منذ سبعينات القرن الماضي والحرب الباردة بين الرياض وطهران على أشدها سواء في الداخل أو الخارج، ومساعي كل طرف في تطويق مد الآخر لم ولن تتوقف، ففي الوقت الذي تكثف فيه إيران من مخططاتها لمد نفوذها في القارة السمراء لاسيما منطقة القرن الإفريقي، ها هي السعودية تلاحقها أينما ذهبت، مسخّرة كل ما لديها من إمكانيات لإخراج طهران من بلدان هذه المنطقة مهما كان الثمن.
ونتيجة السخاء الخليجي في تعويض دول المنطقة عن غياب الدور الإيراني نجحت الرياض في الحصول على دعم كل من السودان وجيبوتي وإثيوبيا لتوجهاتها والاستغناء بها عن الدولة الفارسية، وهو ما تجسد في قطع العلاقات الدبلوماسية بين إيران ودول القرن الإفريقي إرضاءً للسعودية بعد نجاحها في ملء الفراغ وتعويض شعوب وحكومات هذه الدول عن الدعم الإيراني.
ولم تكن مساعي الخليج في السيطرة على القرن الإفريقي من أجل تضييق الخناق على إيران فحسب، بل نظرًا لما يتمتع هذا الموقع من أهمية استراتيجية هائلة، وما يمكن أن يلعبه من دور عظيم في الحرب ضد اليمن، فضلاً عن كونه منطقة أمن قومي لدول الخليج في مواجهة الأهداف الشيعية بها.
وفي جولة جديدة من المخطط الخليجي للسيطرة على إقليم القرن الإفريقي ها هي السعودية والإمارات تسعيان للحصول على خدمات إريتريا السياسية واللوجستية نظرًا لموقعها المحوري، فضلاً عن الأهمية البالغة لميناء عصب الإريتري والذي يعد قاعدة عسكرية هامة في الحرب ضد اليمن.
“نون بوست” يسعى في هذا الطرح إلى إلقاء الضوء على أبرز ملامح النفوذ الخليجي في إريتريا واحتمالات نجاحه في الحصول على الخدمات العسكرية الإريترية في المواجهة مع اليمن، ومن ثم الإجابة على التساؤل: هل تنجح السعودية والإمارات من خلال ما يتمتعان به من نفوذ سياسي واقتصادي في توريط إريتريا في الحرب ضد اليمن؟
القرن الإفريقي والخليج
تتميز العلاقات بين الخليج ودول القرن الإفريقي بالبراجماتيكية البحتة، إذ يغلب عليها طابع المصالح المتبادلة بين الطرفين، وهو ما جسدته العديد من المواقف الأخيرة من الدول الخليجية من جانب ودول القرن الإفريقي من جانب آخر.
غابت منطقة القرن الإفريقي عن دائرة الاهتمام الخليجي لعقود طويلة في ظل قصر الرؤية الخليجية على المدى الأوروبي والأمريكي فقط، وهو ما دفع إيران للتواجد بقوة في هذه المنطقة، لاسيما في العقد الأخير، حيث نجحت في الحصول على دعم وتأييد السودان وإثيوبيا وجيبوتي وإريتريا وهو ما وضع دول الخليج في موقف حرج، لاسيما مع نشوب الحرب ضد اليمن، وصعود منطقة القرن الإفريقي كمحور استراتيجي هام ومحطة مؤثرة في التحكم في مجريات العمليات العسكرية داخل اليمن، ومن هنا كانت البداية.
كثفت دول الخليج من تواجدها الإفريقي في الآونة الأخيرة، حيث شهدت العلاقات بينها ودول القرن الإفريقي تطورًا لافتًا غير مسبوق في شتى المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، وهو ما كشف عنه السفير ضياء الدين بامخرمة سفير جيبوتي في الرياض، والذي أعلن عن ترقب بلاده توقيع اتفاق بينها وبين السعودية، لإنشاء قاعدة عسكرية سعودية على الأراضي الجيبوتية، مبينًا أن ذلك لن يكون مستغربًا خلال الفترة المقبلة، وفي حال وقع الاتفاق فإنه سيشمل التعاون في كل الجوانب العسكرية بريًا وبحريًا وجويًا.
