“الحضارة تموت بالانتحار لا بالقتل” – أرنولد توينبي
سيخلد التاريخ أن الشرارة الأولى لاندلاع الثورة التونسية يوم 17 ديسمبر 2010 ومن بعدها ثورات الربيع العربي كان عن طريق البائع المتجول محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجًا على سوء معاملة عون التراتيب ببلدية سيدي بوزيد في غرب تونس فادية حمدي التي حاولت منعه من الانتصاب الفوضوي فلم يجد حلاً سوى الانتحار اعتراضًا على الظلم الذي تعرض له وليفجر بموته ثورة مازالت تونس والعالم العربي يعيشان على وقعها إلى حد اليوم، فانتحار البوعزيزي لم يكن الحالة الأولى في تونس لكنه كان رسالة إلى الدولة حول بلوغ السيل الزبى، وحول حالة اليأس والإحباط التي أصبح يعيشها الشباب التونسي المهمش نتيجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة وخصوصًا مع انتشار البطالة وارتفاع درجات الفقر إلى أرقام غير مسبوقة.
ظن الكثيرون أن بانتحار البوعزيزي واشتعال الثورة أن الرسالة قد وصلت إلى الدولة وأنها استوعبت الدرس، وتمنى العديدون أن يكون البوعزيزي قد ضحى بنفسه من أجل إيجاد حل لبقية الشباب وحتى يكون الأخير في أرقام المنتحرين، إلا أن ما كل ما يتمناه المرء يدركه، ولم يكن البوعزيزي سوى رقم من أرقام ظاهرة الانتحار التي تطورت بدرجة مهولة لتبلغ أرقامًا لا تصدق حول عدد المنتحرين وعدد محاولات الانتحار، فلا يمر يوم في تونس إلا وتطالعنا الصحف والإذاعات بانتحار شاب أو محاولة آخر، والأسباب دائمًا ما تدور حول نفس الفلك، فإما من ضاق ذرعًا بالبطالة أو من أوصله الفقر إلى اليأس من الحياة أو من تعرض إلى الظلم وأراد الانتقام بإيذاء نفسه.
الأكيد أن ارتفاع ظاهرة الانتحار في تونس يرتبط مباشرة بارتفاع البطالة ودرجات الفقر على الأقل نسبيًا
تختلف التفسيرات بين علم النفس وعلم الاجتماع حول أسباب لجوء الشباب في تونس إلى الانتحار كأبسط الحلول للهروب من الواقع، فالأول يرجح أن أغلب حالات الانتحار تكون نتيجة مرض نفسي لا نتيجة ظروف مؤقتة أو وضع اجتماعي وذلك من مسلمات علم النفس، فيما يرى علم الاجتماع أن الانتحار ظاهرة اجتماعية تفسر بما هو اجتماعي بناء على ما يعانيه الشباب التونسي من فقر وبطالة وتهميش ومستقبل ضبابي، ورغم اختلاف التفسيرات فإن النتيجة واحدة وهي ارتفاع حالات الانتحار في تونس أمام عجز الدولة عن إيجاد الحلول وإيقاف هذا النزيف الذي صار يهدد كيان المجتمع التونسي، خصوصًا أن هذه الظاهرة لم تستثن أي فئة ولا أي جهة رغم انتشارها في بعض الجهات ولدى بعض الفئات بصورة أكثر حدة .
