لقنت أزمة الرئاسة في البرازيل، اليسار في دول أمريكا الجنوبية درًسا مؤلمًا، بعد سنوات من الازدهار بالدول اللاتينية على حساب قوى اليمين والوسط، لتعيد تلك القوى من جديد – بعيدًا عن الانقلابات العسكرية – لتغير المشهد والخارطة الجيو – سياسة في المنطقة.
وجاءت إقالة الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف، ابنة المهاجر البلغاري عن رئاسة أكبر دولة لاتينية من منصبها الرئاسي مؤقًتا، لتمنع عن اليسار في القارة الجنوبية أنبوًبا للأكسجين، كان يمتد إلى مختلف أنحاء القارة من شمالها إلى جنوبها، بعد أن جسدت دولتها إنجاز اليسار في أعقاب سنوات طويلة من حكم الديكتاتوريات العسكرية بوصول الرئيس السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، إلى سدة الحكم، ونجاحه في اجتثاث الفقر لأكثر من 30 مليون برازيلي باعتماده على تحالفات عريضة، خصوصًا مع قوى الوسط بالبلاد، أتاحت له الوقت الكافي لتنفيذ سياساته ومحاسبته عليها.
تحالفات تنهار
الإطاحة بروسيف أو الانقلاب عليها كما تسميه، جاءت مؤشًرا على تراجع نسبي ملحوظ للموجة اليسارية التي اشتدت على مستوى معظم دول أمريكا اللاتينية عبر صناديق الاقتراع في أعقاب انتهاء “الحرب الباردة”، حتى إن اليساريين والاشتراكيين والماركسيين، رسخوا جميعًا حضورهم على حساب اليمين على امتداد القارة باستثناء دولتين فقط، هما كولومبيا وباراجواي.
ديلما التي رشحها سلفها لولا للرئاسة بعد ولايته الثانية نجحت عبر التحالف مع قوى يسارية ووسطية في الفوز بمنصب الرئاسة عام 2011، نجح تصويت مجلس الشيوخ البرازيلي في عزلها عن ممارسة مهامها، ما يعني أن القارة اللاتينية مقبلة على متغيرين هامين أولهما انهيار اليسار بالبرازيل التي قلنا إنها متنفس رئيس لباقي دول القارة والأنظمة الاشتراكية بها، والثاني هو خفوت أو انحلال تحالفات اليسار والوسط، تلك التحالفات التي سهلت وصول قوى اليسار لكرسي الحكم بعدة دول ما يعني أن الأمور مقبلة على تغيرات دراماتيكية هامة.
بداية الأزمة
قبل الخوض في سيناريوهات الموقف بالبرازيل ومن ثم تأثيراته على اليسار بالقارة اللاتينية، لا بد أن نعود لأصل القصة، حيث بدأت المظاهرات الشعبية في البرازيل ضد حكومة روسيف، منذ عام 2014، عندما احتج آلاف البرازيليين ضد استضافة بلادهم لكأس العالم لكرة القدم، في الوقت الذي كانت فيه بلادهم تعاني ركودًا اقتصاديًا حادًا.
وتوالت الاحتجاجات بالشوارع مناهضة للحكومة ومتهمة إياها بالفساد والتقصير، وخلال شهر مارس الماضي تزايدت حدة المظاهرات بالشوارع البرازيلية، وتخطت أعداد المحتجين المليون شخص، للمطالبة بمحاكمة ديلما روسيف، ورفيقها في الحزب لولا دا سيلفا الرئيس السابق، خصوصًا مع انتشار رائحة فضيحة الفساد المعروفة باسم “لاجا فاتو”، والتي أظهرت، طبقًا للتحقيقات، تورط عدد من أعضاء حزب العمال اليساري الوسطي، الذي تنتمي إليه ديلما، في قبول رشاوى مالية قدمتها الشركة الحكومية للنفط “بتروراس”، من أجل عقد صفقات مخفضة.
واتهمت المعارضة روسيف رسميًا بالتورط في فضيحة الفساد مستندين إلى كونها كانت على رأس شركة بتروراس النفطية الحكومية طوال سبع سنوات، بالإضافة لأنها سارعت بتعيين الرئيس السابق ورفيقها بالحزب لولا دا سيلفا، في بداية العام الجاري رئيسًا لديوان الحكومة، وهو منصب يمنحه حصانة قضائية.
انقسامات خطيرة
الآن بات الوضع بالبرازيل منقسم تمامًا في دولة الـ 200 مليون نسمة، بين الطبقات الفقيرة المؤيدة لروسيف، والتي ترى فيما حدث لرئيستهم انقلابًا ناعمًا على الشرعية الانتخابية، بمساعدة جناح القضاة، وبين معسكر المعارضة المؤيد لقرارات العزل، باعتبارها نتيجة للفساد والركود الاقتصادي اللذين يضربان البلاد.
الأزمة بالبرازيل لم ولن تنتهي برحيل ديلما روسيف أو بقائها، فهي أكثر منها أزمة اقتصادية من فساد مستشري بالمؤسسات الحكومية، وعجز بالميزانية يفوق حتى اللحظة الـ 200 مليار بالعملة المحلية، بالإضافة للديون الداخلية التي تعاني منها الميزانية، والبطالة والتضخم والأزمات الاجتماعية وغيرها، واليوم كل وسائل الإعلام تتحدث عن علاقات دولية وتحالفات، والفساد صار خبرًا ثانويًا بوسائل الإعلام المحرضة على الحكومة السابقة، رغم أن بعض الرموز بالحكومة المؤقتة الجديدة متورطة فيه.
