شهد الإقليم في الفترة الأخيرة مجموعة من التطورات المهمة ذات الطابع المفصلي، في مشروع “الفوضى الهدامة”، والذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط الجيوسياسية بالكامل، بعد مرور مائة عام على “سايكس – بيكو”.
ترتبط هذه التطورات بدورها، بتطور ما يُعرف بالمشهد الجهادي، وهو مصطلح مجازي نستخدمه لوصف الجماعات المسلحة التي تضع لافتة الدين فوق ما تقوم به من أنشطة وأعمال موجهة بالأساس من الخارج، لتهديد الأمن القومي للدول.
وبات من خلال هذه التطورات التي سوف نلقي عليها بعض الضوء في هذا الحيِّز، أنه من الواضح أن هذه الجماعات، وعلى رأسها تنظيم الدولة “داعش”، يلعب أدوارًا وظيفية متطورة، كان جزء منها، معلقًا على الكيان الصهيوني، وجيش الدفاع الإسرائيلي، وباتت الآن تتكامل معه في تحقيق مستهدفات عديدة، تتمحور في أمرَيْن يخدمان أهداف الإمبريالية العالمية في عالمنا العربي وأمتنا الإسلامية، وظهيرها الجغرافي في إفريقيا وأسيا.
إن أنشطة هذه التنظيمات، تستجلب العديد من التحركات الإقليمية والدولية، التي إما أنها تعمل على توظيف هذه التنظيمات في خدمة من منظومة أهدافها، أو تستغل ما تقوم به، من أجل تنفيذ الكثير من هذه الأهداف.
الأمر الأول، هو إدخال دول ومجتمعات المنطقة – والأهم المجتمعات؛ حيث إن كسر ترابط المجتمع يعني أزمة لا علاج لها، تتأصل في نفوس المجموعات البشرية الموجودة فرادى وجماعات – في آتون صراعات أهلية عديدة، وصلت حتى إلى مستوى المدينة ضد المدينة والقرية ضد القرية على النحو الحاصل في سوريا والعراق وليبيا واليمن.
الأمر الثاني، هو التأثير على خرائط الحدود السياسية للمنطقة، مع ارتباط ذلك بحزمة أهداف أخرى، من بينها توزيع مصادر الثروة، وخصوصًا في مجال الطاقة، الغاز الطبيعي والنفط، واستمرار اشتعال الفوضى الإقليمية، وتدمير الجيوش العربية التي هي الجهة الوحيدة القادرة على ضبط الحدود السياسية لدولها.
تعرفنا في موضوع سابق على التطورات الراهنة في المشهد الجهادي السوري، وأهمه عودة تنظيم “داعش” للمشهد الميداني، سواء على المستوى العملياتي، أو على مستوى التفجيرات النوعية التي نفذتها في طرطوس وجبلة، وتوجه “القاعدة” لتفعيل ذراعها في سوريا، ممثلاً في “جبهة النصرة”، إلى تحول نوعي، من خلال السعي إلى تأسيس إمارة تتبع القاعدة في المناطق الشمالية السورية.
رافق ذلك تصعيد في أنشطة التفجير التي ينفذها التنظيم في كل من العراق، على خلفية العمليات التي يقوم بها الجيش العراقي لتطهير المناطق الغربية والشمالية الغربية للبلاد من سيطرة التنظيم، وكذلك في اليمن، حيث نفذ تفجيرات استهدفت معسكر اللواء 39 في منطقة خورمكسر وسط عدن، وأهدافًا أخرى، محاولاً الخروج من محاولات حصاره وعزله في سوريا والعراق، معقله الأساسي.
شمل ذلك أيضًا تصعيدًا كبيرًا في أنشطة داعش بليبيا، بشكل استدعى تدخلات سياسية وعسكرية دولية، اعترفت بها الولايات المتحدة، وبعض حلفائها.
