عادت مدينة الفلوجة العراقية المعروفة بمدينة المساجد إلى واجهة الأحداث من جديد، حيث أعلنت القوات العراقية المدعومة بميليشيات الحشد الشعبي صباح الإثنين، انطلاق عمليات تحرير المدينة من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية الذي يسيطر عليها منذ أكثر من عامين.
أكثر من عامين مرا على سقوط الفلوجة السنية في قبضة تنظيم الدولة، ففي شهر يناير 2014 وبينما كان ظل إيران في العراق نوري المالكي رئيسًا للوزراء، خرج التنظيم الجهادي من صحاري الأنبار ودخل إلى المدن السنية التي وفر له سكانها الحاضنة الشعبية بعد أن تعرض أبناؤها وعشائرها إلى مقتلة عظيمة في 30 من ديسمبر عام 2013، بعد أن اعتقلت قوة أمنية عراقية، النائب عن محافظة الأنبار أحمد العلواني وقتلت شقيقه، وأحرقت خيام المعتصمين في ساحة مظاهرات الرمادي قرب جسر البوفراج.
منذ ذلك الحين، ظلت مدينة المساجد وأرض الملاحم التاريخية التي سطرتها المقاومة العراقية السنية في مواجهة الاحتلال الأمريكي، عصية على أن تدخلها القوات العراقية المدعومة بالميليشيات الشيعية والصحوات السنية، بل ورغم أشهر طويلة من الحصار والقصف بالليل والنهار ومنع الأكل والشراب والدواء والسلع الأساسية من الدخول إلى المدينة، ظل أهل المدينة متماسكين ومتعاونين فيما بينهم وإن كانت بعض التقارير الإعلامية تقول إنهم ساخطون على مقاتلي تنظيم الدولة بسبب سياساته الداخلية.
لقد ظلت الفلوجة متماسكة وعصية على القوات العراقية المدعومة بالميليشيات الشيعية لأن سكانها وعشائرها يعلمون تمام العلم أن دخول الحشد الشعبي إلى المدينة سيعني بالضرورة مقتلة عظيمة وفتكًا عظيمًا سيحل بهم وبعائلاتهم وبممتلكاتهم ومساجدهم مثلما أكد ذلك أكثر من ناشط عراقي، ولهم فيما حصل في تكريت وبيجي وديالى والمقدادية وجرف الصخر عبرة.
ففي شهر يونيو 2015 أصدر تنظيم الدولة الإسلامية، مقطع فيديو نشر على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر عددًا من شيوخ ووجهاء مدينة الفلوجة والكرمة الواقعة ضمن محافظة الأنبار غربي البلاد، يعلنون مبايعة التنظيم وزعيمه أبو بكر البغدادي، وأعلن أحد شيوخ عشائر الفلوجة الذي كان يتحدث خلال مؤتمر صحفي، عن تأييد العشائر أن تكون المناطق الغربية تحت حماية وراية التنظيم، حيث قال إن الفلوجة وبرعاية العشائر الموالية للتنظيم وعناصر التنظيم ستكون عصية على القوات الأمنية وقوات الحشد الشعبي الذين وصفوهم بالمجوس وبالميليشيات الإيرانية التي تهدف إلى تنفيذ المشروع الصفوي.
كانت بيعة عشائر الفلوجة ضربة قاضية لجهود الحكومة العراقية لاستعادة المدينة في أقرب وقت وبأقل التكاليف والخسائر المادية والبشرية الممكنة، خاصة وأنها كانت تمني النفس بكسب هذه العشائر في صفها لقيادة المعركة وطرد التنظيم من المدينة، فلا يخفى على المتابع للساحة العراقية ما تمثله العشائر في التاريخ وفي العرف العراقي، فمن اصطفت العشائر في صفه حكومة كانت أو معارضة فهو في موقع قوة تمكنه من فرض رأيه.
عامان من الحصار الخانق، إلا أن سكان المدينة لم يثوروا ضد تنظيم الدولة ولم يطردوه، كما لم تحدث أي مواجهات داخلية تذكر رغم أن بعض التقارير الإعلامية تحدثت عن ذلك في إطار الحرب النفسية وقرينتها الإعلامية، ويفسر مراقبون هذا الجمود من أهالي الفلوجة بأنه خوف من المجهول الذي يمكن أن يحدث إذا ما استرجعت القوات العراقية المدعومة بميليشيات الحشد الشعبي السيطرة على المدينة.
تنظيم الدولة الإسلامية داخل الفلوجة متحصن بالحاضنة الشعبية التي اكتسبها طيلة السنوات الأخيرة وليس العامين الأخيرين فحسب، فسياسة نوري المالكي الطائفية والتي تواصلت مع خلفه حيدر العبادي، ساهمت بشكل كبير في تنمية الطائفية داخل البلاد وخاصة في المناطق السنية، ولعل ما قاله شيوخ العشائر الذين أعلنوا مبايعتهم لتنظيم الدولة بأن قرارهم جاء بعد مداولات واجتماعات متعددة بين شيوخ ووجهاء قضاءي الفلوجة والكرمة، نتج عنه الوقوف مع تنظيم الدولة، “لكونه القوة الوحيدة التي تقف بوجه الحكومة الصفوية ومليشياتها” أبرز دليل على ذلك.
القصف على الفلوجة والتنكيل بأهلها لم يتوقف طيلة عامين متتالين، والمستقبل والوقائع تقول إن الفلوجة لن تكون تكريت أو بيجي أو رمادي جديدة بالسهل، فكلمة الناطق باسم الدولة أبو محمد العدناني الأخيرة قبل أيام، والتي أكد فيها أن “الدولة الإسلامية” لن تسلم الأراضي التي تسيطر عليها قبل أن تصبح دمارًا وخرابًا تؤكد أن المواجهات على أعتاب وربما لاحقًا في وسط الفلوجة ستكون الأشرس والأخطر، وربما ستسفر في النهاية عن سقوطها في قبضة القوات العراقية والميليشيات الشيعية بعد أسابيع من القتال العنيف.
الناطق باسم الدولة أبو محمد العدناني قطع الطريق أمام المحللين عندما أوضح في كلمته الأخيرة أن “الدولة” لن تخرج من المدن التي تسيطر عليها مراعاة لمصلحة الحاضنة الشعبية أو الخسائر المادية والبشرية، فقد قال العدناني نصًا “ولو علمنا أن سلفًا صالحًا سلم شبرًا للكفار بحجة حاضنة أو الحفاظ على المباني من الدمار، أو حقن الدماء أو أي مصلحةٍ مزعومة: لفعلنا كما فعلت قاعدة سفيه الأمة”.
وأضاف “نقاتل حتى الموت وإن فنيت الزروع وإن هُدِمت البيوت، وإن هُتِكَتِ الأعراض وزهقت الأنفسُ وسالت الدماء، فإما نحيا بعزة ديننا سادة كرماء، أو نموت عليه شرفاء”.
ملحمة الفلوجة ستكون فاضحة، فإما خسارة لتنظيم الدولة الإسلامية وتقهقر ومواصلة في التبدد في العراق بسبب كثافة القصف الجوي والبري وغياب الحاضنة الشعبية، وإما تقهقر للقوات العراقية والميليشيات الشيعية العاجزة عن تحرير مدينة لا يتجاوز عدد المقاتلين المتواجدين داخلها وفي حدودها بضع المئات.
فهل ستحرر الفلوجة من قبضة تنظيم الدولة في أيام معدودات أم أن حرب الاستنزاف التي يتقنها التنظيم ستتواصل وتخالف كل التوقعات؟