خرج عدد من قادة من حركة النهضة التونسية وكواردها في الأيام القليلة السابقة على عقد مؤتمر الحركة العام، وخلال أيام المؤتمر، للإعلان عن تحول كبير في هوية النهضة ونهجها الفكري والسياسي.
ما أكد عليه النهضويون، باختصار، أن حزبهم أدار ظهره كلية لهويته الإسلامية السياسية، أنه لم يعد يعتبر الدعوة للإسلام من مهماته، بأي صورة من الصور، أنه يعود الآن حزبا مدنيا، تونسيا، وطنيا، وأن النهضة تقطع صلتها كلية بالإخوان المسلمين، أو أن صلة لم تكن لها أصلا بهم.
حمل خطاب النهضة الجديد اعتذارا عن سنوات من تاريخ الحركة النضالي، وإعلان تحرر من المسؤولية عن ما وصف بأنه جرائم لبعض القوى الإسلامية السياسية؛ كما حمل نزعة تقديسية للدولة التونسية، ونظرة استعلائية لما يحدث في المشرق العربي من اضطراب. هذا خطاب نهضوي جديد بالتأكيد؛ ولكن ليس من الصعب اكتشاف أن القراءة التي يستند إليها لأحوال تونس والمحيط العربي، والطريقة المثيرة، بغير ضرورة، التي أخرج بها، ليست صحيحة في كليتها.
ليس ثمة شك أن حركة النهضة، التي تغير اسمها أكثر من مرة منذ ولادتها في نهاية السبعينات، اعتبرت دائما إحدى قوى الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي السياسي. وليس ثمة شك أن الحركة ساهمت في الجدل الفكري والسياسي داخل الجسم العام للإخوان؛ وكان لها، على الأقل في مناسبة واحدة، دور إيجابي في تحولات وتطور رؤية الجماعة، مثل بياني منتصف التسعينات التاريخيين حول مسألة المرأة والنهج الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة.
لم تؤسس علاقة النهضة بالإخوان عبر جهد دعوى، تآمري، من الخارج، بل كانت خيارا تونسيا بحتا؛ ومن غير الصحيح القول اليوم أن النهضة سجنت طوال عقود في هوية إسلامية سياسية لم تكن ترغب بها. كانت العلاقة الإخوانية والهوية الإسلامية السياسية، على نحو ما، تطورا طبيعيا في تونس، تماما كما إن ولادة التيار الإسلامي السياسي في حقبة ما بين الحربين كانت ظاهرة تاريخية بحتة. الحقيقة، إن كان هناك من فرصة للمقارنة، أن تونس تأخرت في الالتحاق بالقاطرة التاريخية للمجتمعات العربية ـ الإسلامية، التي ولدت في أغلبيتها تعبيرات إسلامية سياسية خلال العقود القليلة التالية على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر والجماعة الإسلامية في باكستان.
أطاحت حركة التحديث في العالم الإسلامي، منذ منتصف القرن التاسع عشر، بالمؤسسات التقليدية للمجتمع الإسلامي أو همشتها إلى حد كبير، بما في ذلك مؤسسة العلماء، حارسة الشريعة وقيم الدين والناطقة باسم المجتمع؛ وفتحت أبواب المجتمعات الإسلامية للتأثيرات الغربية المادية والفكرية. ومنذ ما بعد الحرب الأولى، انتشر شعور عميق لدى المسلمين بأن «الإسلام في خطر»، وأخذت الطبقات الحديثة في المجتمعات الإسلامية بالانقسام في موقفها من رياح التحديث، من الموروث التاريخي، ومن مسائل الحرية والعدل وحكم الأقليات الجديدة وعلاقة مؤسسة الدولة بالمجتمع (ولم يكن غريبا أن يعتبر العثمانيون الجدد في إسطنبول النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن العودة للشريعة هو استعادة للعدل).
الإسلام السياسي هو نتاج هذا المنعطف التاريخي، وليس مؤامرة أو عبقرية من أحد. وليس ثمة وسيلة، مهما بلغت حدة الهجمة على القوى الإسلامية، لإبادة التيار الإسلامي السياسي أو محوه من مسار الإسلام الحديث. ما لم تجد المجتمعات الإسلامية إجابة إجماعية على سؤال موقع الإسلام ودوره في المجال العام، سيستمر وجود التيار الإسلامي السياسي باعتباره ضرورة اجتماعية ـ سياسية وأخلاقية لحياة المجتمعات الإسلامية وبحثها الدائم عن النهضة والحرية والعدل.
بيد أن الإسلام السياسي، كونه ظاهرة تاريخية أصلا، ليس مشروعا ناجزا، وقد كان، وسيبقى، تعبيرا دائم التطور والتحول. بدأ التيار العام للإسلام السياسي، بما في ذلك الإخوان المسلمون، دستوريا في برنامجه، ثم أصبح ديمقراطيا؛ تبنى لوقت قصير فكرة الدولة الإسلامية، وسرعان ما أدرك الفروق البالغة بين نظام الدولة الحديثة، والاجتماع الإسلامي السياسي التقليدي، وتخلى عن هذا الشعار الغامض.