وفي كل مرة من هذه المرات، تجد أن أنشطة هذه التنظيمات، تستجلب العديد من التحركات الإقليمية والدولية، التي إما أنها تعمل على توظيف هذه التنظيمات في خدمة من منظومة أهدافها، أو تستغل ما تقوم به، من أجل تنفيذ الكثير من هذه الأهداف.
تحرير المصطلح
في هذا الإطار؛ فإن لدينا تطواف إقليمي ودولي، يوضح كيف أن داعش وأخواتها، يلعبن في كثير من الأحيان، دور محلل الشيطان، في تمرير سياسات القوى العظمى، سواء فيما يتعلق بمنطقتنا، ومحيطها الحيوي الأوسع، أو ما يتعلق بصراعات ومصالح هذه القوى.
ولكن قبل البدء، فإننا يجب أولاً العمل على تحرير أحد أهم المصطلحات المُستخدمة في مجال تصنيف هذه المجموعات؛ حيث إنها تُصنَّف – باطلاً – ضمن تيار يعرف بـ”السلفية الجهادية”.
أولاً: فإنهم – في أبسط التقديرات – لا يرتكزون على فقه السلفيين المتقدمين أو حتى المتأخرين، مثل الإمام أحمد بن حنبل، وأحمد بن تيمية، كما يظن البعض، وربما كان ذلك صحيحًا في بدايات ظهور هذه المجموعات، في الحرب في أفغانستان، إلا أن هذا الوضع لم يعد قائمًا.
فغالبية ما يرتكنون إليه من فقه، في هذه المرحلة، هو من وضع فقهاء وعلماء محدثون، مثل أيمن الظواهري، وأبو مصعب السوري، وأبو مصعب الزرقاوي، وحتى أبو بكر البغدادي، وغالبيتهم لم يتلقَّ في حياته أي علم شرعي، مستندين إلى بعض ما قاله سيد قطب في هذا الصدد، ووضعوا فيه تفسيراتهم الذاتية لبعض النصوص القرآنية، وبعض الأحاديث النبوية الشريفة، ومواقف من حياة الرسول الكريم – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -، الكثير منها يدخل في باب الاستثناء، ولا يمكن بناء أحكام شرعية عامة عليها.
أما الشطر الثاني من العبارة “السلفية الجهادية”، فإن جمهور أهل السُّنَّة والجماعة، ومن بينهم علماء ثقاة مثل الإمام محمد الغزالي، يؤكدون أن الجهاد في الإسلام لا يقتصر على القتال، ناهين عن القتل الذي يتم بشكل يومي باسم الجهاد.
ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى قول الله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} سورة الفرقان (52).
فهذه الآية مكِّيَّة، ونزلت في السنوات الأولى للبعثة، وسبقت موقف وقع بين الرسول الكريم – صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم -، وبين أصحاب بيعة العقبة الثانية، في السنة الثالثة عشرة للبعثة، لما استأذنوه في قتال أهل الشِّرْك والكفر في مكة المكرمة، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “إننا لم نؤمر بذلك”، وقال مسلم في صحيحه، إن المقصود بذلك: “القتال”.
كما أن تطرح ممارسات داعش على وجه الخصوص في المناطق التي تسيطر عليها، في صدد الشريعة التي يدعون تطبيقها؛ حيث إن هناك شهادات لفارِّين من هذه المناطق، وتقارير حقوقية محايدة، وموثوقة؛ تتحدث عن قتل بعض شاربي الخمر، ومرتكبي جرائم السرقة، وهي أمور ما أنزل الله تعالى بها من أحكام.
معركة الفلوجة
ولكي لا نُستَغرق كثيرًا في هذا الأمر، ونخرج عن سياق الحديث الرئيسي، فإن لدينا في البداية، في هذا التطواف الإقليمي، معركة الفلوجة الحالية، حيث يسعى الجيش العراقي بمساعدة ميليشيات الحشد الشعبي وبعض الصحوات، بالإضافة إلى مجموعات مسلحة تابعة للحزب الإسلامي العراقي، تعرف بـ”حماس العراق”، إلى طرد عناصر تنظيم داعش من المدينة.
