ترجمة وتحرير نون بوست
إنه يوم آخر يشهد مقتل زعيم إرهابي آخر، ولكن هذه المرة، كان الرجل الارهابي الذي قُتل هو زعيم حركة طالبان، الملا اختر محمد منصور، الذي استهدفه هجوم طائرة أمريكية بدون طيار في باكستان، وحينها هتف الجميع وهللوا، لأن الجميع يعلم بأن كل زعيم إرهابي مقتول، يمثّل زعيمًا إرهابيًا مقتولًا آخر!
وفاة الملا منصور هي “خطوة هامة”، صرّح الرئيس الأمريكي باراك أوباما صباح يوم الاثنين، ولكنها علامة فارقة في الطريق إلى اللا مكان.
تلك “الإنجازات المهمة” تأتي وتذهب بدون أي أثر ملحوظ؛ فأميركا تستمر بقتل الرجال “الأشرار”، ولكن باقي الرجال “الأشرار” يستمرون في طريقهم
بالمحصلة، لقد مرت أميركا بهذا “الإنجاز” عشرات المرات من قبل، وإليكم هنا خلاصة وجيزة:
– في أبريل الماضي، قتلت القوات الأمريكية والكردية سلمان أبو شبيب الجبوري، أحد كبار زعماء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق، وفي مارس المنصرم، قتلت القوات الخاصة أحد أعلى قادة داعش مرتبة عبد الرحمن مصطفى القادولي في سوريا، كما قتلت الولايات المتحدة نائب القائد في داعش حاجي إمام والعضو البارز في التنظيم أبو عمر الشيشاني في سوريا في الشهر ذاته، وفي فبراير الذي سبقه، قتلت الغارات الأمريكية نور الدين شوشان، أحد كبار قادة داعش في ليبيا.
– في عام 2015، تمكنت الولايات المتحدة من قتل أحد كبار زعماء حركة الشباب عبد الرحمن ساندهير في الصومال؛ قائدا المليشيا مختار بلمختار وخواري محسود في باكستان، ثاني أكبر رجل في داعش فاضل أحمد الحيالي في العراق، زعيم تنظيم القاعدة ناصر الوحيشي في اليمن، وأستاد أحمد فاروق، نائب أمير تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية.
– في عام 2014، قتلت الغارات الأمريكية الزعيم الإرهابي أحمد عبدي جودان في الصومال، يليه رئيس المخابرات والأمن في حركة الشباب تهليل عبد الشكور، وكذلك زعيم جبهة النصرة أبو يوسف التركي، الذي قُتل بالضربات الأميركية التي نُفذّت في سوريا، وعمر فاروق، أحد كبار منسقي تنظيم القاعدة، كما استهدفت الولايات المتحدة بنجاح مفتي سفيان وأبو بكر، وكلاهما من كبار القادة العسكريين في حركة طالبان الأفغانية.
– في عام 2013، قتلت الولايات المتحدة سعيد الشهري، الرجل الثاني في قيادة تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وزعيم طالبان الأصلي، الملا محمد عمر، على الرغم من ورود تقارير تفيد بأنه توفي جرّاء المرض وليس من خلال غارات الطائرات بدون طيار، ولكن موته لم يحدث أي فارق يذكر لحركة طالبان لدرجة عدم ملاحظة أي أحد لوفاته حتى عام 2015 .
– في عام 2012، قتلت غارات أمريكية أبو يحيى الليبي، الذي كان أيضًا ثاني أكبر قيادي في تنظيم القاعدة في باكستان، كما قتلت القيادي البارز في تنظيم القاعدة صخر الطائفي في أفغانستان، زعيم القاعدة في جزيرة العرب فهد محمد أحمد القوصي في اليمن، حليف طالبان في باكستان بدر الدين حقاني، وزعيم الجماعة الإسلامية ذو الكفل بن هير في الفلبين.
