أصبحت تحولات الحركات الإسلامية الشكلية في مختلف الأقطار مسار حديث يومي بين النخبة الشبابية لهذه الحركات، وبين المنتمين السابقين لها، حول إشكاليات جدية هذه التحولات من ناحية، أو تقييمها من ناحية أخرى.
فالواقع يقول إن حركة الإخوان المسلمين في مصر “الحركة الأم” تعاني أشد المعاناة بعد الانقلاب العسكري الذي تم على تجربتها في الحكم، وازدادت مع هذه المعاناة تساؤلات عن الحل الناجع لمواجهة الظرف الحالي، وبين هروب لتفسيرات تاريخية تقليدية للمحنة، وأخرى حداثية متعلقة بمحاولة إحداث مفاصلات فكرية مع فكر التنظيم بشكله القديم، لأشكال أكثر حداثية، وتيار ثالث هرب إلى أسئلة جدلية جزئية تتحدث عن السلمية والعنف وما شابه.
كم من مرة تحدثت الحركات الإسلامية في أقطار مختلفة بنبرات مماثلة عن تحولات وتغيرات ثم لا تجد على أرض الممارسة الفعلية أي ارتباط للحركة بالأحاديث الإعلامية
وبين هذا وذاك ضاعت محاولات المراجعات الفكرية الجادة لإرث الحركات الإسلامية في مختلف الأقطار، إذ نرى التنظيم في الأردن ينشق على نفسه، ويحل نفسه من تبعية تيار الإخوان المسلمين العام بإعلان التزامهم بالقطرية، وكأن تنظيم الإخوان في الأردن كان قبل ذلك جماعة أممية، واليوم فقط قرر القائمون عليه عكس ذلك.
كذلك نرى حركة النهضة التونسية بتحولاتها الأخيرة وقرارات إعلان المفاصلة بين ما هو دعوي وما هو سياسي، تلك القرارات التي وقعت فريسة تأويل الأنصار والأضداد ودخلت في إشكالية التقييم، دون التأكد من ماهية هذه التحولات أو نتائجها الفعلية في الممارسة وإنتاجها النهائي.
لأنه كم من مرة تحدثت الحركات الإسلامية في أقطار مختلفة بنبرات مماثلة عن تحولات وتغيرات ثم لا تجد على أرض الممارسة الفعلية أي ارتباط للحركة بالأحاديث الإعلامية، وهو بالضبط ما حدث مع إخوان مصر الذين أعلنوا انفصال التنظيم الدعوي عن الحزب السياسي للإعلام ليل نهار، لكن الحقيقة أثبتت أن التنظيم كان يدير الحزب بكل هياكله من أعلى لأسفل.
لذا توجب علينا قبل الخوض في مسألة تقييم هذه “الإعلانات التحولية” أيًا كانت طريقتها أو أشكالها، أن نتساءل عن المشاريع التي تحملها هذه الحركات بالأساس سواء في ماضيها الإسلامي أو حاضرها الذي يحاول التخلص من أعباء تنظيم الإخوان الإقليمية والدولية دون تقديم أي مشروع بديل أو خطوط عريضة لما يمكن أن يكون عليه شكل التحول، مع الاكتفاء بالصور السياسية النمطية كالتحول لحزب أو جمعية خيرية أو ما شابه.
إخوان مصر الذين أعلنوا انفصال التنظيم الدعوي عن الحزب السياسي للإعلام ليل نهار، لكن الحقيقة أثبتت أن التنظيم كان يدير الحزب بكل هياكله من أعلى لأسفل.
قبل مهاجمة حركة النهضة على سلوكها الأخير يجب أن نطرح هذه الأسئلة بشكل أكثر جدية: هل تمتلك النهضة تصورًا حقيقيًا لإشكاليات تونس قبل إسلاميتها أو بعدها؟ ما تقييم حركة النهضة لتجربتها قبل الثورة التونسية، وما تقييمها لتجربتها في الحكم؟
ماذا طرأ من تحولات على تنظيم الأردن بعد أن أعلن فك ارتباطه بتيارات الإخوان الخارجية؟ هل نتج عن ذلك ممارسات جديدة أو سلوك سياسي أوضح، أو رؤية ومشروع مختلف، أم أن الأمر حدث تحت ضغوط أمنية، وإن كان فملاحقة التنظيم أمنيًا لم تتوقف حتى بعد إعلان الانفصال المزعوم؟
وعلى الصعيد المصري لم نسمع عن نتائج أية مراجعات على صعيد تجربة حكم الإخوان المسلمين في مصر، كل ما خرج للجمهور مراجعات فردية سرعان ما تتبرأ منها القيادات المنشقة على نفسها.