تظهر الأرقام التي نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في شهر مارس الماضي، بأن حالات الانتحار التي تم تسجيلها رسميًا بتونس في العام 2015، بلغت 549 حالة، مقابل 203 حالة سنة 2014، أي بزيادة نسبتها 170% وهو رقم يكشف عن درجة الارتفاع المرعب لهذه الظاهرة خصوصًا مع ارتفاع ظاهرة انتحار الأطفال دون سن الخامسة عشر إلى حوالي 54 حالة في العام الماضي، وهو ما يجعل السؤال ملحًا حول دوافع انتحار طفل مازال لم ير من الحياة شيئًا، فبين من يربط ذلك بخطأ تربوي جعل هؤلاء الأطفال وليمة سهلة لليأس والانتحار، وبين من يرى في ذلك مجرد تقليد سلبي يهدف به الطفل إلى إيصال رسالة دون الوعي بخطورة ما يقوم به، خصوصًا مع اتهام البعض لوسائل الإعلام ببث هذه الأخبار دون مراعاة أعمار المشاهدين، ما يجعلهم تحت ضغوط إجراء التجربة بعد رؤية صور أقرانهم المنتحرين على شاشات التلفاز خصوصًا لو كانوا يتعرضون إلى نفس الظروف الاجتماعية أو العائلية أو الدراسية.
لعل الأكيد أن ارتفاع ظاهرة الانتحار في تونس يرتبط مباشرة بارتفاع البطالة ودرجات الفقر على الأقل نسبيًا، فحتى بالنظر إلى التوزع الجغرافي لهذه الظاهرة والمناطق التي تشهد فيها ارتفاعًا فذلك يبرز الارتباط الوثيق بين السبب والنتيجة، فبالرجوع إلى أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية يتبين أن أكثر الولايات التونسية التي ترتفع فيها معدلات الانتحار هي ولاية القيروان التي ظلت لعقود طويلة تعاني من التهميش وغياب التنمية رغم أهميتها التاريخية والحضارية في تونس، فالقيروان تستأثر لوحدها بنسبة 16,2 من حالات الانتحار في تونس بـ 89 حالة انتحار في السنة الفارطة، وهو ما يكشف ما يعانيه مواطنو ولاية القيروان من معاناة جعلت الانتحار حلاً من الحلول التي يلتجئ إليها أغلب شباب هذا الجيل نتيجة غياب التأطير والحوار والحلول، وخصوصًا مع انتشار معدلات الجريمة والإدمان في هذه الولاية.
إن حالات الانتحار التي تم تسجيلها رسميًا بتونس في العام 2015
تبدو الدولة عاجزة عن إيقاف نزيف المنتحرين في تونس، فرغم مرور 6 حكومات متتالية بعد الثورة لم يتم تناول هذا الموضوع بطريقة ترتقي إلى درجة خطورته، فحتى السياسيون قل وإن تحدثوا حول هذه الأرقام وحول حلولهم المقترحة لهذه الظاهرة التي أصبحت مستعصية، وأما الدولة فكثيرًا ما تلكأت في مواجهة القضية بعيدًا عن الحلول الفردية التي لا تجدي نفعًا، فأغلب حالات الانتحار التي لقيت صدى في تونس ونتجت عنها احتجاجات متعاطفة مع من قاموا بها ومحذرة من جنوح غيرهم من القيام بنفس الحل قوبلت بمساعدة عائلات المنتحرين ماديًا دون إيجاد حلول لمن غيرهم على قائمة المهددين بالانتحار، فيما يتم تجاهل تلك الاحتجاجات أو مواجهتها بعصا البوليس مثلما حدث في ولاية قفصة في الغرب التونسي التي تحتل المرتبة الثالثة وطنيًا في عدد حالات الانتحار عندما واجهت قوى الأمن الاحتجاجات المتعاطفة مع أحد الشبان الذين حاولوا الانتحار .
من الأكيد أن ظاهرة الانتحار هي ظاهرة عالمية تعاني منها العديد من الدول بدرجات متفاوتة إلا أن انتشارها في تونس بصفة مريبة خصوصًا بعد الثورة يجعلنا نطلق صيحة فزع حول مستقبل الشباب التونسي في ظل غياب شبه تام من الدولة التي يبدو أنها استقالت من مهامها في مواجهة هذه الظاهرة المستفحلة، ولنا أن نتساءل ختامًا كيف ترتفع حالات الانتحار في تونس ويصبح أبناء هذا الشعب مسارعين إلى الموت قبل الحياة وهو الشعب الذي قال عنه الشاعر الكبير أبو القاسم الشابي “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد لليل أن ينجلي”.