منذ منتصف القرن العشرين، شكلت القضية الفلسطينية المحور الرئيسي للصراع في المنطقة العربية، فهي القضية الأم للعرب منذ تأسست إسرائيل عام 1948 وقررت الجيوش العربية معًا في مصر والأردن وسوريا والعراق ولبنان والسعودية خوض حرب مشتركة، لأول مرة ربما تجتمع فيها تلك المجموعة الواسعة من العرب تحت مظلة واحدة منذ عصر الخلافة، وفي أول معركة تخوضها الدول العربية الحديثة في معظمها بشكل مشترك، وهي معركة ظلت تخوضها معظم شعوب تلك الدول بأشكال مختلفة على مدار أكثر من خمسين عامًا ليشكل العداء مع إسرائيل ثقافة تلك الشعوب وعقائد نُظمها السياسية والعسكرية.
في تلك الفترة تبلورت خطوط الانتماء القومية بشكل واضح، خاصة مع ما جرى أثناء سقوط الخلافة العثمانية من تصاعد خطاب القومية التركية في الأناضول، وظهور القومية العربية في الشام (كردة فعل لنظيرتها التركية بشكل جزئي،) ثم وصول القومية العربية لمصر في الخمسينيات مع تأسيس نظام عبد الناصر (وإن بشكل مختلف قليلًا عن نسختها الشامية،) والذي رسم ملامح الخطاب العربي من المحيط إلى الخليج ليكون مرتكزًا، ليس فقط للهوية العربية بمعناها الثقافي (لا العرقي،) ولكن لاعتبار عدوها الرئيسي والأصيل هو الكيان الإسرائيلي الذي تشكل ككيان قومي هو الآخر ولكن لليهود في نفس الفترة.
بالتزامن مع تبلور ذلك الخط القومي بين العرب والإسرائيليين، كان الأتراك قد انفصلوا بشكل شبه تام عن العرب سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا ولغويًا بإصلاحات أتاتورك الجذرية، ومن ثم بانضمام تركيا لحلف الناتو عام 1952، وبالطبع باعتراف تركيا بإسرائيل عام 1949 كجزء من اتجاهها نحو الغرب، في حين مر الإيرانيون بظروف مشابهة وإن كانت أقل وطأة وأقل نجاحًا تحت نظام الشاه البهلوي غربي التوجه هو الآخر والمناصر للكيان الإسرائيلي، وهو ما رسخ انقسام المنطقة وفق الخطوط القومية (العربية، والتركية، والإيرانية، واليهودية و/أو الإسرائيلية.)
كان العداء في تلك الفترة مع إسرائيل واجبًا قوميًا تُمليه التعريفات الجديدة التي ربما لم تلقى إجماعًا كاملًا من كافة الشرائح الثقافية في العالم العربي، لكن واجب معاداة إسرائيل بحد ذاته حظى بإجماع واسع بين مختلف الأطياف الاجتماعية والسياسية لسبب بسيط، وهو أن مواجهة إسرائيل كهدف تجاوزت الخطاب القومي نفسه، فقد تقاطعت مع الخطاب الإسلامي التقليدي من جهة، والذي اعتبرها قضية دينية بالأساس تمس المسلمين وعدائهم لليهود، كما تقاطعت مع الخطاب اليساري و/أو الشيوعي الذي انتشر في بعض الأوساط العربية بقوة أنذاك من جهة أخرى، باعتبار إسرائيل رأس حربة للإمبريالية الغربية ومشروعها لضرب العالم الثالث.
سرى الإجماع لأكثر من نصف قرن إذن بمركزية العداء مع إسرائيل، ولم يشكل الاختلاف في دوافع ذلك العداء أية أزمات كبرى تُذكر، فاليساريون في الغرب ممن ناصروا القضية حظوا بالحفاوة بين العرب، وهي نفس الحفاوة التي حظي بها الخميني بعد الثورة الإيرانية نتيجة خطابه المعادي لإسرائيل ولكن لدوافع دينية، ونفسها التي تمتعت بها ولا تزال دول لاتينية عديدة تقاطع إسرائيل، وأخيرًا النظم العربية التي استمرت على تمسكها بخطاب معاداة إسرائيل بعد اتجاه مصر للسلام عام 1979 مثل نظام صدام حسين قبل سقوطه، ونظام الأسد حتى عام 2010، وكافة الحركات الإسلامية.
