قضية الحكم في بلاد العربان، التي ابتليت بالاستبداد والفساد والجهل والتنازع الدائم بين فرقاء الأمة، ليست قضية صغيرة أو تافهة تحل بالتجربة والخطأ، والأساليب العشوائية في الإدارة والحكم والتنظيم، وليست هي التي تترك للصغار أو محدودي الثقافة والاطلاع، أو حتي للماهرين في العمل السياسي اليومي وقيادة الجماهير في الشوارع والمظاهرات، ولا لمن قضوا أعمارهم في السجون والمنافي، إذا كانوا غير مؤهلين لشغل كراسي الحكم، والتفاعل مع مستجدات الأوضاع، مهما بلغت تضحياتهم.
فالتضحيات، لم تكن، ولا يجب أن تكون ثمنًا تدفعه الأمم والجماعات، لمن لا يحسنون القيادة، مهما بلغت تضحياتهم وصدق نياتهم، فمقتل أي مؤسسة، هو في غياب عقل مفكر يدبر لها أمر يومها وينظر بعمق إلى مستقبلها.
والناظر في أسباب فشل التجربة الإسلامية في مصر والدول العربية، يستطيع دون عناء أن يقرر أن غياب العقول الكبيرة والنفوس السوية لدى هذه الحركات، كبيرها وصغيرها، هو السبب الرئيسي في فشلها وتخبطها – دون أن نغفل دور باقي العوامل -، فغياب العقول اليقظة عن مواقع القيادة والشورى، ضرب هذه الحركات في مقتل مرات ومرات، وستظل كذلك تتخبط في دهاليز العمل اليومي، والمعارك الصغيرة، ودغدغة مشاعر أعضائها وجماهيرها، فلا تري مستقبلها، ولا تحسن تدبير أحوالها، ولا أحوال أمتها التي تصدى لقيادتها، في ظل استمرار هذا الغياب.
فالعقول الكبيرة المبدعة، هي التي تطور الأفكار النظرية، وتجدد في آليات العمل الحركي، وتبتكر الأفكار، وتحدد المهام العاجلة والآجلة، والقرارات الاستراتيجية، وهي وحدها القادرة على بناء رؤى واضحة تعكس مرجعية الحركة وتنزلها واقعًا ينفع الأمة، فلا حركة دون نظرية، وويل لحركة تسبق فكرًا، فإن مآلها إلى الفشل لا محالة، ولا جسد – مهما كبر وانتشر- دون عقل يفكر، وينظم ويحلل ويستشرف، ويقرأ الواقع ويخطط للمستقبل، ويرشد الخطى.
لماذا تتأخر المراجعات؟
يعود أمر تأخر المراجعات داخل هذه الحركات إلى أسباب عديدة أهمها: العوائق الفكرية، فالناظر في حال هذه الحركات يجد عجبًا، فأنت لا تجد بينها مفكرًا ذا شأن، لا في القيادة، ولا في هيئة الشورى التي تشير على هذه القيادات، كما أن جمود الهيئات التنظيمية على أساليب قديمة بالية تكرس التبعية والانقياد والطاعة العمياء، جعل هذه الحركات، كالديناصورات المنقرضة في عالم الشبكات.
والأكثر خطورة هو أن مناهج التربية والتعليم داخل هذه الحركات تحجب أي ضوء علم عن أبنائها يأتي من خارجها، وهو الأمر الذي يجعل أصوات العلماء المجددين بعيدة عن عقول وآذان جماهير هذه التيارات وقياداتها، فتعيد الأخطاء المرة تلو الأخرى، وتفقد الأمة أعمارًا ودماءً وقدرات كانت هي أولى بها في مسعاها لبناء مستقبلها، والخروج من تيه حالها المزري الذي طال.
ماذا حدث؟
عقدت حركة النهضة التونسية مؤتمرها العاشر، وسط ترقب من الداخل التونسي والمحيط العربي والإقليمي والدولي – بعد أن أمضت سنتين في غاية الصعوبة في الحكم، تنحت بعدهما وسط أزمة سياسية خانقة ضربت البلاد، عائدة لمقاعد المعارضة البناءة الهادفة لاستقرار تونس وتلافي عودتها للاستبداد والانقلابات – على ضوء ما أعلنته الحركة من قرارات جريئة وجدالية، تتعلق بإقرارها يوم الأحد 22 مايو/ أيار 2016، الفصل بين نشاطاتها الدينية والسياسية.