وفي المقابل نسمع بشكل يومي أحاديث عن رؤى هنا وهناك لمواجهة الظرف الحالي “الانقلاب العسكري”، وخلافات حادة حول كيف ولماذا ومتى وأين، بالإضافة لمن يقود ومن يستحق وهكذا، دون التعرض لجذور المشكلة والأزمة الحقيقية التي تواجهها أطروحات الجماعة في المجال العام، لأن البعض يحب أن يجنح إلى بحر الأزمات الإدارية حتى لا يقع في جدال الأفكار والأطر النظرية.
هل تمتلك النهضة تصورًا حقيقيًا لإشكاليات تونس قبل إسلاميتها أو بعدها؟ ما تقييم حركة النهضة لتجربتها قبل الثورة التونسية، وما تقييمها لتجربتها في الحكم؟
والواقع يقول بشكل عام دون الانحياز للمراجعات المزعومة في أي قطر للحركات الإسلامية، إن كل هذه التحولات الشكلية ما هي إلا تراجعات تكتيكية، حدثت تحت ضغوط السياق والواقع الإقليمي، دون وجود أي تغيير حقيقي في الجذور الفكرية والتنظيمية لدى هذه الحركات، ودون وجود أي مراجعة حقيقية جادة لتجاربها السابقة، وإنما هو لجوء للتكيف مع الواقع تحت زعم التغيير، أي تغيير؟! لا يهم كنهه وماهيته!
كما أن التجارب التاريخية والإنسانية تقول إن حالات الصدمة الفكرية التي تنتاب حاملي الأفكار لا يمكن أن تنتج مراجعات صحيحة يعول عليها بهذه السرعة، فالبعض يلجأ إلى التطرف في اقتناع الفكرة كميكانيزمات دفاع نفسية جاهزة عن الأفكار المتوارثة، والبعض الآخر ينسلخ من جلده تمامًا زعمًا منه أن هذا هو التحول المطلوب.
والحقيقة أن المراجعات الفكرية الجادة التي تحدث تحولات حقيقية تاهت بين هذا السلوك المندفع الناتج عن ضغوط، قد تكون هذه الضغوط تنظيمية من الأتباع أو أمنية أو انبطاحًا للعاصفة الإقليمية حتى تمر فقط، لكن دون إحداث أي واقع جديد على صعيد الحركة.
إذ أننا لم نر حتى الآن أي تغيير حقيقي حدث على الجانب الفكري والعملياتي للحركات الإسلامية، كما حدث على سبيل المثال حينما التقى سيد قطب بالإخوان في مصر، فمثل هذه اللحظة نستطيع أن نطلق عليها لحظة “تحول” فكري حقيقي في تاريخ الحركات الإسلامية، لأن قطب أضاف لمسته الخاصة على تنظيم الإخوان والتي تصارعت مع جناحات أخرى في الجماعة، وتناقل هذا الصراع تاريخيًا حتى الآن، ويظهر في طريقة التفكير والإدارة المتباينة في مراحل الجماعة المختلفة.
المراجعات الفكرية الجادة التي تحدث تحولات حقيقية تاهت بين هذا السلوك المندفع الناتج عن ضغوط، قد تكون هذه الضغوط تنظيمية من الأتباع أو أمنية أو انبطاحًا للعاصفة الإقليمية حتى تمر فقط، لكن دون إحداث أي واقع جديد على صعيد الحركة.
أما ما يحدث الآن ويثير كل هذا الجدل ما هو إلا محاولات هروب بطرق مختلفة من تلك التيارات من سؤال التغيير الحقيقي، لا التغيير الشكلي، والانجراف حول مسألة تقييم هذه المسارات الشكلية من صحتها، سيجعل التحول الجذري الحقيقي المطلوب المتماشي مع حجم اللحظة التاريخية التي تمر بها الأمة أبطأ بكثير مما نتصور.