ما بعد الربيع العربي
العلم السوري في ميدان التحرير في الذكرى الأولى للثورة المصرية
تغيّرت الخارطة بالطبع بسبب الأحداث الأخيرة، وهي آخذة في التغيّر في الواقع منذ مطلع القرن الجديد، فالدور الإيراني بعد الثورة الإسلامية قد أعاد رسم الكثير من ملامح المشرق، لا سيما بظهور التحالفات الشيعية المرتكزة للمذهبية بشكل واضح لا للقومية في العراق بعد الغزو وفي لبنان وأخيرًا في سوريا، كما أن الدور التركي هو الآخر تحوّل بعد ظهور حزب العدالة والتنمية عام 2003، وعودة السياسة التركية ولو جزئيًا لبعض من جذورها العثمانية و/أو الإسلامية، وتجاوزها للالتزام القومي الذي اتسمت به لقرن كامل.
كانت أول النتائج لتلك التحولات واضحة قبل الربيع العربي بسنوات قليلة، وهي بدء تلاشي خطوط التعريفات القومية العربية، بل وإساءة استخدامها في الحقيقة بوجه اللاعبَيْن “الإسلاميَّيْن” الجديديْن، واللذين تبنيا سياسة أكثر اهتمامًا بالقضية الفلسطينية، باعتبارهما “غير عربيين،” فقد تحدث البعض تارة عن “الاحتلال التركي” وخطورة عودته، وتارة أخرى عن طموحات التوسع الفارسي المختبأة تحت عباءة المذهب الشيعي، وهي حُجج أغفلت الكثير من طبيعة النظم الجديدة في إيران وتركيا، ولعلها أغفلت أكثر من ذلك فيما يخص تاريخ وجغرافيا المنطقة.
علاوة على ذلك فإن تحول الكثير من النظم العربية باتجاه السلام مع إسرائيل، لا سيما مصر والأردن الأكثر اشتباكًا بالدولة الإسرائيلية، وعزوف نظام الأسد السوري عن محاربة إسرائيل بشكل مباشر لأكثر من ثلاثة عقود، قد نقل المعركة الساخنة لصالح المجموعات المسلحة الإسلامية في معظمها بدلًا من الدول العربية القومية التقليدية، وبالتالي أحدث تحولًا في خطاب القضية الفلسطينية أكثر باتجاه الدوافع الدينية لا القومية، وأبرز تلك المجموعات بالطبع هي حماس وحزب الله.
أخيرًا، انطلق الربيع العربي من تونس إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن، وانقلبت المنظومة الإقليمية رأسًا على عقب لأول مرة بهذا الشكل الجذري منذ الثورة العربية الكبرى وسقوط الخلافة، وإن كانت قطاعات قومية واسعة قد رحبت بالثورات بعد إزاحتها شخصيات و/أو نظم محسوبة على التحالف الأمريكي ومناصرة للسلام مع إسرائيل مثل مبارك في مصر وبن علي في تونس، وبينما مر سقوط القذافي بشكل أكثر سلاسة نظرًا لعدم ارتباطه بشكل مباشر بالصراع مع إسرائيل وإن لم يكن محسوبًا على الغرب، إلا أن الأزمة السورية شكلت ذروة التعارض والتوتر بين الخطاب القومي العربي التقليدي ورؤيته للقضية الفلسطينية، والخطابات العربية ما بعد الثورات التي أكدت على أولوية الحرية والعدالة كمعيار يسري على القضية الفلسطينية نفسها.
كان التوتر واضحًا في مواقف الكثير من الشخصيات المعروفة صاحبة التوجهات القومية، والتي افتقدت على أقل تقدير لنفس الحماس في دعم الثورة السورية كما كانت في دعمها للثورات الأخرى، كما تجلى التوتر أيضًا في مواقف بعض النظم اللاتينية والمجموعات اليسارية الداعمة بشكل تقليدي للقضية الفلسطينية في الخارج، إذ اتخذت خطًا مناصرًا للأسد وظهيريه الإيراني والروسي، ونظرت للثورة كمؤامرة غربية بالأساس خاصة مع اتجاهها للدعم السعودي والتركي، وهما دولتين حليفتين للغرب منذ عقود، وظهور مجموعات إسلامية “متطرفة” في صفوفها، وهي مجموعات تنظر لها القطاعات اليسارية والقومية العربية الكلاسيكية كمجموعات “رجعية”.