هذه العمليات التي تتم، تهدد خلفها حياة أكثر من تسعين ألف مدني، غالبيتهم الساحقة من العرب السُّنَّة، مع عدد غير معروف بدقة من “السبايا” الأيزيديات، الذين جلبهم التنظيم من المناطق التي يسيطر عليها في الموصل.
وتُعتبر معركة الفلوجة من أهم النماذج التي يمكن أن نطرحها لتأكيد الجانب الوظيفي الذي تقوم به داعش ومن نحا نحوها من هذه التنظيمات المسلحة.
الفلوجة تدفع ثمن ممانعتها للاحتلال الأمريكي والمشروع الإيراني في العراق
فمدينة الفلوجة، ظلت إلى الآن، أحد أهم المناطق التي استعصت على الاحتلال الأمريكي للعراق قبلاً، ثم على المشروع الإيراني في العراق، الذي استغل ظروف الاحتلال وسقوط دولة البعث في العراق، لتوطيد أحد أهم أركان المشروع التوسعي الإيراني في الإقليم.
فظلت الفلوجة إحدى أهم نقاط الرفض في العراق، وخارج نطاق سيطرة الحكومات العراقية المتعاقبة الموالية لإيران، وكانت من أهم النقاط التي ثارت ضد الحكومة العراقية وفسادها، في الاحتجاجات التي وقعت في شتاء العام 2012م، وربيع العام 2013م، والتي خرجت في المناطق ذات الغالبية السُّنِّية، مثل الرمادي وصلاح الدين والموصل وكركوك، بالإضافة إلى مناطق في العاصمة بغداد نفسها.
طالبت بإطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات في السجون العراقية، وإيقاف النهج الطائفي للحكومة، ومطالب أخرى، قبل أن تتحول إلى حركة شعبية واسعة تدعو لإسقاط الحكومة العراقية الحالية، ووقف التدخل الإيراني في البلاد، وقام المحتجون بإقامة اعتصامًا واسعًا، إلا أن تدخل “القاعدة” و”داعش” في الموضوع، أجهض هذا الحِراك، وأعطى شرعية للحكومة العراقية والميليشيات الشيعية الموالية لها، لإنهائه بالقوة المسلحة.
ثم جاء هجوم داعش الكبير على الموصل والمناطق الغربية وبعض مناطق الوسط العراقي؛ لكي يجعل الفلوجة في عين هدف التصفية من جانب القوات العراقية والميليشيات الموالية لإيران.
وهو بالفعل ما يتم حاليًا، كما تم في الرمادي، التي كانت إحدى أهم المناطق العصية على الاختراق الإيراني في العراق، ومثلت بؤرة لم تفلح حتى الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكي في إخضاعها؛ حيث حول وجود داعش والقاعدة الوظيفي – أي أن طرفًا ما في الخارج يعمل على توظيفها لتحقيق أهدافه – قد أدى إلى منح الحكومة العراقية وإيران، المشروعية اللازمة لتصفية هذه البؤر التي كانت تضمن ألا يدور العراق بالكامل في الفلك الإيراني الأمريكي للأبد!
جماعات “وظيفية”
قلنا إن هذه الجماعات وظيفية، وفي حالة داعش هي الآن إحدى أهم الأدوات التي تتحكم بها قوى أكبر لتحقيق مصالحها.
وربما ليس من قبيل التفسير التآمري للأحداث، القول بأن داعش وتنظيمات “السلفية الجهادية” – مجازًا – هي عين الحدث الذي يؤكد موضوع حروب الجيل الرابع والخامس هذا الذي ملأ الإعلام في الوقت الراهن.
ينصب الدعم الأمريكي للأكراد، في تمكين مشروعهم لتأسيس دولة على المدى البعيد، وهو دعم لم تكن الولايات المتحدة يمكنها أن تقدمه لولا وجود داعش في الصورة.
