رَفَضَ حفتر تعيين العقيد المهدي البرغثي وهو أحد قادة عملية الكرامة على رأس وزارة الدفاع في حكومة الوفاق الوطني، وفقد بسبب هذا الموقف دعم قبيلة العواقير وعدد من القبائل الدائرة في فلكها، لما يمثله البرغثي من انتماء للمنطقة الشرقية ومن شرعية ثورية بوصفه من أوائل الضباط المنشقين عن القذافي ومن عمق قَبَلِيْ لكونه ابن قبيلة العواقير أعرق قبائل المنطقة الشرقية.
كان من الواضح أن من اختار وزراء حكومة الوفاق وتوزيعهم المناطقي وانتمائهم القبلي وخَطّ معالم واستحقاقات الاتفاق السياسي، قد جمّع بالضبط كل التفاصيل على مقاس اللواء المتقاعد، إذ تقضي استحقاقات هذا الاتفاق بإخراج حفتر كليًا من المشهد وبإعدام مشروعه السياسي، لكن هذا المشروع لا يعني حفتر كشخص بقدر ما يعني أساسًا توق منظومة القذافي إلى العودة إلى مواقع القوة والتأثير في المشهد الليبي، وبقدر ما يعبر عن طموحات إقليمية في وأد الثورات العربية تتصدرها دولتا الإمارات ومصر، حيث توفر هذه الدول حاضنة لقيادات نظام معمر القذافي كما توفر دولة الإمارات بالأخص دعمًا ماليًا هائلاً لفريق المنطقة الشرقية من خلال أكثر من ست وسائل إعلام داعمة لحفتر بين قنوات ومواقع إلكترونية بتمويلات قدّرَهَا موقع إمارات 71 المعارض بما يناهز الـ 74.5 مليون دولار، بالإضافة إلى مساعدات عسكرية لم تنقطع يومًا إما برًّا عبر مصر أو بحرًا عبر ميناء طبرق، آخر هذه الشحنات وقوامها 1000 بين مدرعات ومركبات وصلت منذ أيام لقوات حفتر وتسربت صورها على مواقع التواصل الاجتماعي.
ويعتبر هذا الدعم العسكري الإماراتي ازدواجًا صارخًا في موقف الدولة من العملية السياسية في ليبيا؛ ففي حين تساند الإمارات على المستوى الرسمي الحوار السياسي برعاية أممية والحكومة المنبثقة عنه، تدعم في المقابل رافضي الاتفاق وخصوم حكومة الوفاق الليبية، وليس آخر شواهد هذا الدّعم هذه الشحنة من الذخائر والمدرعات والتي أكدت صحيفة لاريبوليكا كما صحفية لاستمبا الإيطاليتان وصولها إلى ميناء طبرق قادمة من الإمارات، نفس هذه الصحيفة أجرت منذ أسابيع حوارًا مع وزيرة الدفاع الإيطالية روبيرتا بينوتي التي أجابت عن سؤال يتعلق بنوايا حفتر التحرّك ضد تنظيم الدولة في سرت قائلة إن إيطاليا تحذر حفتر من أي عمل عسكري في ليبيا.
الملفت في هذا التصريح أن إيطاليا خاطبت حفتر بلهجة فيها من الشدّة والوضوح ما لا تخطئه أذن السامع وهو أمر لم يكن معتادًا من قبل كما يؤشر إلى مستجدات غير مسبوقة وهو ما أفصحت عنه الأحداث يومًا واحدًا بعد نشر هذا الحوار، حيث تناقلت صفحات مقربة من قوات عملية الكرامة على موقع فايسبوك أنباءً عن اعتزام هذه القوات الهجوم على سرت لتخليصها من قبضة تنظيم الدولة، وبثت إحدى الكتائب الموالية لحفتر والمتمركزة في الوسط غربي لليبيا بيانًا ساندت فيه هذه الخطوة، وإلى حدود هذه الإشارات لم يكن هناك أي موقف واضح من قبل حفتر يفيد بنيته مهاجمة سرت.
