من المنظور الإيراني يعرف المرجع الشيعي علي السيستاني بوكيل علي خامنئي في العراق المرشد الإيراني، ويعرف عراقيًا بالمرجعية العليا في العراق، وقد بقيت تلك المرجعية عنصرًا مهمًا في إضفاء نوع من الشرعية على ممارسات الحكومات العراقية المتعاقبة لما لها من ثقل في الرأي العام الشيعي في البلاد.
إن الصراع الشيعي – الشيعي في العراق له جذوره الدينية على الزعامة بين المرجعيات ذات التوجه العربي والمرجعيات ذات التوجه الفارسي، علمًا أن المراجع المندرجة تحت المراجع العربية والفارسية متنافسة فيما بينها عدا تنافسها كعربية وكفارسية على خدمة المشروع الإيراني أو رفضه، وقد يصل التنافس إلى صراع واغتيالات فيما بينهم على الزعامة لما لها من رمزية وسلطة ومال، لكن دائمًا ما تضبط إيران إيقاعات الصراع وتحسمه بالمرجعية العليا في البلاد من أن ينجر إلى صراع غير مدروس النتائج، فمظلة المرجعية الفارسية ألقت بظلالها وثقلها على المراجع العربية منذ قيام الثورة الإيرانية 1979م.
للصراع الشيعي – الشيعي أبعاد عسكرية وسياسية تضبطه المرجعية وتحدد مساره منذ انطلاق العملية السياسية في العراق بعد إزاحة المرجع ذا التوجه العربي عبدالمجيد الخوئي بعد يوم واحد من احتلال العراق أمام منافسه الشاب مقتدى الصدر، علمًا أن الأخير ليس مرجعًا دينيًا وإنما زعيمًا سياسيًا، إضافة إلى إزاحة المرجع ذا التوجه الفارسي محمد باقر الحكيم بعد 4 أشهر من الاحتلال أمام المرجع علي السيستاني ليتصدر المشهد، علمًا أن لمحمد باقر الحكيم مواقف معادية للاحتلال وصرح بضرورة مقاومة المحتل إذا ما انسحبت القوات الأمريكية من العراق وهو ما يتعارض مع التوجه الإيراني الذي عبر عنه السيستاني بفتواه الشهيرة بعدم مقاومة المحتل.
منذ انطلاق العملية السياسية في العراق تم حسم الخلافات والصراعات الشيعية – الشيعية التي تعتبر ما دون السيستاني، إلا أن مرض السيستاني وربما موته قد فتح الأبواب أمام الصراعات الصفرية، فالمراجع ورجال الدين لهم صلات بالأحزاب ولدى تلك الأحزاب مليشيات تعمل داخل وخارج مؤسسات الدولة والجيش والشرطة، ناهيك عن مرض خامنئي نفسه في إيران وهو الآخر يعمل بنفس النظام المتبع في العراق لكن بمؤسسات متناقضة ولها ثقلها ويحسم فيها الأمر خامنئي، فموت أحدهما سيفتح المجال أمام كل الاحتمالات على العراق بشكل خاص.
طيلة فترة ما قبل دخول “تنظيم الدولة” إلى العراق تعمل المليشيات الشيعية جنبًا إلى جنب مع الحكومة ولا تستهدفها بل تدعمها، علمًا أنها متنافسة فيما بينها تكتيكيًا ومنسجمة استراتيجيًا مع مشروعات الحكومات العراقية المتعاقبة التي لا تتعارض سياساتها مع إيران، لكن وبعد اجتياح داعش للعراق وتداعياتها التي أخرجت المالكي الطامح لولاية ثالثة، وقرار السيستاني بعدم التدخل في القضايا السياسية إلا عند الضرورة ، مع عودة الولايات المتحدة إلى العراق بقوة وهو ما جعل الأجندات الإيرانية والأمريكية تتصادم ولا تتوافق كما كان قبل الانسحاب.