ففقدان مصداقية الخطاب السياسي والإعلامي للأنظمة الاستبدادية الفاسدة الحاكمة في عالمنا العربي والإسلامي، حول المؤامرة الكونية التي تواجههم وتواجه أوطانهم، لا يعني أنه لا يوجد بالفعل أنماطًا غير تقليدية للحروب، لا تضع الخصم في مواجهة مباشرة مع من يستهدفهم، في حرب لها ثمنها السياسي والاقتصادي، ويبذل فيها الموارد.
وتُعتبر الجماعات الهدامة والتنظيمات الإرهابية المسلحة، أحد أهم أركان هذه النوعية من الحروب؛ حيث تقوم بما يمكن أن تقوم به الجيوش النظامية، بينما من يقومون بتوظيفها يختفون في الخلفية ويكتفون بالتمويل والتوجيه.
وفي حروب الجيل الخامس بالتحديد (5GW)، يكون الاعتماد على قوة الكيانات الصغيرة المدربة والتشكيلات العصابية والجماعات الإرهابية ذات التسليح النوعي المتطور.
وأمامنا في هذا الصدد نموذجان يمكن أن يوضحا ذلك.
النموذج الأول يتعلق بالدعم الأمريكي الكبير، سياسيًّا وعسكريًّا لتحالف قوات سوريا الديمقراطية، الذي يقوده أكراد ينتمون إلى حزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي” أو الـ”بي. واي. دي”، الذي تتهمه تركيا بأنه الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، وتصنِّف كليهما على أنه منظمة إرهابية.
ينصب الدعم الأمريكي للأكراد، في تمكين مشروعهم لتأسيس دولة على المدى البعيد، وهو دعم لم تكن الولايات المتحدة يمكنها أن تقدمه لولا وجود داعش في الصورة.
الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية منح الأكراد تأثيرًا سياسيًّا في شمال سوريا بالكامل
ويُعتبر المشروع الكردي في الإقليم، هو أهم أدوات إعادة ترسيم حدود دول الإقليم، حيث يتضمن الإقليم الذي يريد الأكراد إقامة دولتهم عليه، مناطق واسعة من شمال العراق وشمال وشمال شرقي سوريا، وجنوب شرق تركيا.
وفي هذا الإطار، من المعروف أن تركيا واحدة من المركزيات المهمة في المنطقة التي يريد لها التحالف الأنجلوساكسوني تقسيمها، ضمن مشروع الفوضى الهدامة الحالي، الذي يُعتبر خطوة من ضمن خطوات عدة بدأت قبل ثلاثة عقود، لكسر مركزيات المنطقة، وإعادة ترسيم حدودها، أو ما يُعرف في الوقت الراهن، بـ”سايكس بيكو 2″.
في هذا الإطار، وتحت ستار “تحرير” الرقة، التي تُعتبر عاصمة إقليم “الدولة الإسلامية” شمال شرقي سوريا، وتحديدًا طرد مسلحي التنظيم من مناطق الارياف الواقعة شمال المدينة.
ظلت الفلوجة إحدى أهم نقاط الرفض في العراق، وخارج نطاق سيطرة الحكومات العراقية المتعاقبة الموالية لإيران، وكانت من أهم النقاط التي ثارت ضد الحكومة العراقية وفسادها
قوات سوريا الديمقراطية التي تشكلت في أكتوبر الماضي وتضم 30 ألف مقاتل، هي تحالف لوحدات حماية الشعب الكردية ومجموعات معارضة عربية وآشورية، وتمكنت بغطاء جوي أمريكي، من السيطرة على نحو 26 ألف كيلومتر مربع من الأراضي السورية، بما في ذلك شريط طوله 400 كيلومتر بمحاذاة الحدود السورية التركية، ومن بينها مناطق غربي الفرات، أحد الخطوط الحمراء التي تضعها الدولة التركية على وجود أية قوة كردية مسلحة في جوارها السوري، حيث يغلق هذا الوجود، دائرة تماس مهمة للمشروع الكردي، مع المناطق التي يوجد فيها حزب العمال الكردستاني التركي.