– في عام 2011، قتلت غارات الطائرات بدون طيار الأمريكية فضل عبد الله محمد في الصومال، رجل الدين وداعية تنظيم القاعدة الأمريكي أنور العولقي في اليمن، قائد عمليات تنظيم القاعدة في باكستان أبو حفص الشهري، ثاني أكبر قيادي بعد أسامة بن لادن في تنظيم القاعدة عطية عبد الرحمن، أحد كبار نشطاء القاعدة الباكستانيين إلياس كشميري، وطبعًا، قتلت زعيم تنظيم القاعدة الشهير أسامة بن لادن ذاته.
بالطبع، هناك عشرات القياديين الإرهابيين الآخرين الذين تم قتلهم بالغارات الأمريكية، ولكن الهدف هنا هو إيصال الفكرة فحسب.
إذن، تلك “الإنجازات المهمة” تأتي وتذهب بدون أي أثر ملحوظ؛ فأميركا تستمر بقتل الرجال “الأشرار”، ولكن باقي الرجال “الأشرار” يستمرون في طريقهم، فمثلًا في السنوات الثلاث الماضية، ومنذ وفاة زعيم طالبان الملا عمر، يبدو بأن المجموعة قد اطردت بقوتها بدلًا من أن تضعف، حيث يشير الخبراء في الشأن الأفغاني بأن طالبان تسيطر الآن على أراضٍ في البلاد أكبر للغاية مما كانت تسيطر عليه في أي وقت منذ ما قبل الغزو الأمريكي في عام 2001.
الفكرة التي تكمن خلف قتل كبار القادة هي أن قتلهم يدخل تنظيماتهم في حالة من الفوضى، مما يجعلها أقل فعالية، ولكن للأسف لا يبدو بأن هذه الفكرة حقيقية على أرض الواقع
تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والذي كان هدفًا لهجمات شديدة الوطأة من قِبل الولايات المتحدة منذ عام 2014، خسر بعض الأراضي التي كان يسيطر عليها في سوريا والعراق، ولكنه تمكن من تنفيذ هجمات قاتلة ودامية في بلجيكا، تركيا، ليبيا، تونس، اليمن، الكويت، باكستان، وأفغانستان، ناهيك عن استمراره بأعماله الوحشية في سوريا والعراق.
بالمثل، تواصل حركة الشباب وجماعة بوكو حرام في نيجيريا سفك الدماء في جميع أنحاء أفريقيا، وحتى تنظيم القاعدة، الذي عانى بالتأكيد من مقتل أكبر عدد من كبار القادة دونًا عن أي جماعة إرهابية أخرى، فلا يزال ينفذ عملياته في جميع أنحاء العالم، حيث استهدفت الجماعة مؤخرًا اليمن وساحل العاج وبوركينا فاسو.
وهنا يحق لنا التساؤل، ما الغاية إذن من كل تلك الاغتيالات؟
هناك نظرية أكاديمية معروفة ومحترمة خلف ما يسمى بـ”ضربات قطع الرأس”؛ فالفكرة التي تكمن وراءها هي أن قتل كبار القادة يدخل تنظيماتهم في حالة من الفوضى، مما يجعلها أقل فعالية، في الوقت الذي تُقنع فيه صغار المجندين أو المجندين المحتملين بأن خطر الموت الداهم قد لا يستحق عناء العمل مع المجموعة.
قد تكون ضربات مكافحة الإرهاب الأمريكية مرضية عاطفيًا لمسؤولي البيت الأبيض ووزارة الدفاع، ولكنها تستجرّ تكلفة باهظة
للوهلة الأولى، تبدو هذه الفكرة جذابة ومنطقية، ولكنها للأسف لا تبدو حقيقية على أرض الواقع، ربما لأن الجماعات الإرهابية اليوم، وخلافًا لمجموعات ما قبل أحداث سبتمبر والتي قامت على أساسها أدلة ضربات قطع الرأس، تعمل في كثير من الأحيان بطريق شديدة اللامركزية، مما يجعل استمرارية القيادة في منصبها أمرًا أقل أهمية، أو ربما لأن الهجمات التي تحقق إصابات جماعية يمكن أن تُنفذ بأرخص الأسعار وأسهل الطرق، حتى من قِبل الهواة ضمن المجموعات الإرهابية، وذلك نظرًا لسهولة الحصول على الأسلحة ويسر تعلّم طريقة تصنيع القنابل من خلال الإنترنت في هذه الأيام، أو ربما لأن أعضاء المجموعات الذين يسعون لنيل شرف الشهادة لا يمكن ردعهم من خلال ارتفاع معدل القتل والإصابات ضمن عملهم الإرهابي الذي ينفذونه.