اليمين في الصورة
على مستوى آخر ما يحدث في البرازيل هو أزمة جيو – سياسية، في السياق العالمي، في ظل رغبة الولايات المتحدة نفسها وأوروبا لإنهاء الحكومات التقدمية التي رفعت المستوى الاجتماعي وحاربت الفقر، وأعادت الطبقة الوسطى، وحققت العدالة الاجتماعية، وحافظت على الديمقراطية وتنتهج سياسة الاستقلال، وهناك الآن موجة اليمين الذي انتصر بالفعل في الانتخابات الرئاسية في الأرجنتين، وفى الانتخابات التشريعية بفنزويلا ومعظم دول أمريكا اللاتينية، والآن يحاول أن يسيطر على البرازيل.
وبالتالي فإن معركة الرئاسة ستقررها الأشهر الستة المقبلة بالبرلمان بغرفتيه، لكن هل ستشهد البرازيل عودة جديدة لليسار ولو بتيار معارض، أم سيختفي نهائيًا بها، وبالتالي بباقي دول القارة تباعًا.
الرد على هذا التساؤل جاء سريعًا من وزير خارجية البرازيل جوزيه سييرا، الذي أكد في تصريحات إعلامية أن أولوية علاقات البرازيل المقبلة ستكون مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان، رافضًا مسمى الحزبية في العلاقات كما كانت بالماضي، في إشارة إلى سياسة الحكومة العمالية اليسارية السابقة.
بالإضافة إلى ما سبق ستسعى الحكومة المؤقتة إلى تمرير قوانين ومشاريع برلمانية، كونها تسيطر على البرلمان تمامًا؛ من أجل إخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية، محملة الحكومة العمالية كل الأزمة والعجز الذي تمر به البلاد، وهي قوانين بحال تثبيتها، ستتضرر منها الطبقات الأدنى والأكثر فقرًا، على الرغم من أنه لا توجد حلول سحرية بالمرحلة الحالية، والبطالة مرشحة للارتفاع وقد تصل إلى 14% حتى نهاية العام، أي 28 مليون عاطل، وبالتالي ستلجأ الحكومة الجديدة إلى رفع الضرائب، وفرض ضرائب جديدة، من أجل سد العجز بالميزانية، وربما تلغي قانون الضمان الاجتماعي، الأمر الذي سيفرض على حزب العمال واليسار البرازيلي بمجمله مراجعة سياساته لتجاوز أزمته التي نتج عنها عزل روسيف، وليتمكن من العودة إلى كسب ثقة الشارع البرازيلي الذي فقدها خلال ما يزيد عن العام بقليل، ليعود إلى قيادة الجماهير بمعاركها المطلبية، لتعود الثقة من جديد.
فحزب العمال يطمح بالعودة إلى الحكم خلال الأشهر القادمة من خلال الاعتماد على نقطتين أساسيتين تتعلق الأولى منها بتبرئة ديلما روسيف بالمحكمة الدستورية الاتحادية من التهم التي وجهت لها، والثانية تتمثل في نجاح حزب العمال في إقناع عضوين بمجلس الشيوخ من أصل عشرة ماضيهم يساري بالمجلس، كحد أدنى من الذين صوتوا لعزل الرئيسة بالجولة الأولى بالتصويت لصالح بقائها بالجولة الثانية بحال إدانتها من قبل المحكمة الدستورية، حيث إن المعارضة بحاجة إلى 54 صوتًا لعزل الرئيسة، وبالجولة الأولى صوت 55 سيناتور بالموافقة، ليبقى تساؤل هام في حال عودة روسيف، أو إقرار عزلها نهائيًا: هل تنجح البلاد في القضاء على الركود الاقتصادي وقضايا الفساد، بالإضافة إلى وباء زيكا المستشري بالبلاد؟ ننتظر لنرى.
مراجعات مطلوبة
على كل حال أصبح اليسار وبالأخص حزب العمال مضطرا للقيام بجهد كبير، من خلال إجراء مراجعة سياسية، حتى يتمكن من تعديل سياساته، والتي تتمثل في إعادة تحديد استراتيجياته القائمة على “الاشتراكية الديمقراطية” ، ووضع أساليب تعطى أولوية للدفاع عن الحقوق الديمقراطية والاجتماعية، وإعادة هيكلة نظامه المؤسسي، وإن لم تحدث هذه التعديلات سينتصر اليمين لا محالة، وفى هذه الحالة ربما يحتاج اليسار إلى عقد من الزمن أو أكثر، لإعادة تجميع الصفوف مرة أخرى كقوة حقيقية وقوية.
انقلاب أبيض
الشاهد .. أن ما يحدث في البرازيل الآن ليس انقلابا عسكرياً كالمعتاد في دول أمريكا اللاتينية، ولا هو ثورة شعبية لها مطالب مشروعة، بل هو انقلاب أبيض “مؤسساتي” من القضاة ومؤسسة الرئاسة نفسها من خلال ميشيل تامر نائب الرئيسة، ومؤسسات التشريع مجلسي النواب والشيوخ ، علاوة على المؤسسات المالية ورجال الأعمال ووسائل الإعلام ، للعودة إلى النظم الرأسمالية والليبرالية التي تحقق أهداف جماعات المصالح، والتي تخدم إستراتيجية البقاء تحت سيطرة نظام عالمي أحادى القطبية، في مقابل الرغبة اليسارية في عالم متعدد الأقطاب.