وأوضح السفير بامخرمة في تصريحات له، أن زيارة الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله، الأخيرة للسعودية، ومن قبلها زيارة الرئيس السوداني، ورئيس الوزراء الإثيوبي، ولقاءهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في الرياض، أسست لتحول إيجابي عميق في العلاقة بين هذه البلدان، كما أسفرت عن تشكيل لجنة عسكرية مشتركة تنعقد بشكل دوري، لبحث آفاق التعاون، معتبرًا أن مشاركة جيبوتي في التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب، جاءت تلبية لدعوة المملكة، التي وصفها بأنها تلعب دورًا مؤثرًا على المستوى الإقليمي والدولي، وأن العلاقة مع السعودية مفتوحة على كافة المستويات، نظرًا لتطابق وجهات النظر بين البلدين في كافة قضايا المنطقة.
وبالعودة إلى الوراء قليلاً فقد نجحت الرياض في كسر شوكة إيران في السودان وإثيوبيا، حيث حلت بديلاً بنفوذها وأموالها في تعويض هذه الدول عن التقارب مع طهران، وهو ما تجسد في قطع هذه الدول علاقاتها مع إيران، مما يعد انتصارًا خليجيًا جديدًا في إفريقيا، دفع الخليج وفي مقدمته السعودية إلى تمديد نفوذه للسيطرة على هذه المنطقة بالكامل لاسيما من الناحية العسكرية.
وقد أرجع مراقبون الأسباب التي دفعت القوى الدولية إلى بناء قواعد عسكرية دائمة بجيبوتي وإريتريا، إلى أهميتها الاستراتيجية المطلة على المحيط الهندي والبحر الأحمر وشرق إفريقيا، فضلاً عن قربها من جزيرة العرب، وهو ما جعلها ساحة للصراع، إبان فترة الحرب الباردة بين المعسكرين السوفيتي والأمريكي في تلك الفترة.
ومما يجسد الفكر الاستراتيجي الجديد للخليج في إفريقيا التصريحات التي أدلى بها د. ظافر محمد العجمي المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج، والتي أشار فيها إلى أن جيبوتي ودول القرن الإفريقي استيقظت غربًا وشرقًا على مفردات من قاموس الاستعمار، كالتدخل لتحقيق الأهداف القومية، والحفاظ على المصالح، ومواجهة نفوذ الدول الكبرى الأخرى، مؤكدًا أنه ولي زمن استراتيجية الاقتراب غير المباشر بالانقلابات والنزاعات الطائفية والعرقية، وحل محله إقامة القواعد العسكرية على أطرافنا العربية شمال سوريا والعراق، وجنوبًا في جيبوتي.
ولخص العجمي رؤيته بتساؤل يجمع بين الخبث السياسي والفكر الجديد للخليجيين: أما آن الأوان للخليجيين “دفع الخلو” المطلوب في مجمع القواعد في جيبوتي الشقيقة، التي لم تتوقف عن طلب العون الخليجي ليحميها من تأجير أراضيها للأجنبي، وسد الثغرة الأمنية؟!
أثناء استقبال خادم الحرمين للرئيس الجيبوتي في قصر اليمامة بالرياض
الأزمة مع جيبوتي وتغير الاستراتيجية الخليجية
تعرضت العلاقات الخليجية مع دول القرن الإفريقي لهزة عنيفة في بدايات العام الماضي، كان لها مفعول السحر في بحث كل طرف عن وجهات سياسية جديدة يرد من خلالها على الطرف الآخر، وهو ما تجسد في الخلاف السياسي بين جيبوتي والإمارات العربية المتحدة في أبريل 2015، بسبب تباين وجهات النظر حول ميناء جبل علي، فضلاً عن الخلاف حول ميناء جيبوتي التي تديره الإمارات لمدة 20 عامًا بموجب اتفاق توصل إليه الجانبان عام 2005، تلاه مباشرة خلاف دب بين قائد سلاح الجو الجيبوتي وهيب موسى، ونائب القنصل الإماراتي على الشيهي.
وقد نُقل ملف الخلاف إلى التحكيم في لندن للنظر فيها وبدأت الإمارات بالبحث عن موانئ بديلة في اليمن والصومال وإريتريا، وهو ما فُسّر من الجانب الجيبوتي بمحاولة التضييق عليها، مما دفعها هي الأخرى إلى الانفتاح على الصين وتركيا وإسرائيل، وهو ما استفز الإدارة الخليجية بصورة كبيرة.
وعلى الفور ردت الإمارات بإغلاق قنصليتها بجيبوتي واستدعاء قنصلها، في أبريل 2015، فيما أبقت جيبوتي على سفيرها في أبو ظبي، واتخذت الإمارات عدة إجراءات من أهمها إيقاف رحلاتها الجوية على فلاي دبي التي كانت تسير شبه يومية بين جيبوتي ودبي، وكذلك منعت الإمارات الرعايا الجيبوتيين من دخول أراضيها.