وفي سابقة ربما تُعتبر خطيرة للغاية، ولم يكن للولايات المتحدة أن تقوم بها مراعاة لحليفها الإقليمي الأهم ربما، وهو تركيا؛ قام قائد المنطقة المركزية في هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية الجديد، الجنرال جوزيف فوتيل، بزيارة سرية إلى سوريا قبل حوالي عشرة أيام؛ حيث اجتمع مع مسؤولين من قوات سوريا الديمقراطية، أكد فيها على عزم الولايات المتحدة على الاستمرار في تدريب “القوات الكردية والعربية المشتركة”، باعتبار أن ذلك “أفضل أسلوب لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية”، بحسب تصريح له.
هذه الزيارة التي لا يقوم بها في العادة مسؤولون عسكريون أمريكيون أقل من ذلك شأنًا، وإلى بلدان مستقرة، تكشف بكل وضوح عن خطط الولايات المتحدة تجاه جيوسياسية هذه المنطقة، والتي كانت هي صُلب اتفاقية “سايكس بيكو” الأولى، في العام 2016م.
إذًا في المشرق، يمضي مشروع إعادة رسم خرائط المنطقة على قدم وساق، وتصفية كل نقاط الممانعة والمعارضة – كما في مناطق العرب السُّنَّة في العراق – وكل ذلك لم يكن له ليتم لولا هذه التنظيمات.
داعش والصراع الدولي في شمال إفريقيا
النموذج الثاني في الغرب هذه المرة، ويتعلق بصراع أكبر بين التحالف الأنجلوساكسوني وبين فرنسا في مناطق الشمال الإفريقي، وغرب إفريقيا، بما في ذلك منطقة الصحراء الكبرى، وإفريقيا جنوب الصحراء.
نبدأ بليبيا التي بدأت بريطانيا والولايات المتحدة في الحديث عن خبراء موجودين على الأرض، واستعدادات لإرسال قوات، وذلك – كالعادة – لمكافحة تنظيم داعش.
جاء ذلك بعد مساعٍ إيطالية وفرنسية للبدء في سياسة جديدة لاحتواء الأوضاع السياسية والأمنية في ليبيا، والحصول مبكرًا على مناطق نفوذ في ليبيا الجديدة، بعد تشكيل حكومة فايز السرَّاج، بقرار من الأمم المتحدة.
لا يمكن بحال من الأحوال قبول فكرة أن هذه التنظيمات التي تعتبر بدائية في تكوينها، وفي طبيعة تفكير القائمين عليها، أن تعمل بهذا النسق الاستراتيجي شديد التأثير، ما لم يكن خلفها قوى أكبر وأقدر، تحرك المشهد الإقليمي والدولي بالكامل.
الغريب في الأمر، أن كل التقديرات تشير إلى أن تنظيم داعش في ليبيا لا يتقدم، وإنما يواجه تحديات تحاصر نفوذه من التمدد والتوسع.
وأهم هذه التحديات، هو أن المجتمع الليبي والفصائل المسلحة الأخرى التي تسيطر على المدن الساحلية الرئيسية لا تدعم وجوده، وترى في سلاحه ونشاطه مشكلة لأن انفلاته سوف يقود إلى تدخلات تعيق مشروع الانتقال السياسي في ليبيا تكون قوى الثورة المسلحة جزءًا منها.
التحدي الثاني، وهو مرتبط بما مضى، يتعلق بعدم وجود رافد بشري محلي للتنظيم الذي يعتمد على أجانب، مما يخلق مشكلات عدة أمام انتقالهم وتكيفهم مع البيئة الليبية، خلافًا لما هو الحال مع التنظيم في سوريا والعراق.
