على شبكة الفيسبوك يتبادل عدد من دائرة أصدقائي أطراف الحديث عن مقال نشرته المدونة ياسمين مدكور على موقع هافنغتون بوست، عنوان المقال (أو التدوينة) “ماذا يعني أن تتزوجي رجلًا فيمنيست؟“، أغلب التعليقات تأتي إما في صورة استخفاف أو سب، أعرف ياسمين بشكل شديد السطحية عبر لقاء سريع منذ سنوات ومنشورات فيسبوك، وبالضرورة ليس السياق هنا بمجال للتعليق أو الحكم على الأشخاص، إلا أنني أعتقد أن باستطاعتي في هذا السياق أن أبدأ في التعبير عن حزن عميق تركه المقال والردود عليه في صدري.
تصادفت قراءتي للمقال المذكور مع إعادة قراءتي لمقال علمي للفيلسوفة الأرجنتينية ماريا لوجون، المقال عنوانه: “النقاء، التلوث، والفصل”، قد يبدو الاسم مناسبًا لمقال عن الكيمياء، إلا أنه وفي الحقيقة يقع في صلب دراسة الفلسفة النسوية والاستعمارية، يتحدث المقال عن أمور كالانتماء والغربة والهوية، أسئلة يمر بها أغلب الناس بشكل يومي دون الالتفات لها بأي شكل جاد، فلا أعتقد أن شابة صعيدية تعمل في أحد فروع مكدونالدز أو برغر كينج في القاهرة (هذا بالطبع إذا لم ننظر لبائعات الفجل والخضروات في الشوارع) لا تملك الوقت الكافي للإجابة عن سؤال خطر ببالها عن هويتها وانتماءها لهذا المجتمع.
سئمت حديث النخب من سكان المدن التي ترعرعوا فيها من متوسطي الدخل عن معاناة الفئات المظلومة، سئمت حديث فتيات يعملن في تقديم المحاضرات لذوي الدخول الأعلى عن تحرر المرأة والنسوية، لنكن على قدر ما من الصراحة على طول هذا المقال على الأقل، الواقع أن كل من يملك ترف الحديث عن المعاناة هو شخص لا يعيشها.
ما جذبني لقراءة كتابات لوجون بالأساس كان حديثها عن الانتماء، قضية ألمسها بشكل شخصي ولا أستطيع الحديث عنها بأي شكل من الأشكال، أعيش كطالب مغترب في بلد لا أعرف لغتها، تركت مدينتي الصغيرة لإسطنبول العملاقة لأنني بالأساس لم أشعر بالانتماء، فقط لأصل هنا ليذكرني كل ما حولي من بشر وحديث أنني لا أنتمي إلى هذا المكان الذي هربت إليه أيضًا، اللغة هنا تصبح أمرًا شديد الأهمية، فالشخص في غربته تفصله اللغة بالأساس عمن هم حوله، ولا يعني الأمر بالضرورة هنا الفوارق بين اللغة العربية والتركية على سبيل المثال، وإنما يعني الفارق بين ما يعنيه الشخص بما ينطقه وما يفهمه من حوله بشكل عام.
تزعم لوجون أن من يملكون اللغة هم من يستطيعون الحديث، واللغة كعلاقة بين منطوق ومقصود ليست برأس مال الشخص الذي لا يشارك عدد كبير من الناس معرفة ما يقصده، أقرب ما تستطيع الغالبية فعله هو التخيل أو إحالة ما ينطقه هذا الشخص الغريب إلى صورة متخيلة في رؤوسهم، وهذا وحده كفيل بإصابة المتحدث بإحباط كافٍ لكتم صوته للأبد.
يستطيع الأفراد الأكثر حظًا في الحياة أن يتحدثوا إلى أكبر عدد من الناس بشكل واضح، أفراد الطبقات الوسطى في مصر من سكان القاهرة والإسكندرية على سبيل المثال يمكن أن يصل حديثهم إلى أكبر قدر ممكن من المستمعين، وهذا بالضرورة لأن هؤلاء هم من يرسمون المساحة الأكبر من الواقع لحياة المصريين ككل، لكن إذا تحدثت فتاة نوبية تسافر في قطار طول رحلته أكثر من نصف يوم عما تشعر به، أشك أن عددًا كبيرًا من الناس يستطيع فهم ما تقوله كما تقوله.
يتبادل أبطال الشبكات الاجتماعية ورموزها الحديث عن النسوية والذكورية، عن القهر والمظالم، تنال المنشورات آلاف الإعجابات والتعليقات، بينما لا يدرك أي من هؤلاء أن قدرة أي منهم على استخدام هاتف ذكي أو حاسوب في مدينة ذات تغطية إنترنت يفرغ كل ما يقال من معناه.
