“نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المسلمة، نحن مسلمون ديمقراطيون، ولا نعرف أنفسنا بأننا الإسلام السياسي”، “نريد أن يكون النشاط الديني مستقلاً تمامًا عن النشاط السياسي، فهذا أمر جيد للسياسيين لأنهم لن يكونوا مستقبلاً متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية، وأيضًا للدين حتى لا يكون رهين السياسة وموظفًا من قبل السياسيين”.
هذه الكلمات نصًا من حديث راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي، الممثل السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، لصحيفة لوموند الفرنسية، وهي الكلمات التي فسرها العديد من المحللين بأنها لا تخرج عن أمرين لا ثالث لهما، الأول أن جماعات الإسلام السياسي متورطة بالفعل باستغلال الدين في الأمور السياسية، وهو يريد أن يخلص حزبه من هذه الورطة، لكي لا يخرج من المعادلة السياسية التونسية، أما الأمر الثاني فهو أن الغنوشي أدرك بحنكته السياسية وسنواته الطوال في معترك الإدارة الحزبية، أنه لا أمل للإسلام السياسي عربيًا ودوليًا، وهذه هي بداية النهاية الفعلية للإسلام السياسي، بعد ما لاقاه في مصر وتونس وليبيا وسوريا والأردن وربما اليمن الآن.
حفظ لكيان النهضة
لدينا تفسير آخر لكلمات الغنوشي، إذا أضفنا إليها كلماته في مؤتمر حركة النهضة الإسلامية الأخير بالبلاد، الذي أقر خلاله تحولات تدريجية مع الحفاظ على المنهج، توطئة للحظة يراها مناسبة لحفظ كيان حركة النهضة بالساحة التونسية، وهي خطوة طالب بها نظراءه في الجماعة بمصر منذ فترة طويلة، لكي لا يتم إقصاؤهم من الساحة السياسية ورفضوها، بل ونهروا الرجل وشنوا عليه حملة إعلامية غريبة، اتهمته بالتفريط قبل أن يثبت للجميع الآن قدرته على قيادة دفة الحركة للخروج من المطب الذي كان معدًا لها، لإخراج حركة النهضة والإسلاميين من العملية السياسية التونسية بالكامل.
الغنوشي أدان مسيرة الإخوان المسلمين في مصر والعراق وليبيا، ورأى أنها أدت إلى دمار في هذه البلدان وشدد على البعد الوطني في حركة النهضة التونسية، وقال إنه ليس مستعًدا للتضحية بتونس البلد والثورة لأي اعتبار آخر، الأمر الذي يشي بأن تغيرات السنوات الخمس الماضية وتطوراتها في مصر وتونس على وجه الخصوص، تركت آثارًا عميقة في تفكير الغنوشي وتوجهاته السياسية.
هجمة على الإسلاميين
دعونا هنا نعرض لكل الآراء المتجنية على الغنوشي وتلك المتفهمة لموقفه، الرافضة للإسلاميين بشكل عام والمحبة لهم، وأول هذه الآراء تقرأ تصريحات الغنوشي في الإطار العام للهجمة على الإسلاميين التي تلت صعودهم لكرسي الحكم بالعديد من الدول، بعد موجات الربيع العربي، حيث ترى وجهة النظر تلك أن هناك رفض واضح بالمنطقة ككل لتيارات الإسلام السياسي، خاصة في المجتمعات الخليجية تحديدًا، معتمدة على وجهة نظرها تلك في أن تيار الإسلام السياسي فقد مصداقيته، ولم يعد كما كان سابقًا، أما على المستوى الدولي فتعول تلك الآراء على اقتراب نهاية ولاية الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالبيت الأبيض، كونه – من وجهة نظرهم – من أكبر الداعمين لصعود تيارات الإسلام السياسي لسدة الحكم في المنطقة بعد الربيع العربي، خصوصًا جماعة الإخوان المسلمين المنتمي لها الغنوشي وحركته في تونس.
فأوباما اعتقد أن الإسلام السياسي سيأخذ المنطقة إلى الديمقراطية، والإصلاح السياسي، وأن الأحزاب الإسلامية، وتحديدًا الإخوان المسلمين قادرة على استنساخ تجربة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الحكم، لذا يعتقد أصحاب هذا الرأي أن الغنوشي بتصريحاته الأخيرة يفتح باب نقاش جاد بالمنطقة ككل لمناقشة ضرر الإسلام السياسي، والسعي لتصحيح المفاهيم البالية التي رسخت بعقول الأجيال نتاج حملات التيار الإسلامي، وخصوصًا الإخوان المسلمين.