عودة للسؤال الأصلي: لماذا نحارب إسرائيل؟
فلسطين في خريطة عثمانية قديمة للمشرق
في خضم تلك التحولات حريّ بنا أن نعيد النظر في مركزية القضية الفلسطينية، لا للتقليل من شأنها أو تهميشها بأي حال، ولكن لإعادة تعريف دوافعها الأصلية بشكل يفض الاشتباك القائم حاليًا حيال مجموعات مختلفة من المفترض أنها تناصر جميعها القضية الفلسطينية، فليس ثمة مرحلة بحاجة إلى مراجعة كتلك مثل المرحلة التي تمر بها المنطقة، والتي تشتبك فيها خطوط عديدة قومية ومذهبية ودينية وفكرية وقبلية، بل وتُعَد معاركها الرئيسية الساخنة اليوم في المشرق وليبيا واليمن أكثر منها في فلسطين التاريخية التي أضحت للمفارقة الجبهة الأكثر هدوءًا.
لم يبدأ تاريخ المنطقة بحال عام 1948، بل هو ممتد لقرون طويلة قبل ذلك، وهي حقيقة من المهم إدراكها لوضع القضية الفلسطينية في إطارها التاريخي، فكيان كإسرائيل لم يكن ليتأسس بحال في عصر الخلافة مثلًا، وبالتالي فهو وثيق الصلة بهيمنة الغرب وتعريفاته القومية، كما أنه وثيق الصلة بنفس نوعية الكيانات القومية العربية التي تأسست في نفس المرحلة وإن اشتعل العداء بين الطرفين للمفارقة نتيجة الخط القومي الفاصل بينهما، وهو ما يعني أن الدافع القومي بمعناه الكلاسيكي في الحقيقة هو الدافع الأكثر ضعفًا في مركزية القضية الفلسطينية، بل وربما الأكثر إضرارًا بها.
لا ينفي هذا أبدًا كون الصراع “عربيًا” إسرائيليًا بشكل جزئي، ولكنه يستتبع إعادة النظر في من له الحق بادعاء تمثيل “الحق العربي،” وينفي بالتبعية أولًا أحقية الدول القومية بمعناها الكلاسيكي في احتكار القيام بذلك، لا سيما وأنها إما خضعت لحسابات القوة الغربية في النهاية وتصالحت مع إسرائيل، أو فشلت في الحقيقة كما فعلت مرات عديدة منذ عام 1948، كما ينفي ثانيًا قابليتها للقيام بذلك طالما ظلت هي نفسها نظمًا طاغية وظالمة لحقوق شعوبها العربية في الداخل، وهي نقطة هامة في سياق ما جرى ويجري منذ اشتعال الربيع العربي، وعودة المعركة ضد الطغيان بشكل عام للواجهة، إذ أثبتت تلك النظم أنها لا تقل طغيانًا عن إسرائيل بأي حال، وأن الطغيان الإسرائيلي استثنائي فقط لأنه طغيان تتسم به طبيعة الكيان الإسرائيلي بحد ذاته، ولا يقتصر على أفعاله وبنيته السياسية.
يعني ذلك أن النظام المصري مثلًا إن تغيرت بنيته وأفعاله تجاه شعبه وصار نظامًا عادلًا يكون قد خرج عن نطاق المعركة ضد الطغيان، أما إسرائيل فأسباب العداء معها ترتكز لطغيانها ككيان قومي على حقوق الشعب الفلسطيني الجغرافية والتاريخية، وبالتالي فإن طغيان إسرائيل، على عكس النظم العربية، لا ينتفي إلا بانتفائها، وهي حقيقة من المهم إدراكها، أن عداءنا المطلق مع إسرائيل ليس عداءً لذاته، ولكنه عداء يعود لاحتكامنا إلى معيار العدل والظلم، وهو المعيار الذي يحكم بكونها كيانًا طاغيًا لطالما ظلت موجودة كدولة قومية لليهود في فلسطين.
أخيرًا، فإن بقية دوافع القضية تنبني فقط ليس إلا على فكرة كونها قضية عادلة وكون إسرائيل كيانًا طاغيًا، فالدافع الديني في القضية منبعه طغيان إسرائيل باستخدام الأيديولوجيا الصهيونية والعقيدة اليهودية على مقدسات الإسلام -والمسيحية كذلك- في فلسطين، وحقوق العرب المسلمين والمسيحين كغالبية عظمى فيها حتى بداية المشروع الإسرائيلي، والدافع العربي منبعه طغيان إسرائيل على الثقافة العربية برمتها كجزء من استئصال أية ملامح للحقوق الأصلية لأهل فلسطين، وهو الدافع الذي يجب التأكيد على أحقية العرب أنفسهم في رسم طبيعته وملامحه وطريقة تمثيله، لا الكيانات “القومية العربية” كما رسمها الاستعمار، وتلك السمة في الواقع موجودة في كافة الصراعات، فأي قضية عادلة في نهاية المطاف دومًا ما تتخذ قالبًا ثقافيًا و/أو دينيًا وفق سياقها الجغرافي والتاريخي.