لكن ما حدث بعد ذلك شرح الموقف على النحو الّذي أصبحت عليه خلفية هذه الحملة الافتراضية واضحة ومكشوفة، حيث أصدر عبد الله الثني رئيس الحكومة المؤقتة قرارًا بإقالة آمر جهاز حرس المنشآت النفطية إبراهيم الجضران، وبما أن المعلوم أن عبد الله الثني كما عقيلة صالح رئيس البرلمان لا يتحركان على المستوى السياسي عمومًا أو التنفيذي أو التشريعي خصوصًا إلا بما يتوافق مع مصالح حفتر، فإن ما يربط بين قرار الإقالة وهذه التسخينات العسكرية ليس إلا إبعاد الجضران الّذي سبق أن اتهم حفتر بمحاولة اغتياله عن طريق قوات عملية الكرامة الّتي لا تتخذ بالضرورة من سرت بوصلة لها كما تزعم صفحات الفايسبوك ووسائل الإعلام المقربة منها، بل يبدو أن هدفها الأول من وراء هذا التحرك المفترض الاستحواذ على منطقة الهلال النفطي التي لا ينازع الجضران في السيطرة عليها أحد والتي يمنّي حفتر نفسه بضمها لمناطق نفوذه بما سيمكنه من وضع يده على مصبّ أهم حقول النفط الليبية، مع ما يعنيه ذلك من تحسين لموقعه التفاوضي على رقعة المشهد السياسي ومن كسر لأنف الإيطاليين المتمسكين بإبعاده، وهؤلاء لديهم في منطقة الهلال النفطي مصالح طاقية ترتقي إلى مستوى الأمن القومي.
المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق تفاعل مع هذا الحراك المتسارع بإصدار بيان ذكّر من خلاله بصفته قائد أعلى للجيش تطابقًا مع ما نص عليه الاتفاق السياسي ونوه إلى أنه سيعمل على كبح جماح كل من يتحرّك خارج قيادته، ثم ألحق بيانه هذا ببيان ثانٍ سمّى من خلاله غرفة مكلّفة بقيادة العمليات في محور مصراته سرت وبين البيانين حدثت أمور متلاحقة وغير منتظرة على الأقل في هذه المرحلة.
ففي حين كان الجميع ينتظر هجوم حفتر على سرت من الجهة الشرقية للمدينة، قام تنظيم الدولة – وفق مصادر متطابقة من داخل سرت – بنقل ثقله العسكري من سلاح وعتاد إلى الجانب الغربي منها قبل أن يشن هجومًا عنيفًا على أطراف مصراتة وتحديدًا منطقة الهيشة ليسيطر إثر هذا الهجوم على بوابة بوقرين ثم يتقدّم إلى حدود منطقة السدادة جنوب بوقرين.
هجوم تنظيم الدولة الجريء على مصراته لا يبدو أنه كان عرضيًا، فتكتيكات التنظيم وخاصة استخدامه للعربات المفخخة المدرّعة (شاحنات مفخخة بكميات كبيرة من المتفجرات ومصفحة من الخارج كي لا تعطبها أو تدمّرها كثافة النيران) للهجوم على بوابات المدينة تنبئ بأنه استعد منذ فترة طويلة لهكذا هجوم، بيد أن خروج تنظيم الدولة من القوقعة التي ضربها على نفسه داخل مدينة سرت طوال فترة طويلة ومهاجمته أهدافًا خارجها ليس بالأمر الغريب مقارنة بثقة التنظيم واطمئنانه لانتفاء إمكانية استهدافه من الجبهة الشرقية للمدينة وهي الجبهة الوحيدة التي من الممكن لقوات حفتر الهجوم عبرها.
