لم يكن يدرك النائب عن حزب الحركة القومية عثمان شكير عندما صرح عام 2011 أنه يتوقع تراجع أردوغان عن فكرة التحول للنظام الرئاسي خلال أسابيع أن تلك المعركة ستطول لخمس سنوات، الدعوة التي أطلقها أردوغان قبيل انتخابات 2011 والتي كانت آخر ولاية له كرئيس وزراء وكأن عينه كانت على المستقبل، أثارت نقاشات عدة على مستوى الأحزاب التركية وداخل الحزب الحاكم نفسه ولا تزال.
احتاج أردوغان بذل جهد كبير لإقناع الرأي العام التركي بمناقشة الفكرة، إذ رصد استطلاع للرأي العام سنة 2012 وبعد تكرار الدعوة من القيادي بحزب العدالة بكير بوزداغ أن 16% فقط من الأتراك يؤيدون تلك الفكرة بينما يرفضها 56% مع الإشارة إلى أن معظم الأتراك لا يعرفون الفارق بين نظامي الحكم الرئاسي والبرلماني!
مثلت التعديلات الدستورية التي سبقت الانتخابات الرئاسية 2014 والتي أدت إلى انتخاب الرئيس مباشرة من جموع الشعب وليس من خلال نواب البرلمان والتي أفرزت فوز أردوغان بالانتخابات من الجولة الأولى، أول خطوة فعلية تجاه التحول المنشود، إذ ساهمت في تغيير نظرة الأتراك للرئيس من ممثل للدولة ومجرد منصب شرفي ليصبح ندًا حقيقيًا للحكومة على نفس درجة شرعيتها، ومع وجود شخص بقوة أردوغان أصبح الأمر أكثر وضوحًا.
2015 كان العام الأبرز، إذ احتلت الدعوة للتحول للنظام الرئاسي صدارة دعاية الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية والتي لم يستطع حزب العدالة بقيادة أوغلو حسمها لصالحه كما لم تستطع الأحزاب الأربعة الكبرى تشكيل أغلبية برلمانية، ما أدى إلى إعادة الانتخابات لاحقًا، نجح أوغلو الذي كانت لديه ملاحظات على النظام الرئاسي في الربط بين تراجع نتيجة الحزب والمشروع، عندما أعلن أن الشعب قال لا للنظام الرئاسي وبالفعل تراجع الحزب خلال انتخابات الإعادة عن الأمر وقام بتصدير أولويات أخرى ساهمت مع جملة عناصر في إعادة انتخابه بنسبة كافية لتشكيل الحكومة دون الحاجة للدخول في إئتلافات.
استبعاد أوغلو
كنتيجة تلقائية للاختلاف الواضح بين سياسات الرجلين تجاه العديد من القضايا الحيوية والتنازع حول جهة وضع السياسات العامة للدولة بين الرئيس والحكومة والتي ظهر أثرها على قضايا الإرهاب والتعامل الأمثل مع الميليشيات الكردية، فبينما أيد أوغلو ضرورة استمرار حلول المصالحة إلى جانب الحلول الأمنية، اعتبر أردوغان أن مشروح المصالحة قد انتهى، كما رأى الرئيس أن الحكومة تتساهل مع جماعة كولن أو ما يعرف بالكيان الموازي، بينما كان يرغب في مزيد من قمع الحركة وتجفيف منابعها.
العلاقة مع الغرب هي الأخرى مثلت اختلاف، حيث اعتبر الرئيس أن أوغلو يتعامل بمرونة أكثر من اللازم وهو الأمرغير المقبول في ظل حالة الشد والجذب بين تركيا والغرب خلال المرحلة الماضية من وجهة نظر الرئيس، ومثل التحول للنظام الرئاسي الأزمة الأكبر في علاقة الرجلين؛ ما كان نتيجته اختيار أوغلو الانسحاب أمام عدم القدرة على تهميش شخصية بوزن أردوغان وعدم الرغبة في الاكتفاء بلعب دور المنفذ.