حيث يشير بيان الحركة إلى أن ممارستها للنقد الذاتي والمراجعة، وتقيييم التجربة الماضية قبل وبعد الثورة التونسية، عبر حوار شامل لمدة عامين، قد أنتج رؤية جديدة جادة في الاستفادة من أخطائها قبل وبعد الثورة، تجعل هذه التجربة وهذا التاريخ، جسرًا لبناء المستقبل، ويبدل الخيار الاستراتيجي للحركة ومعالم مشروعها السياسي بمختلف أبعاده.
إن بيان النهضة يفتح باب الأمل واسعًا، لتغيير حقيقي لو وجد عقولاً تعي وآذانًا تصغي، ومؤسسات تعمل لنهضة الأمة.
ويؤكد البيان وتصريحات رئيس الحركة راشد الغنوشي أن “قرار التحول إلى حزب مدني، ليس قرارًا مسقطًا أو نتج عن الرضوخ لإكراهات ظرفية، بل هو تتويج لحركة تطور ومسار تاريخي تمايز فيه العمل السياسي عن الدعوي والمجتمعي والثقافي، بل هو “خروج من الإسلام السياسي للدخول في الديمقراطية المسلمة”، فمصطلح “الإسلام السياسي” غامض وملتبس، ولا أحد يعطي تعريفًا دقيقًا له، كما أنه “لم يعد هناك حاجة للإسلام السياسي الاحتجاجي في مواجهة الدولة”، كما صرح الدكتور رفيق بوشلاكة أحد قيادات الحركة ومفكريها المبرزين.
ومضى البيان موضحًا أن الحركة في مرحلة البناء والتأسيس لحزب وطني تونسي يعتمد المرجعية الإسلامية، ويتجه إلى تقديم إجابات أساسية على مشاغل واهتمامات التونسيين في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية، على أسس جديدة تتمثل في:
- اعتراف الحركة بأخطائها الماضية، والنأي بالدين عن المعارك السياسية.
- ودعوتها إلى توافق يتسع لجميع التونسيين عبر مصالحة وطنية شاملة “هي مشروع وطني يرنو للمستقبل، وليست صفقة تحت الطاولة بل هي رؤية شاملة”.
- من خلال العمل السياسي الوطني المشترك مع القوي السياسية الأخرى.
- للحفاظ على مكتسبات الثورة التونسية.
- عبر مزيد من الانفتاح على المجتمع وهمومه وخصوصياته والبعد عن الشمولية.
- وأنه، لا احتكار للإسلام أو فهمه.
- ولكن عبر مشروع ثقافي وطني، ووضع المرأة في قلب التنمية والنهضة، وتجديد ديني، يحمل المشروع السياسي ويحميه.
- وفهم جديد ورؤية جديدة للحداثة.
- ومنظومة قيمية فاعلة تحفظ الهوية في خضم كوكبة طاغية.
- كل هذا من خلال حكومة رشيدة، تضع تونس في قلب التحولات العالمية.
- وتترجم كل ذلك إلى ديموقراطية وحريات حقيقية، وتنمية وحياة طيبة.
إن الالتفات الصحيح لعبر الماضي، وحقائق الواقع، ومتطلبات المستقبل، تفرض على الحركات الإسلامية وغير الإسلامية فرضًا أن تراجع تجاربها، حتى يمكن لها أن تستعيد مسار التغيير الصحيح.
مشروع طموح، وتحديات عميقة
هناك تحديات عميقة تواجه حركة النهضة ناتجة عن هذا الخطاب الجديد، والمشروع الطموح، الذي يحمل آمالاً عراضًا في دولة حديثة محاطة بمرجعية إسلامية منفتحة، تعلي من شأن الشريعة، وتتخذ الديموقراطية طريقًا لتحقيق سيادة القانون والمساواة بين الجميع من أبنائها، أهمها:
- أولها
أن الشرع الإسلامي الذي تجعله النهضة مرجعيتها الأساسية، كما يعتبر نقطة قوة للإسلاميين إذا نجحوا في إيجاد مؤسسة حزبية تعبر عن روح الإسلام وتجابه تحديات العصر وعواصف السياسة والمصالح في منطقتنا العربية، تملأ الفراع الذي تركته أنظمة دول ما بعد الاستعمار بكفاءة وفعالية دون استبداد أو فساد أو احتكار للمجال العام وتدجين للمواطن العربي، سيزيد من فرص شرعيتهم الشعبية، وتثبيت أركان تجربتهم الوليدة مما يجعلها نموذجًا عربيًا حقيقيًا يستند إلى المرجعية الإسلامية، لكنه، أيضًا، يعد تهديدًا محتملاً لقدرتهم على تولي السلطة، في هذه اللحظة الملتبسة من عمر الأمة العربية في التاريخ الحديث، وما يكتنفها من أنواء عاصفة وتحديات شاملة داخليًا وخارجيًا فكرية وعملية، إذا فشلوا في تحقيق ذلك، لأن البديل قد يكون أسوأ بكثير، وأحوال دول الربيع حولها خير دليل.