مهما كان السبب، فإنه يصعب علينا هذه المرة أن نتشاطر مع أوباما قناعاته بأهمية الحدث، فمن خلال قتل زعيم طالبان الملا منصور، أثبتت أميركا أخيرًا أمام كل من طالبان والحكومة الباكستانية، التي انتقدت الضربة ضد منصور باعتبارها انتهاكًا لسيادتها، بأن واشنطن جادة في عملها.
قد تكون ضربات مكافحة الإرهاب الأمريكية مرضية عاطفيًا لمسؤولي البيت الأبيض ووزارة الدفاع، ولكنها تستجرّ تكلفة باهظة؛ فشرعيتها القانونية مشكوك بها حتى من الحلفاء الرئيسيين للولايات المتحدة، في حين أن الموت والدمار الذي تسببه هذه الضربات قد يولّد استياءًا في المجتمعات المتضررة؛ مما قد يدعم، بدلًا من أن يقوّض، جهود تجنيد الإرهابيين، ويبقى هذا الأمر صحيحًا بشكل خاص عندما تقتل الضربات الأمريكية المدنيين، وهو الأمر الذي حصل لأكثر من مرة بصورة مؤكدة.
في الداخل الأمريكي، تقوم الجهود المحلية لمكافحة الإرهاب على أسس ضعيفة وواهية أيضًا؛ ففي الكتاب الذي صدر مؤخرًا “مطاردة الأشباح: حفظ أمن الإرهاب”، يقدم لنا جون مولر، المحلل السياسي الأمريكي، ومارك ستيوارت، خبير تقييم المخاطر الأسترالي، حججًا مقنعة على أن معظم برامج مكافحة الإرهاب التي يتّبعها مكتب التحقيقات الفيدرالي، وزارة الأمن الداخلي، وقوات إنفاذ القانون المحلية، هي برامج مكلفة وغير مجدية؛ فالولايات المتحدة، خلقت 263 منظمة مكافحة إرهاب جديدة على الأقل منذ هجمات سبتمبر، وهو عدد كبير نسبيًا بالنظر إلى أن تلك المنظمات ذاتها لم تلقِ القبض حتى الآن سوى على أقل من 100 شخص بتهمة التخطيط لهجمات داخل الولايات المتحدة، والعديد من هؤلاء الإرهابيين المشتبه بهم لا يشكّلون تهديدًا يذكر على أمن أمريكا؛ فعدا حفنة من الاستثناءات، معظمهم المقبوض عليهم هم من الهواة الذين خططوا لعمليات ضخمة تتجاوز بأشواط مستويات اختصاصهم.
ولكن مع ذلك، ما زالت أمريكا تنفق حوالي 115 مليار دولار سنويًا على مكافحة الإرهاب المحلي، رغم أن إجراء تقييم موضوعي للعديد من البرامج الحكومية بخصوص مكافحة الإرهاب الداخلي، تشير، كما يقول مولر وستيوارت، بأن العديد من هذه البرامج “مرتفعة التكاليف وتتراوح فائدتها بين الضعيفة والمعدومة”؛ فبمقارنة الإنفاق على قضايا الإرهاب الداخلي مع الإنفاق الحكومي الأمريكي النموذجي على قضايا سلامة مكان العمل، الجريمة العادية، الرعاية الصحية، وسلامة السيارات، يجب على أمريكا أن تنقذ حياة ما لا يقل عن 7000 إلى 8000 أميركي كل عام لجعل هذا المستوى من الإنفاق على مكافحة الإرهاب يستحق كل هذا العناء.