وبالرغم من إعادة العلاقات بين الجانبين مرة أخرى، وفتح قنصلية الإمارات بجيبوتي، إلا أن ما حدث كان له تأثير قوي في اتساع الهوة بين الطرفين، مما دفع الإمارات والسعودية للبحث عن بديل جديد، وهو ما أفصحت عنه مجلة “إسرائيل ديفينس” في تقرير لها، حيث نشرت دلائل مصورة تكشف أن هناك محاولات من جانب دولة الإمارات العربية المتحدة لبناء قاعدة بحرية في إريتريا، واعتبرت المجلة أن التوجه السعودي الإماراتي نحو إريتريا، جاء بعد تعكر الأجواء بينهما وبين جيبوتي… فهل تصبح إريتريا هي البديل الجديد؟
ميناء جيبوتي الذي تديره الإمارات لمدة 20 عامًا
هل تصبح إريتريا البديل؟
بعد توتر العلاقات مع جيبوتي، سعت المملكة العربية السعودية إلى استقطاب إريتريا إلى صفها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا في محاولة لإخراجها من العباءة الإيرانية، فبعد أن كانت إريتريا داعمة بشكل كبير للجيش اليمني وجماعة أنصار الله، وهو ما اتضح من خلال اجتماعات عُقدت بين ممثلي جماعة أنصار الله مع منظمات إريترية في يناير الماضي، نجحت الرياض في تحويل إريتريا إلى الصف السعودي المناهض لإيران والداعم للتحركات العسكرية لقوات التحالف في اليمن.
وفي تقرير سابق للأمم المتحدة أشار إلى تقديم المملكة العربية السعودية الدعم المالي وإمدادات الوقود السعودي إلى إريتريا، ناهيك عن تبادل الزيارات بين مسؤولي الطرفين، التي كانت أبرزها تلك الزيارة التي أجراها الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، إلى الرياض خلال يومي 28 و29 أبريل 2015، وعقد خلالها جلستي مباحثات مع العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، وولي ولي العهد محمد بن سلمان، وتكررت الزيارة في ديسمبر الماضي.
أمّا على الجانب الاريتري، فانطلاقًا من المبدأ البراجماتيكي فقد رأت أسمرة أن الارتماء في أحضان الخليج سيساهم بشكل كبير في كسر العزلة والحصار المفروضين عليها، وتوسيع علاقاتها خارج المنطقة وجذب المستثمرين الغربيين، وهو الهدف الذي سعت إلى تحقيقه الخطوة الأولى، ومن ثم لم تجد أي حرج في إلقاء الورقة الإيرانية والتمسك بورقة الخليج باعتبارها الأكثر مكسبًا وفائدة لدى الإدارة الإريترية.
ومن هنا فقد دخلت العلاقات الإريترية الخليجية منعطفًا جديدًا من القوة والمتانة، ليبقى السؤال: ماذا يمكن أن تقدمه إريتريا للسعودية والإمارات في حربهما ضد اليمن من جانب، وفي تحقيق الأمن القومي الخليجي من ناحية القرن الإفريقي من جانب آخر؟
ميناء عصب الإريتري
أول المحاور اللوجستية الهامة في المحور الإريتري ميناء عصب، أكبر الموانئ الحيوية الممتدة على البحر الأحمر والخليج العربي، إذ يقع في منطقة قريبة جدًا من بؤر الصراع في اليمن، إضافة إلى قرب المسافة بينه وبين عدن، إذا ما تم مقارنته بالمسافة التي يجب أن تقطعها السفن إذا ما انطلقت من مصر أو السعودية أو السودان أو الإمارات في طريقها لميناء عدن الجنوبي، مما يعطي له قيمة عسكرية هامة.
كما يعتبر الميناء من أفضل الأماكن لإرساء سفن الإنزال فضلاً عن سهولة التنقل بينه وبين ميناء عدن اليمني مما يوفر الوقت والجهد مقارنة بالقيام برحلات طويلة في البحر الأحمر والخليج العربي للوصول إلى ميناء عدن لتزويد قوات التحالف بالمؤن والزاد والعتاد.
موقع إثيوميديا الإثيوبي أشار في تقرير له أن الإمارات والسعودية يعملان على إنشاء ميناء جديد بالقرب من مطار عصب الدولي في إريتريا، والذي يمكن أن يصبح أول قاعدة عسكرية دائمة في بلد أجنبي، وأكد الموقع أن صور الأقمار الصناعية توضح تقدمًا سريعًا منذ بدء العمل في القاعدة في سبتمبر الماضي.