وهنا يطرح السؤال: ما الّذي أدرى تنظيم الدولة أن حفتر لا يفكر في الهجوم على سرت وما الّذي جعله متيقنًا من هذا المعطى إلى الحد الّذي دفعه إلى نقل ثقله العسكري وعتاده إلى الجهة الغربية من المدينة؟ ولماذا غامر التنظيم بالدخول في قتال ضد المدينة وهو يعلم تمام العلم أن تشكيلاتها العسكرية مسلحة تسليحًا جيدًا؟
ليست الإجابة عن هذا السؤال هينة لتشابك المعطيات وكثرتها، لكن هناك من يربط استهداف التنظيم لمصراته في الأسابيع الأخير بتحرّك رتل عسكري على رأسه زياد بلعم وهو أحد ثوار بنغازي الراسخين لإسناد قوات مجلس شورى ثوار بنغازي في المعركة ضد حفتر.
تحرّك زياد بلعم نحو بنغازي أخذ طريق زلّة الواقعة جنوب سرت في محاولة للدخول إلى بنغازي بشكل التفافي، ولسبب غير مفهوم اعترضت رتل زياد بلعم في مدينة زلّة تحديدًا ميليشيات العدل والمساواة القادمة من السودان واشتبكت مع هذه القوات وقطعت عليها الطريق نحو بنغازي، في الآن ذاته هاجم التنظيم منطقتي بوقرين والسدادة شرقي مصراته وسيطر عليهما وهو ما يعني حصار قوات زياد بلعم وشل قدرتها على التحرّك، فلا هي تستطيع مواصلة الطريق نحو بنغازي ولا بإمكانها الرجوع إلى الشمال عبر مصراته.
نتبين في هذا السياق أمرين اثنين: الأول تزامن تحرّك تنظيم الدولة بقوة وجرأة لا سابق لهما لمهاجمة مصراته مع تحرك قوات الثوار نحو بنغازي، أما الثاني فتفطن حفتر لتقدم الثوار واستباقه وصولهم لبنغازي بقطع طريقهم عبر ميليشيات العدل والمساواة، وهنا أيضًا نجد من يقرأ كل هذه المعطيات بما هي خطة لإشغال الكتائب المسلحة في مصراتة في معركة استنزاف طويلة مع تنظيم الدولة تصبح من خلالها العاصمة طرابلس فريسة يسهل مهاجمتها، إما من قبل قوات الزنتان (القعقاع والصواعق) أو من خلال جيش القبائل، وكل هؤلاء موالون لحفتر، وإذا ربطنا هذا المعطى بفرضية سيطرة حفتر على منطقة الهلال النفطي – كما يعتقد الإيطاليون أنه يفكّر – فسيكون حفتر قد أحدث نقلة نوعية في وضعه على الميدان تفتح الطريق له في مرحلة متقدمة لفرض إملاءاته السياسية.
يندرج هذا الفهم للأحداث في إطار ربط الفرضيات بعضها ببعض، وعدا أن بعض هذه الفرضيات صعب التحقق إلى درجة الاستحالة، فإن ما استجد من تفاصيل المعركة يثَبٍّتُ توازن القوى في الوضع الراهن فتنظيم الدولة مثلاً لم يستطع الصمود طويلاً أمام كتائب مصراته التي عززتها تباعًا كتائب أخرى من مدن كثيرة من المنطقة الغربية، وعاد إلى قوقعته داخل الحدود الإدارية لسرت مكتفيًا بعمليات كرّ وفر، في حين تبددّ الطوق الّذي حاصر زياد بلعم ورفاقه لأيام متواصلة بعد انسحاب التنظيم من بوقرين في حين لا تزال ميليشيات العدل والمساواة السودانية تلعب دورًا في المواجهات بين الإخوة الأعداء في كل مرة يستنجد بهم حفتر.
وسط كل هذه الأحداث يتابع المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق هذ التطورات محاولاً تنسيق جهود الكتائب المنضوية تحته من خلال عملية البنيان المرصوص التي أطلقها منذ أيام في إطار الغرفة المكلفة بقيادة العمليات على محور سرت – مصراتة لكنه رغم محاولاته الحثيثة لا يزال غير قادر على فك حظر السلاح المفروض على ليبيا، كما أن الإشكالات السياسية والاجتماعية والأمنية المتراكمة أمامه شائكة جدًا وهو يضعه في موقف معقّد ودقيق.
البقية في الجزء الثالث.