الفلوجة أو مدينة المساجد، حاضنة التيارات الفكرية الدينية في العراق، رمز الصمود والعنفوان العراقي الأصيل، دخلها تنظيم الدولة قبل أقل من عامين بعد أن بدا هذا الداخل محتلاً من نوع آخر، وعلى عادتها كمدينة تحتضن الجميع احتضنت بعض عناصر تنظيم الدولة بعد أن ذاقت الأمرين من الحكومات العراقية المتعاقبة ومليشياتها ونهجها القمعي وخاضت حروبًا عن العراق ضد القوات الأمريكية.
فمنذ اليوم الأول لإعلان جورج بوش الابن نهاية العمليات العسكرية في العراق عام 2003م، بدأت حرب ضروس من نوع آخر في المناطق السنية من العراق ضد المُحتل وتحديدًا في المدينة المشاغبة “الفلوجة” التي لم يَرُق لها تجوال المدرعات الأمريكية في المدن العراقية؛ فأخذت على عاتقها مقاومة المحتل حتى أخرجته بضرباتها الموجعة وسطرت ملاحمًا ستبقى رمزًا في تاريخ العراق الحديث.
للأمريكيين ثأر مع الفلوجة وجرح لم يندمل، فسنت مبدأ أسمته “محاربة الإرهاب بالإرهاب” فسلطت المليشيات الشيعية الهمجية ضد السنة ككل وضد القاعدة والمقاومة العراقية والحواضن السنية وأسمتها حواضن الإرهاب، علمًا أن المدينة طردت إرهاب القاعدة والتطرف عن طريق مقاتلي العشائر السنية بعد وعود كاذبة من الحكومة العراقية بدمجهم بالمؤسسات الأمنية بعد طردهم لعناصر الإرهاب، فتركتهم فريسة سهلة للقاعدة مرة أخرى فقطعت رواتبهم ووصفتهم بالإرهاب، فكانت النتيجة ميول المدينة إلى الإرهاب السني فهو أفضل من إرهاب المليشيات الشيعية وإيران التي تعمل تحت سمع وبصر الحكومة العراقية.
لقد فهمت إيران معادلة “الإرهاب بالإرهاب” الأمريكية، فالمليشيات الشيعية تقاتل بمبرر محاربة الإرهاب وتصول وتجول في العراق بهذا المسمى، فهو مبرر وجود تلك المليشيات وعملها لصالح إيران في العراق، وترفض إيران أي طرف يقاتل ذلك الإرهاب حتى مقاتلي العشائر السنية الذين يقاتلون اليوم بجدية لطرد الإرهاب، على عكس المليشيات الشيعية التي تريد تحرر المدينة عبر تدميرها وقتل أهلها، لتتولد عمليات ثأرية ضد المليشيات الشيعية، لتستمر إيران في القتال وخلق موطئ قدم في المدن السنية التي لم تطأها قدم القوات الأمريكية بحرية، فكيف بالمليشيات الشيعية التي تتصف بالجبن إلا على العُزل، فمنذ 2003 إلى اليوم هم يحاربون الإرهاب ولم يهزموه!
إن فكرة التحرير بالتدمير فكرة فاشلة تَنم عن حقد طائفي دفين وحقد أمريكي على المدينة ورمزيتها، علمًا أن الولايات المتحدة ترغب بالإصلاح الأمني فهي تناكف إيران في الفلوجة اليوم، ومعركة الفلوجة أتت بعد فشل الحكومة في حل الأزمات السياسية في بغداد وإصلاح منظومة الدولة، فعن طريق ضرب الفلوجة ستتوحد القوى الشيعية المنقسمة المتصارعة على قيادة النفوذ الإيراني في العراق، فالفلوجة المدينة السنية التي توحد الأطراف الشيعية المنقسمة على عدو مشترك وهو “السنة في الفلوجة” تقاتله باسم الإرهاب.
إن اعتماد السنة على مقاتلي العشائر السنية في الإنبار وإصرارهم على تحرير المدينة بأنفسهم وعدم إشراك المليشيات الشيعية إلا بوضع الإسناد قد أزعج إيران، فإيران لا تريد أحدًا يشاركها في محاربة الإرهاب لأنهُ سيقضي عليه، فـ 20 ألف مقاتل من العشائر السنية الذين كانوا ضمن نص البرنامج الذي تشكلت بموجبه حكومة العبادي لم يُنفذ، فعملت الولايات المتحدة على إنشائه بعيدًا عن الحكومة المركزية، فاليوم هناك 8000 مقاتل من العشائر يقاتل تنظيم الدولة وستكون مهمته مسك الأرض وسيكون مَصلاً واقيًا ضد عودة التطرف إلى المدينة ومَصل ضد صانعي التطرف من المليشيات الشيعية ووعود الحكومات العراقية المتعاقبة.
اليوم مدينة الفلوجة والمدنيين فيها يعيشون بين مِطرقة داعش وسندان المليشيات، فداعش تمنعهم من الخروج ليكونوا دورعًا بشرية قد تُخفف ضرب المليشيات للمدينة، والمليشيات تمنعهم من الخروج بحجة تسلل عناصر تنظيم الدولة معهم، علمًا أن المليشيات أعلنوها صراحة أنهم سيستهدفون كل من في الفلوجة بلا رحمة.
إن المليشيات الشيعية والإيرانية تقاتل بقيادة قاسم سليماني لأن الانتصار يحمل رمزية كبيرة على أنها هزمت مدينة لم يَهزمها الأمريكيون وليس نصرًا على الإرهاب، علمًا أنه شتان ما بين المقاومة العراقية وفكرها المعتدل وهدفها الواضح وبين متطرفي تنظيم الدولة.