يلدرم رجل المشروعات
خلف أوغلو رجل قوي آخر وإن اختلفت مظاهر قوته، فهو ليس بروفيسور ولا راسم السياسة الخارجية، يلدرم الذي يقول عن نفسه إنه يعمل أكثر مما يتكلم، توافرت فيه مواصفات غابت عن سابقه، فهو منفذ ناجح من الطراز الأول تنسب إليه العديد من المشروعات الهامة التي غيرت وجه تركيا خلال المدة الطويلة التي تولى خلالها وزارة المواصلات والملاحة البحرية والاتصالات أبرزها مشروع نفق القطار السريع “مرمراي” الذي يربط ضفتي مضيق البوسفور تحت مياه المضيق، والقطار السريع بين محافظات إسطنبول وأنقرة وقونيا وأسكيشهير، وجسر خليج إزميت الذي أطلق عليه اسم مؤسس الدولة العثمانية عثمان غازي، بالإضافة إلى جسر السلطان ياووز سليم، الجسر الثالث المعلق الذي يربط شطري إسطنبول الآسيوي والأوروبي، والمطار الثالث الذي من المقرر أن يتم افتتاح القسم الأول منه في 2018، ونفق أوراسيا الذي من المتوقع افتتاحه قبل نهاية هذا العام ليصل بين شطري عاصمة تركيا التجارية من أسفل مضيق البوسفور لعبور السيارات.
كما أنه أحد مؤسسى حزب العدالة والتنمية وواحد من القادة الذين يتمتعون بشعبية كبيرة داخل الحزب وخارجه جعلته مرشحًا لنفس المنصب حتى قبل اختيار أوغلو، كما أنه لا يتمتع بطموح سياسي والأهم أنه مقرب للغاية من أردوغان، إذ تمتد علاقتهما منذ تولي أردوغان رئاسة بلدية إسطنبول في نهاية التسعينات وهو واحد من أبرز مستشاري الرئيس قبل توليه رئاسة الحكومة والحزب.
سريعًا ما أثبت يلدرم ذلك التوافق بينه وبين الرئيس فجاءت أولى تصريحاته أن التحول للنظام الرئاسي هو أولوية الحزب ليصبح هدف الرجل أن يصبح آخر رئيس وزراء لتركيا لأن النظام الرئاسي على النمط الأمريكي لا يوجد به منصب رئيس الوزراء.
كما قام بزيارة لديار بكر معقل الأكراد وزار ضحايا التفجيرات وتعهد بالمضي في القضاء على الإرهاب، كما دلت تصريحاته غير المرنة تجاه الغرب والاتحاد الأوروبي أن الرجل يتوافق تمامًا مع الرئيس في كل القضايا الحيوية والتحديات التي تواجه تركيا.
خلال تلك المسيرة التي استغرقت خمس سنوات تخلى خلالها أردوغان عن رفقاء دربه جول وأوغلو على الأقل على مستوى المناصب الرسمية، مصممًا على المضي في مشروعه وفكرته التي يدافع عنها باعتبارها تعزيزًا للديموقراطية، واضعًا النموذج الرئاسي الأمريكي نصب عينيه، ومفضلاً نظام الحزبين (أحدهما حاكم والآخر معارض) والذي يعبر عن استقرار النظام السياسي وبهدف الاستفادة من مميزات النظام الرئاسي في الفصل الواضح بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وبهدف تجنب بيروقراطية الأداء الحكومي وللمساهمة في الإجابة على التحديات الهامة التي تعترض تركيا للوصول إلى مشروع 2023.
بينما ترى المعارضة أن النظام الرئاسي لا يناسب تركيا التي اعتادت العمل بالنظام البرلماني وفي ظل التعددية الحزبية الموجودة كما أنه سوف يكرس الديكتاتورية وحكم الفرد معتبرة أنه يخدم أردوغان كشخص فقط .
أصبح في حكم المؤكد اليوم أن تركيا ستعيش فعليًا خلال المرحلة القادمة نظام شبه رئاسي يقوم فيه الرئيس بوضع السياسات العامة للدولة في القضايا الكبرى كالإرهاب والكيان الموازي والتعامل مع الغرب وتضطلع الحكومة بتنفيذ تلك السياسات وحل المشكلات والإشراف على المشاريع التنموية، وهو التحدي العملي الذي سيثبت من خلاله ما إذا كانت تركيا مهيأة للتحول للنظام الرئاسي الكامل أم لا.