هذه الحالة ولدت قوى شيعية من اللادولة لا تعمل مع الدولة والحكومة العراقية على المستوى السياسي والعسكري، بل تقف مع إيران ونفوذها وتنافس الحكومة العراقية على السلطة وبدأت تستهدفها، في محاولة من تلك القوى إدارة الدولة من موقع خارج سلطة الدولة بنفس النهج السابق لحكومتي المالكي السابقتين.
فمع التوجه الأمريكي الذي يقضي بعودة الدولة والقضاء على داعش في نفس الوقت تعارضت المصالح الإيرانية والأمريكية وانقسم الشيعة المتنافسون بين مؤيد للدولة ومؤيد لإيران ونفوذها ورافض عودة الدولة.
بدأت بوادر الصراع على الأرض عن طريق المليشيات عسكريًا والتظاهرات سياسيًا، فمليشيا سرايا السلام التابعة للزعيم الشيعي مقتدى الصدر التي ذاقت الأمرين في عهد نوري المالكي، وهي مليشيا منضبطة عروبية معروفة مناطق انتشارها، وأقل همجية وعنف، رفع مقتدى الصدر التجميد عن عملها بعد قدوم تنظيم الدولة ولم تشارك في جميع المعارك التي خاضتها فصائل الحشد الشعبي، فهي تقاتل بتحفظ عن المآلات والأهداف، وقد خرجت بعد تجميدها أقل عدوانية وطائفية.
مقتدى الصدر ميال إلى الدولة ويمكن توظيفه بخدمتها أمريكيًا، فكانت التظاهرات التي تزعمها تياره وهو على خلاف وصراع مع منظومة اللادولة التي أصبح يمثلها المالكي والعامري على وجه الخصوص، وقد دفعه اندفاعه إلى غضب إيراني سخر بعض المليشيات لضرب مدينة الصدر معقل التيار الذي يتزعمه، وقد شهدت الأشهر القليلة الماضية اغتيالات وصدامات متبادلة بين فصائل سرايا السلام وعصائب أهل الحق، فالعبادي يحاول استمالة الصدر لإجراء اتفاق سياسي عسكري مع مقتدى الصدر لدعمه في توجهاته الإصلاحية، لكنه بحاجة لقلع منظومات الفساد بحالة فوضى مؤقتة وبرعاية الولايات المتحدة الداعمة لهذا التوجه لأنه مع منظومة الدولة ويحارب منظومة اللادولة التي ترعاها إيران وهو مع الحل السياسي الداعم للدولة ورافض بصيغة أو بأخرى النفوذ الإيراني.
وقد قام العبادي بإصلاحات على المستوى السياسي والعسكري بتسريح ثلث مقاتلي الحشد الشعبي، كما تم إغلاق عدد من مقراتهم في ظل غياب من أفتى بتأسيسهم “السيستاني”، وقام بتعيين رئيس جديد للمخابرات وتغيير نائب رئيس هيئة أركان الحشد الشعبي، كما ألغى نواب رئاسة الجمهورية والوزراء التي أخرجت المالكي نائب رئيس الجمهورية من السلطة والحصانة.
فجميع تلك القرارات والمعطيات تصب في مصلحة منظومة الدولة الهشة من الناحية العسكرية والسياسية لكن لن تكون سهلة أبدًا ولن تكون دون دماء، خاصة وأن الأزمة السياسية مرتبطة بإصلاح أسس الدولة والقضاء على داعش وغياب أو تراجع قوة المرجعية في الحسم في الخلافات الشيعية الشيعية السياسية والعسكرية بمرض السيستاني وقراره قبلها بعدم التدخل في الأمور السياسية إلا عند الضرورة، وأن ذلك دليل واضح على ضعف إيران وتراجعها في ضبط المشهد الشيعي في العراق وهو ما يخدم الدولة العراقية مستقبلاً.