الوجه الوظيفي المهم لداعش والتنظيمات التي أعلنت ولاءها لها، مثل جماعة “المرابطون” التي تنشط في المناطق الصحراوية جنوب الجزائر وشمال مالي وتشاد، و”بوكو حرام” في نيجيريا وغرب إفريقيا، يبدو أكثر ما يبدو في توظيف الولايات المتحدة لهذه التنظيمات وأنشطتها، في ضرب النفوذ الفرنسي في هذه البلدان.
وهنا نستعيد نقطة تاريخية مهمة، توضح هذا الجانب من الصورة.
في الماضي كان الصراع الأمريكي الفرنسي في غرب ووسط إفريقيا، يتم من خلال الانقلابات باهظة الثمن وغير المضمونة النتائج.
وفي مناطق غرب ووسط إ، سوف نجد أن الانقلابات والانقلابات المضادة، كانت هي من بين أهم الظواهر السياسية التي تتم في إطار صراع القوى هذا، حيث كانت بعض الانقلابات، كما في مالي وكوت ديفوار ونيجيريا.
وكان يترافق مع هذه الانقلابات، توظيف بعض القوى المحلية في هذه البلدان، من أجل إما تعطيل عملية انتقال سلمي للسلطة، ويشمل ذلك تعطيل انتخابات رئاسية وتشريعية، تأتي بمؤسسات دائمة تضمن استقرار الدولة، أو تأسيس لحروب واضطرابات أهلية محلية، تضمن استمرار حالة عدم الاستقرار هذه.
“بوكو حرام” أعلنت ولاءها لداعش وتحولت إلى أدوار إقليمية مهمة في صراع النفوذ الدولي
وتمثل حالة داعش وتنظيمات “السلفية الجهادية” هناك، تطويرًا لذلك، بعد التحول الحاصل في موقف الدول الإفريقية ومؤسسات القارة، مثل الاتحاد الإفريقي ومجلس الأمن والسلم الإفريقي، في صدد عدم الاعتراف بأنظمة تأتي بانقلابات عسكرية.
كان ذلك، خلال القمة الـ 35 لقادة الدول والحكومات الإفريقية، والتي عقدت في الجزائر في يوليو 1999م، وهو العام الذي شهد أربعة انقلابات عسكرية في القارة، في النيجر وجزر القمر وغينيا بيساو وكوت ديفوار.
ومنذ ذلك الحين، جرى تحول كبير في الأدوات المستخدمة من جانب القوى الكبرى، لإدارة صراعاتها في المنطقة، حيث ظهرت تنظيمات مثل “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، و”المرابطون”، و”بوكو حرام”، استفاد بعضها في وجوده من الأزمة الجزائرية، ثم لم تلبث أن حولت ولاءها لتنظيم داعش، بعد حالة الجمود التي أصابت تنظيم القاعدة، وتحولاته في صدد قضية الأولية في الحرب بين العدو القريب والعدو البعيد، في إشارة إلى الأنظمة الحاكمة من جهة، والولايات المتحدة و”التحالف الصليبي اليهودي العالمي”، من جهة أخرى.
في هذا السياق، يمكن فهم حضور الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، للقمة الأمنية التي عقدت في منتصف هذا الشهر، لبحث مكافحة تنظيم “بوكو حرام”.
فتح حضور الرئيس الفرنسي – وكان الرئيس غير الإفريقي الوحيد الذي حضر القمة – مجالاً مهمًّا للنقاش، في صدد طبيعة نهوض تحالف عسكري وسياسي إقليمي يلقى دعمًا من فرنسا، لإنهاء ما وصف في وسائل الإعلام الفرنسية بـ”تمرد” هذه المجموعات الإرهابية، بينما كان التمثيل الأمريكي في القمة، منحصرًا في أنطوني بلينكن، مساعد وزير الخارجية.
……
وفي الأخير، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال قبول فكرة أن هذه التنظيمات التي تعتبر بدائية في تكوينها، وفي طبيعة تفكير القائمين عليها، أن تعمل بهذا النسق الاستراتيجي شديد التأثير، ما لم يكن خلفها قوى أكبر وأقدر، تحرك المشهد الإقليمي والدولي بالكامل.