يُقتل عدد أكبر من الأمريكيين في كل عام جرّاء ضربات البرق، ناهيك عن حوادث العنف المسلح “الاعتيادية”، وعلى الرغم من ذلك، ما تزال الولايات المتحدة تنفق مليارات الدولارات كل عام لقتل قادة الإرهاب في الخارج، والبحث عن مؤامرة إرهابية نادرة للغاية في الداخل
وفي الوقت عينه، يشير مولر وسيتورات بأن “تحويل بضعة مليارات من الدولارات” من ميزانية مكافحة الإرهاب في كل عام، ووضعها ضمن تطوير “أجهزة إنذار الدخان، السلامة من الأعاصير، أو المزيد من الأمان للسيارات”، على سبيل المثال، من شأنه أن ينقذ حياة عدد من الأمريكيين أكبر بكثير مما تنقذه برامج مكافحة الإرهاب الأمريكية الحالية.
تكمن المفارقة الكبرى بأنه، وباستثناء هجمات سبتمبر المروعة، لا يواجه الأميركيون إلا خطرًا ضعيفًا بشكل ملحوظ للموت جرّاء هجوم إرهابي؛ ففي جميع أنحاء العالم، يحدث معظم العنف الإرهابي في المناطق التي تعصف بها الصراعات المسلحة، وبالنسبة للأميركيين، لطالما كان خطر الإرهاب ضئيلًا؛ ففي السنة العادية، يُقتل أقل من 100 أمريكي في هجمات إرهابية، سواء في الداخل أو في الخارج، علمًا أنه وفي المتوسط، يُقتل عدد أكبر من الأمريكيين في كل عام جرّاء ضربات البرق، ناهيك عن حوادث العنف المسلح “الاعتيادية”، وعلى الرغم من ذلك، ما تزال الولايات المتحدة تنفق مليارات الدولارات كل عام لقتل قادة الإرهاب في الخارج، والبحث عن مؤامرة إرهابية نادرة للغاية في الداخل.
الأمر يذكرني بنكتة قديمة تتحدث عن رجل يسير في شوارع مدينة نيويورك، ويكسر بشكل منهجي بعصاه نافذة كل متجر يمر به، بالمحصلة وبعد أن راقبه أحد المارة لدقائق، بادر لسؤاله: “لماذا تفعل ذلك؟”، “لإبعاد النمور” أشار الرجل صاحب العصا، “ولكن، لا توجد نمور في نيويورك!” دمم عابر الطريق، “أرأيت!” صاح الرجل بفخر “الخطة تعمل إذن”.
ربما هناك درس يجب أن نتعلمه هنا؛ علينا ربما ألّا نكلف أنفسنا عناء تحليل برامج مكافحة الإرهاب الأمريكية بعدسة العقلانية، بل بدلًا من النظر إلى تلك الجهود باعتبارها خيارات سياسية واقتصادية يمكن أن نطبق عليها بشكل معقول تحليل التكلفة والعائد الاقتصادي، علينا أن ننظر لها من منظور الأنثروبولوجيا.
يشير التاريخ الإنساني بأن المجتمعات البشرية مارست عبر التاريخ طقوسًا سحرية بغية درء الشر الحقيقي أو المتخيل، ويسمي علماء الأنثروبولوجيا هذه الممارسات باسم “طقوس الإبعاد”، فمن اليونان القديمة وحتى عصور المملكة المتحدة الأولى، ضحّت العديد من الثقافات بالحيوانات – وأحيانًا بالبشر – لإرضاء الآلهة ودرء سوء حظ؛ ففي أوروبا في العصور الوسطى، الصين القديمة، ومستوطنات الأمريكيين الأصليين، تم تصميم مجموعة من الرقصات المخصصة والطقوس الأخرى لمنع الجفاف والعواصف الخطيرة، وفي نيو إنغلاند الاستعمارية، وضعت النساء النقود التي كانت تحملها الجثث تحت وسائدهن لمنع الشياطين الذكور من تلقيحهن أثناء نومهن.
ولكننا، نحن الأميركيون الحديثون، لا نؤمن بالشياطين، أو برقصات المطر، أو حتى بفعالية التضحية بالأطفال أو بالماعز، فلقد وضعنا طقوسنا السحرية الخاصة للغاية في القرن الـ21، ونطلق عليها “برامج مكافحة الإرهاب”.
المصدر: فورين بوليسي