في عدد من الدول الإسلامية، برز توجه في العقود القليلة الماضية للفصل بين الدعوي والسياسي، على اعتبار أن المجالين يخضعان لإطارين أخلاقيين وعمليين متباينين لهذه الدرجة أو تلك. بدأ هذا التوجه في تركيا، وتجلى بنجاح في المغرب، وتبدو مصر الآن في طريقها لتحقيق هذا الفصل. في تونس، ارتكبت النهضة الخطأ الأولى في 2011، عندما أعلنت تحول الحركة كلية إلى حزب سياسي، وكان بإمكانها العمل من خلال كيانين منفصلين، دعوي وسياسي. ولكنها لم تفعل. بمعنى أن النهضة تخلت، منذ عودة الحياة السياسية الحرة في تونس، عن مهمات الدعوة.
القول اليوم بأن النهضة تفصل بين الدعوي والسياسي لا يبدو أنه يؤسس لجديد. في النهاية، ولأن الإسلام السياسي لم يزل ضرورة حيوية لحياة المجتمعات العربية والإسلامية، وأن ما تبقى من مؤسسة العلماء أصبح مشغولا بالتمييز ما بين نجاسة الخمر وطهارة الحشيش، وتسويغ الطاعة للمستبدين، فإن الفراغ الذي ستتركه النهضة خلفها ستحتله جماعات عدمية من السلفية الجهادية والداعشيين أو من يشبهها.
مهما كان الأمر، فإن قطع الصلة بالإخوان المسلمين هو خيار حر للنهضة بالتأكيد، تماما كما كان خيارها الانضواء في المظلة الإخوانية قبل ثلاثة عقود. عموما، ما يعرفه أغلب الباحثين في تاريخ الإخوان المسلمين أن المظلة العالمية للجماعة كانت دائما مظلة شكلية، ولم تستطع مطلقا، ولم تحاول، على الأرجح، فرض برنامج مشترك أو خيارات سياسية موحدة على تنظيمات الإخوان المختلفة. المشكلة، ليست في خيار التخلص من الصلة الإخوانية، الواهية أصلا، ولا حتى في التحرر من الهوية الإسلامية السياسية، المشكلة، أن هذه الخطوة تعلن في إطار من لغة تعال على، وإدانة لتيار شعبي واسع، بل ربما يعتبر التيار السياسي الأكبر على الإطلاق في عدد ملموس من الدول العربية.
ناضلت قوى التيار العام للإسلام السياسي، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون، طوال ما يقارب القرن، من أجل استقلال دولها، ناضلت من أجل حرية الشعوب، وإقامة نظام حكم عادل، يعبر عن إرادة أغلبية الشعب، ويحفظ مصالحه. وليست النهضة، منذ وقوفها ضد الاستبداد البورقيبي، استثناء في ذلك. في هذا التاريخ، ليس ثمة ما يدفع إلى الخجل، أو يستدعي الإدانة. ما يستحق الإدانة بالفعل هو أنظمة الأقليات، الاجتماعية والسياسية والطائفية، الفاشية، التي سيطرت على مقدرات الشعوب والأوطان، ووظفت من قبل، ولم تزل، أبشع وسائل عنف الدولة لتأبيد سيطرتها وتحكمها.
أما التطور الأبرز في خطاب النهضة الجديد فيتعلق بلغة تقديس الدولة، الذي يبدو أشبه بلغة بوتين منه إلى لغة الديمقراطيين. وكان يمكن فهم هذا الخطاب، لو أن الدولة التونسية إحدى الدول الكبرى، أو كان تاريخ هذه الدولة يدعو إلى الاعتزاز والفخر. ولدت الدولة الحديثة في تونس، كما مثيلتها في إسطنبول والقاهرة، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان تاريخها القصير هذا مجللا بالفشل والإخفاق. لا استطاعت هذه الدولة حماية استقلال البلاد، ولا استطاعت صنع نهضتها ورفاهها.
وكلما تفاقم فشل هذه الدولة، ضاقت قاعدتها الاجتماعية وتصاعدت مستويات العنف التي وظفتها في سيطرتها على الشعب ومقدرات البلاد. والواضح، وليس في تونس وحسب، أن ليس هناك من حل لملفات الاستقلال والنهضة والرفاه مع استمرار وجود هذه الدولة على ما هي عليه. ما كان يمكن للنهضة أن تقدمه من إسهام جوهري وحقيقي، لتونس ما بعد الثورة الشعبية، هو المقاربة النقدية لهذه الدولة وليس تطوير خطاب تقديسي لها.
أحد تفسيرات هذا التحول في تصور النهضة لنفسها وتونس أن هناك خصوصية مغاربية، وأن النهضة تستلهم اليوم هذه الخصوصية. ولكن أحدا لم يوضح ما تعنيه هذه الخصوصية، وما إن كانت مسيرة حركة التحديث وميراثها، أو ظاهرة صعود الأقليات للحكم، أو سيطرة الدولة بالعنف، تختلف في تونس عن مثيلاتها العربيات.
ليست الخصوصية المغاربية في الواقع سوى أسطورة مصطنعة، وأن النهضة، كما بعض المثقفين المغاربة، باتت تصدق ما يبدو أنها ساهمت في اصطناعه. أما التفسير الآخر فيقول أن النهضة، التي خشيت عواقب اندلاع الثورة المضادة في صيف 2013، تختار طريق السلامة. الحركات السياسية هي، بالطبع، كائنات حية، وبعض الخشية والتحسس أحيانا ليس بالأمر السيئ. ولكن الخشية والتحسس لا يجب أن تودي بحركة سياسية، ذات تاريخ طويل من النضال والتضحيات، إلى الارتباك والتسرع.