات والدول التى تريد أن تحقق نهضة وحضارة وتقدم لابد لها من ضبط العلاقات العسكرية المدنية من خلال وضع القواعد والسياسات الكفيلة بتحقيق تناغم ما بين المؤسسات العسكرية والهيئات السياسية والقضائية فى الدولة حتى لا تطغى مؤسسة على مساحة عمل الهيئة الأخري، أو بالمعنى الدقيق حتى لايتفرد عقل مؤسسة ما من مؤسسات الدولة بقيادة المجتمع والدولة نحو ما لاتحمد عقباه.
هذا المقال نُشر لأول مرة في موقع مصر العربية