السفن الحربية الإماراتية في ميناء عصب الإريتري
الدور الإريتري في الحرب ضد اليمن
نشرت العديد من المراكز البحثية الإقليمية والدولية العديد من الشواهد والأدلة التي تشير إلى الدور الهام الذي قامت به إريتريا في دعم الجهود العسكرية الخليجية في اليمن، إضافة إلى ما لديها من إمكانيات لوجستية هامة يمكن توظيفها في استمرار تلك الجهود، فضلاً عما تتمتع به من موقع محوري في تحقيق الأمن القومي الخليجي من ناحية الخليج العربي والبحر الأحمر.
معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في تقرير له مايو الماضي كشف عن اتفاق تم إبرامه بين المملكة العربية السعودية والإمارات المتحدة لتحقيق شراكة أمنية عسكرية مع إريتريا، بما يسمح للتحالف الخليجي باستخدام أراضي إريتريا ومجالها الجوي ومياهها الإقليمية للعمليات اليمنية.
الاتفاق تضمن في الوقت نفسه استئجار الإمارات ميناء عصب الإريتري، الذي يقع على ساحل البحر الأحمر، لمدة ثلاثين عامًا، كمركز لوجستي للبحرية الإماراتية، وحسب التقرير فقد استخدمت الإمارات هذا الميناء كمنصة إطلاق للعمليات البرمائية ضد جزر البحر الأحمر التابعة لليمن، كذلك تنفيذ هجمات جوية فوق اليمن، انطلاقًا من مطار العاصمة الإريترية أسمرة الدولي، بعد اتفاق مع الحكومة الإريترية يقضي بتجديد المطار.
هل تصبح إريتريا نقطة الانطلاق العسكرية ضد اليمن
وفي أكتوبر الماضي كشف مركز الدراسات الاستراتيجي والأمني الأمريكي “ستراتفور”، النقاب عن ثلاث قطع بحرية إماراتية تستخدم ميناء عصب الإريتري في إطار الجهد الحربي السعودي في اليمن، مشيرًا إلى أن القطع البحرية الإماراتية كانت تنقل جنودًا من السودان إلى اليمن، حيث التقطت الصور بالأقمار الصناعية في 16 سبتمبر الماضي، وهي تظهر 3 من سفن الإنزال قد رست في الميناء، ليست معروفة ضمن سفن البحرية الإريترية، وأظهر التحليل التفصيلي للصور أن السفن الثلاث تابعة لدولة الإمارات، وواحدة من هذه السفن أيضًا تم رصد توقفها في ميناء عدن اليمني، من أجل إنزال القوات السودانية وبعض المعدات في 17 أكتوبر الماضي، الأمر الذي يؤكد أن إريتريا قد تولت مسؤولية عسكرية ولوجستية مباشرة في العدوان السعودي على اليمن.
وفي تقرير لصحيفة الخليج الإماراتية، أواخر نوفمبر الماضي، أشارت فيه إلى أن نحو 500 عنصر تابعين للتحالف السعودي تلقوا تدريبًا أمنيًا وعسكريًا في منطقة عصب في إريتريا، تمهيدًا لدمجهم في قطاعي الشرطة والجيش، ضمن برنامج سري إماراتي في إحدى المعسكرات هناك، ثم تم نقلهم بعد ذلك إلى منطقة عدن لنقلهم إلى اليمن بعد ذلك.
الصحيفة أشارت إلى دفعة جديدة قوامها حوالي 600 شخص تم نقلهم مؤخرًا من عدن إلى إريتريا تمهيدًا لخضوعهم لبرنامج تأهيلي عسكري أمني ثم يتم نقلهم بعد ذلك إلى عدن ضمن البرنامج التدريبي الذي تموله دولة الإمارات العربية المتحدة.
مما سبق يتضح أن النفوذ السعودي والإماراتي نجح وبشكل كبير في تجنيد إريتريا لخدمة الأهداف الخليجية من ثلاث زوايا، الأول: تطويق المد الإيراني من خلال سحب بساط القرن الإفريقي من تحت الدولة الفارسية، وهو ما تجسد في قطع العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، الثاني: تسخير الموقع اللوجستي الحيوي لإريتريا لاسيما ميناء عصب في خدمة العمليات العسكرية لقوات التحالف في اليمن، الثالث: ضمان الأمن القومي الخليجي في منطقة القرن الإفريقي والتي تعد منطقة حساسة وتشكل تهديدًا مستقبليًا لأمن الخليج حال تركها دون رقابة أو سيطرة.