أصحاب هذا الرأي يتهمون جماعة الإخوان صراحة بالسعي للاستحواذ حتى لو تحالفوا مع ملالي طهران، مستشهدين على وجهة نظرهم بأن الجماعة استقبلت الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بالقاهرة خلال فترة حكم الدكتور مرسي، بينما كان الحرس الثوري الإيراني يمعن في قتل الأبرياء بسوريا، إضافة إلى فتاوى الإخوان باليمن بقتل المنتمين للحراك الجنوبي خلال حكم المخلوع علي عبد الله صالح، بل كانوا في طلائع المقاتلين المقتحمين لعدن.
هروب أم منهجية؟
وجهة نظر أخرى تقرأ تصريحات الغنوشي وكأنها محاولة للتبرؤ من تهمة الانخراط في العنف، خصوصًا وأنه عبر أكثر من مرة عن مخاوفه من انخراط جماعة الإخوان في مصر في العنف، ردًا على الحملات الممنهجة ضدهم من قِبل النظام باعتباره أمرًا يسيء للجماعة، وأن هذه التصريحات فرضها الواقع الحالي للجماعة في مصر وتونس وليست عن قناعة حقيقية، وإلا فعليه لإثبات حسن النية البدء بتغيير وجوه كثيرة بالحركة داخل وخارج تونس تبدأ به شخصيًا ثم عبدالفتاح مورو وباقي الحرس القديم.
هذا الرأي يعتمد على أن التجربة الرئيسية لفشل الإسلام السياسي، هي التجربة المصرية، لكن الغنوشي أيضًا ذكر العراق وليبيا، فبعد الغزو الأمريكي للعراق سادت فيه الأحزاب الشيعية الطائفية “حزب الدعوة الحاكم مثلاً”، ومثل السنة فيه الحزب الإسلامي، وهو أحد فروع الإخوان المسلمين، وكانت تجربة مأساوية بكل المقاييس، أما التجربة الليبية فهي فضيحة كبرى للأحزاب الدينية، فالإخوان يسودون في غرب ليبيا، متحالفين مع ميليشيات محلية مسلحة تزعم كلها أنها حركات إسلامية، لذلك فإن ما يحاول الغنوشي القيام به هو حماية لتونس وللإسلام ولحركة النهضة كذلك.
استجابة للتحديات
هناك وجهة نظر أخرى تقرأ موقف الغنوشي في إطاره الأقرب إلى الصواب، وهي أن الموقف المعلن لحركة النهضة جاء استجابة للعديد من التحديات التي ارتأى معها الغنوشي الذي يقف بثقله خلف هذه التحولات أنه لا مفر من التغيير.
على رأس هذه التحديات – بحسب وجهة النظر تلك -، المخطط الإماراتي – السعودي، الذي سعى إلى الإطاحة بالإسلاميين وتحديدًا الإخوان، ممن تولوا السلطة في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي، وكانت إقامة الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن بن علي، في السعودية، عاملاً مهمًا في رصد منظومة دعم سياسي ومادي لخصوم الإخوان في تونس، وكان من نتيجتها خسارة الثورة التونسية لمنصب الرئيس لصالح نائب بن علي، الباجي قايد السبسي، وأدت الضغوط على النهضة إلى تبنيها مبدأ “مشاركة لا مغالبة” في انتخابات 2014م العامة، وفي حينه وجِه اللوم من جانب أطراف إسلامية عدة للغنوشي، وقالوا بأنه استجاب لمخطط بعيد المدى، مدعوم دوليًا لاستبعاد الإخوان من العملية السياسية بالكامل، حيث الخطوة القادمة هي حل البرلمان، وإعادة انتخابه من دون النهضة كخطوة تالية بعد استبعاد المنصف المرزوقي من منصب الرئاسة، من خلال المال السعودي – الإماراتي.
أصحاب هذا الرأي يقولون بأن النهضة استطاعت المرور من هذا المضيق والعبور منه إلى أفق سياسي أفضل على النحو الذي جرى، مع إدارة الغنوشي لملف أزمة الانقسام في حزب “نداء تونس”، الشريك الأكبر للائتلاف الحاكم، حيث لم يستغل الموقف بتحول الحزب إلى أقلية في البرلمان التونسي، والمطالبة برئاسة الحكومة، وأدرك الغنوشي منذ البداية، الحدود الممنوحة للإخوان، ونصح إخوان مصر بذلك قبل ترشيح مرسي للرئاسة، إلا أنهم لم يستجيبوا له.