لخصت ياسمين نسوية الزوج “الفيمينست” في أربع عشرة نقطة، عندما أقرأ هذه النقاط لا أستطيع سوى أن أصنفها ضمن ما سماه ماكس فيبير بـ “أخلاق البورجوازية”، حديث الاستقلالية والتقدم والانفتاح والنجاح المادي، الخليط القيمي الذي بنيت عليه الحضارة المدنية الحالية في كل الأنحاء بعد استعمار الغرب المؤسس لها لكل أنحاء العالم، ذات الخليط الذي أنتج الواقع الحالي الذي نعيشه، الواقع الذي خلق كل هذه المظالم لا تمثل مظالم النساء سوى بدايتها.
في مقطع فيديو يتم تبادله بشكل فكاهي تسأل المذيعة الرجل العجوز عن رأيه في دخول المرأة إلى البرلمان، يجيب الرجل بتلقائية أن “بلا مرأة بلا خراء، أنا أريد الحديث عن الأوتوبيس المتأخر دائمًا”، لا يستطيع أغلب من يستمع إلى الفيديو سوى أن يأخذه بشكل فكاهي، وهذا بطبيعة الحال لأن من يستمع إليه ليس برجل ستيني يتنظر الباص في ظهر القاهرة الجنوني الحرارة لأنه لا يستطيع دفع أجرة سيارة خاصة، ما يستطيع مشاهدو الفيديو القيام به هو مشاهدة فيديو آخر أنتجه أشباه لهم تحت عنوان “الراجل بتاع الأوتوبيس”، فيديو ينتجه موقع شديد الشهرة بين أوساط الطبقات الوسطى المصرية.
المسألة محل الحديث هنا ليست حقوق المرأة في الاستقلال المادي وعدم التعرض للعنف الجسدي، المسألة هي إعطائها صوت تستطيع الحديث به، ولا يجب من الأساس أن نقول المرأة، فلا وجود لـ “مرأة” واحدة في الواقع، في الواقع توجد نساء عدة بظروف اقتصادية وثقافية واجتماعية وجنسية شديدة الاختلاف، ليست المسألة فقط عن النساء، المسألة عن كل من لا صوت له، الآخرين، الغرباء، من تستفيد الطبقات الاجتماعية والوسطى من معاناتهم وانعدام أصواتهم بالأساس.
تستطيع ياسمين الحديث، تجد منصة تنشر ما تقول، تجد جمهور يستطيع فهم ما تقول واتخاذ موقف منه سواء بالسلب أو بالإيجاب، إلا أن غيرها لا يستطيع الحديث، غيرها تظلمه لغة يتحكم فيها مجموعة ذات مصالح وقدرة على السيطرة على الموارد المادية والثقافية ورؤوس الأموال وغيرها.
نحن نعيش في عالم تحكمه العادية، عالم لا يستطيع تقبل الاختلاف ليس عن رفض وإنما عن عدم إدراك لوجوده من الأساس، يرى سكان القاهرة سكان المحافظات الحدودية كمصريين لا يختلفون عنهم، ترى الفتاة “الناشطة اجتماعيًا” أو “رائدة الأعمال” أنها تنتمي لذات فئة “النساء” التي تنتمي إليها بائعات الفجل فقط لأنها لا تملك قضيب بين ساقيها، لا يدرك كل هؤلاء أن حقيقة أن من يظنون أنهم مثلهم لا يملكون صوتًا للحديث به لا تعني بأي شكل أنهم مثلهم.
لا قيمة لأي نسوية تدافع عن حقوق الفتيات اللاتي يردن التخلي عن الحجاب كحق بينما تغفل حقوق اللاتي يردن ارتداءه ولا يستطيعون بسبب سياسة صاحب العمل، لا قيمة لنسوية تدافع عن حقوق فتيات يردن ممارسة السحاق بينما لا تدافع عن حقوق فتيات لا يستطعن ممارسة الجنس من الأساس لبلوغهن الثلاثين من عمرهن وانتهاء فرص زواجهن بسبب المعتقدات الاجتماعية، لا قيمة لنشاطات وجمعيات تعطي مكبرات الصوت لأشخاص يمكن لكل الناس فهمهم.
لا قيمة لأي محاولة تغيير اجتماعي لا تدرك مكانها من المجتمع بكل أمراضه والظلم المترسخ به، مجتمع تسيطر عليه الطبقات الوسطى والموظفون وثقافة الوحدة الوطنية.
قد يبدو حديثي على قدر من اليسارية المبالغ بها، إلا أنني أؤمن تمامًا أن لا قيمة لأي حديث ينبع من قلب الطبقات البورجوازية من سكان عن التغيير والإصلاح المجتمعي، لا قيمة لأي محاولة لا تنطلق بالأساس من هدم سيطرة هذه الطبقة على المجتمع ومبارحة قيمها وأخلاقها على كونها “القيم” و”الأخلاق”، فلا نفع في التخلص من المستبدين لاستبدالهم بمستبدين ألطف وأقرب لأطراف المجتمع، لا نفع في حديث يلوكه المستفيدون بالفعل، بينما يبقى الأكثر تعرضًا للقهر والظلم بلا صوت.