- ثانيها
أن الحداثة كما تقول الدكتورة هبة رؤوف “ليست هي المعاصرة، بل هي فلسفة كاملة تصوغ منطق العقل الغربي، وهي ابنة مشروع الاستنارة، ومشروع وستفاليا لبناء منظومة رأسمالية، كان تأسيس الدولة القومية، ووقف الحروب بين الشعوب الأوروبية شرطًا لازمًا لها، كما أن ما فعلته الحداثة بالدين، لا تكفي فيه محاولة بناء جيل قرآني فريد يعيد بناء أمة لا يعرف تضاريس ثقافتها، بل يلزمه فهم عميق لمرتكزات الحداثة التي غرسها الاستعمار في تربة دولة ما قبل الاستقلال، حين أعاد تشكيل كثير من التصورات المركزية وربطت التيار العام للتدين بالدولة وسقفها”، فهل تستطيع النهضة أن تواجه تحديات تلك الحداثة في المجال السياسي والتجديد الديني؟
- ثالثها
هل يمكن للحركة، من خلال تحولها إلى حزب سياسي، أن تحقق مصالحة حقيقية في تونس، وتضع بالمشاركة مع القوى السياسية التونسية – التي تكن كثير منها عداءً تاريخيًا ومصلحيًا للنهضة -، مشروعًا مستقبليًا لتونس، يحافظ على الثورة التونسية ويحقق أهدافها، ويتبنى هموم الناس في تونس، وخاصة شبابها ونسائها، ويتجنب المعارك اليومية التافهة التي قضت على تجارب الإسلاميين في مصر والسودان ومزقت مجتمعاتهم؟
- رابعها
كيف يمكن للنهضة أن تصوغ مشروعًا ثقافيًا، يجدد فهم الدين، ويضع المرأة في قلب عملية التنمية والنهضة، في ضوء الفصل بين الدعوي والسياسي، وأي آليات يمكن أن تتخذها في سبيل تحقيق ذلك، دون إقحام الديني في السياسي، الذي أشعل النار في كل التجارب الإسلامية خلال الـ 60 عامًا الماضية وأحالها إلى رماد؟
- خامسها
كيف ستعمل النهضة على بناء حكومة رشيدة، تحقق الديموقراطية والتنمية، في ظل حالة الاستقطاب الحالي في تونس، والتحفز الكبير ضدها من قوى كثيرة داخلية وخارجية، وفي ظل غياب لكوادر حقيقية تستطيع حمل مسؤولية إدارة دولاب العمل الحكومي والثقافي والدعوي، ومعدلات بطالة عالية وديون خارجية ورأس مال معولم استهلاكي، ومواطن بعيد كل البعد عن فهم واستيعاب الطموح الكبير للمشروع الإسلامي لتحقيق شهود حضاري في عالم اليوم؟
- سادسها
هل يمكن للنهضة أن تترجم برنامجها ومشروعها الوطني وإدماج التونسيين في السياسة، وجعل السياسة جزءًا من حياتهم اليومية ليكونوا روافع الحركة التي تحقق أهدافها، وهل تمتلك النهضة التنظيم الحزبي القوي القادر على تحقيق ذلك؟ فالأحزاب الحقيقية، تصنع صورتها من قدرتها على تقديم برامج حقيقية واقعية تسهم في حل مشاكل الحاضر، والإعداد للمستقبل، والتصالح مع الماضي.
- سابعها
هل تستطيع النهضة/ الحزب، أن تبدد الشكوك والتخوفات المشروعة التي يبديها التونسيون وغيرهم، من عدم قدرة الحركة/ الحزب على أن تصبح حزبًا مدنيًا تونسيًا قلبًا وقالبًا ولاؤه لتونس وحدها، وتقيم البرهان على ذلك من خلال مسلكها العملي بعد الإقرار النظري، في ظل أن حزبًا عربيًا منذ نشأة الأحزاب في بلادنا العربية لم يستطع تحقيق ذلك حتى الآن؟
- ثامنها
كيف يمكن للنهضة/ الحزب، أن تقنع وتغير من طبيعة وتركيبة ورؤية ومسلكيات سلطة تنفيذية معتادة على القوة المتعجرفة، وأن تخضعها لسيادة القانون، لقد سلكت النهضة طريق التغيير التدريجي، عبر إيمانها أن الثورة وحدها ليست الطريق للتغيير الحاسم، فهل تنجح فيما فشلت فيه مثيلاتها وأخواتها في مصر والسودان في ترويض السلطات التنفيذية المتحكمة في منافذ المستقبل الديمواقرطي والمتمثلة في الجيوش والداخلية والقضاء والجهاز البيروقراطي الحكومي، وروافدهم القوية من رأس المال الفاجر، والعصبيات المستميتة في الحفاظ على مصالحها، تحدٍ كبير وقاسٍ في ظل تبعية لا مثيل لها تمر بها منطقتنا العربية؟
خاتمة
لقد رزقت النهضة قيادة، حنكتها التجارب، وأثقلتها المحن والخطوب والمنافي، ورسخت رؤيتها قراءة دائمة للتجربة، وتعمق في فهم العالم، وبحث علمي راق وراسخ في الشريعة، ومنفى كان سياحة عقلية لقياداتها، جعلها تخرج بهذه الرؤية الحضارية العميقة لتونس المستقبل، ويبقى تحدي هذه القيادة اليوم وفي الغد القريب القصير، أن تهيء الطريق للأجيال الجديدة في الحركة، عبر نقل خبراتها إليها، وإتاحة الفرصة كاملة لها للقيادة، قبل مغادرتها مسرح التاريخ بحكم السن، لتبدأ هذه الأجيال من أرضية راسخة تبني عليها الواقع الجديد لتونس.
قرار التحول إلى حزب مدني، ليس قرارًا مسقطًا أو نتج عن الرضوخ لإكراهات ظرفية، بل هو تتويج لحركة تطور ومسار تاريخي تمايز فيه العمل السياسي عن الدعوي والمجتمعي والثقافي، بل هو “خروج من الإسلام السياسي للدخول في الديمقراطية المسلمة”.
وبالنسبة لباقي الحركات السياسية في العالم العربي – وخاصة الإسلاميين – ربما كانت من أول وأهم العبر التي نستخلصها من هذه الخطوة المثيرة للجدل والطموحة من حركة النهضة للتحول إلى حزب سياسي، يحمل رؤية راقية تجسد طموحات النهضة العربية الإسلامية منذ أكثر من قرنين مضيا ولما تتحقق بعد واقعًا، هي تلك العبرة المتعلقة بضرورة أن تسلم قيادة هذه الحركات إلى النخب الواعية العاقلة المدركة لمتغيرات العصر، المستوعبة لروح الشريعة، المتمكنة من إدارة العمل السياسي، عبر خبراتها المكتسبة من تجارب الماضي، ودروس الأمم من حولنا، تلك القيادات التي لديها القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة، مهما كانت مغايرة لاتجاه الجماهير وعواطفها.
وثاني أهم هذه العبر هي العبرة المتمثلة في ضرورة قيام القوى الإسلامية، وغيرها من القوى السياسية المتناحرة على السلطة في عالمنا العربي والإسلامي اليوم بابتكار طرقًا جديدة للتعامل مع الإسلام والعالم بدلاً عن صيغة احتكار التحدث باسمه أو باسم الشعوب، أو بالنيابة عنه أو عنهم، التي صارت مطية للجميع للهيمنة على السلطة والسلطان في بلادنا.
وهو الأمر الذي أنتج أزمات متوالية، وتنازعات، في السياقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمجتمعاتنا، ناهيك عن حالة الاحتراب السياسي التي صارت حروبًا حقيقية يدفع ثمنها المسلمون والعرب دماء تهدر، وثروات تبدد، وأعمارًا تفنى، ومستقبلاً يصادر، لصالح تبعية تتعمق، ودولاً تتفكك، ومجتمعات صارت أمنيات أجيالها الجديدة تنحصر في هجرة إلى الشمال، أو تدميرًا شاملاً لمجتمعات لم تعد قادرة على تحمل تبعات حاضرها ومستقبلها، فهل تستشعر باقي الحركات الإسلامية وغير الإسلامية، ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها، وخطورة وإلزامية الخطوة التي يجب أن نقدم عليها وصعوبتها، وتبدأ في مراجعة مواقفها ورؤاها وممارساتها؟
إن الالتفات الصحيح لعبر الماضي، وحقائق الواقع، ومتطلبات المستقبل، تفرض على الحركات الإسلامية وغير الإسلامية فرضًا أن تراجع تجاربها، حتى يمكن لها أن تستعيد مسار التغيير الصحيح، حتى تتعزز فرص الانتقال الديموقراطي الآمن الذي يحقق للأمة أهدافها، ويسهم في تحقيق نهضة وتنمية عزت طويلاً على التحقق في ظل الماضي الأليم والحاضر البائس الذي عشناه طيلة السنوات الخمس الماضية.
إن بيان النهضة يفتح باب الأمل واسعًا، لتغيير حقيقي لو وجد عقولاً تعي وآذانًا تصغي، ومؤسسات تعمل لنهضة الأمة.