انتشرت في مصر مؤخرًا ظاهرة اقتصادية في غاية الخطورة ولا بد من التوقف أمامها ودراستها كثيرًا، هذه الظاهرة تكمن في إحلال الديون محل الاستثمارات، وهذا الأمر لم يحدث مرة أو اثنتين ولكنها باتت حالة عامة وتوجه حكومي واضح، ويبدو أن هناك خللاً كبيرًا في هذا الشأن وهذا ما يجب علينا مناقشته، ولكن قبل الخوض في هذه المسألة يجب أن نعرف ما الفرق بين الديون أو القروض والاستثمارات.
يرى جيل برتان أستاذ الاقتصاد أن الاستثمار الأجنبي الناشئ عبر الحدود، هو نتيجة لانتقال رؤوس الأموال الاستثمارية وشتى الموارد الاقتصادية بين البلدان المختلفة بهدف جني الأرباح وتعظيم المنافع المتحققة من جراء تلك الاستثمارات.
فيما يقول كريكوري مانكيو إن الاستثمار طريقة تؤدي إلى نمو الدول وإن جزءًا من الفوائد المتحققة من هذه التدفقات الاستثمارية سوف تعود إلى المالكين الأجانب، وقد لا يؤدي هذا إلى زيادة في مخزون الاقتصاد من رأس المال وبالتالي زيادة الإنتاجية ورفع الأجور، إلا أنه أحد الطرق التي تستخدمها الدول الفقيرة لتعَلم التقنيات الجديدة والمتطورة المستخدمة في الدول المتقدمة.
هذه المعاني السابقة بالطبع لم يدخل ضمنها القروض، التي تلتزم الدول برد أصلها وفوائدها في الآجال المحددة والمتفق عليها، وهو فرق جوهري، الأمر الذي لم تستوعبه الحكومة المصرية حتى الآن، فقد باتت تسمى القروض في مصر بـ “الاستثمارات والودائع”، وباتت تدخل ضمن الإنجازات، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك، طريقة تمويل مشروع تفريعة قناة السويس الجديدة، ومشروعات الطاقة الموقعة مع سيمنس الألمانية، وجملة القروض السعودية، وأخيرًا أكبر قرض في تاريخ مصر الذي جاء من روسيا الخاص بمشروع محطة الطاقة النووية.
كل المشاريع السابقة متشابهة إلى حد كبير، فجميعها تعتمد على فكرة واحدة وهي الاقتراض بأي تكلفة وبأي شروط والمهم إقامة المشروع، فكذا تم مشروع تفريعة قناة السويس دون النظر إلى الجدوى الاقتصادية والواقع التجاري العالمي المتأزم، فقط كل ما تم هو جمع الأموال “القروض” بأعلى سعر فائدة في مصر وقتها وتم المشروع والآن نرى النتيجة.
وبعد مرور القليل على مشروع قناة السويس كان المؤتمر الاقتصادي الذي ضم عشرات الاتفاقات من نفس النوع، كان أبرزها مشروعات الطاقة الموقعة مع سيمنس الألمانية، حيث كان المشروع الأكبر في المؤتمر الاقتصادي بقيمة بلغت 8 مليارات يورو، مقسمة ما بين 6 مليارات لمحطات الإنتاج، ومليارين لمصنع الرياح، المشروع ببساطة وبعيدًا عن التفاصيل عبارة عن قرض طويل الأجل بفائدة، وتطلق عليه الحكومة استثمارًا، ولا أعرف كيف.
وبعد فترة لم تخل من القروض والودائع التي سميت كذبًا استثمارًا، جاءت جملة القروض السعودية التي بلغت في مجملها نحو 24.5 مليار دولار، وهي أيضًا تدور في نفس النطاق وهي كمشروعات الطاقة التي تمت مع الشركة الألمانية، فوائد السعودية وألمانيا تفوق الفائدة العائدة على مصر بمراحل.
أما فيما يخص القرض الأكبر في تاريخ البلاد، آخر المنضمين لهذه العاصفة وهو 25 مليار دولار من روسيا لتمويل بناء محطة نووية، حيث إن القرض سيدخل مصر خلال 13 عامًا وتسدده على 22 عامًا بفائدة 3% سنويًا، من خلال 43 قسطًا نصف سنوي متساويًا، وتقوم شركة روساتوم النووية الروسية ببناء المحطة التي سيكون التمويل فيها بنسبة 85% من قيمة بناء المحطة النووية بينما ستقوم مصر بتوفير النسبة الباقية.
هذا ليس استثمارًا في العرف الاقتصادي، ربما نسميه توريطًا أو كارثة أو حتى دفع الاقتصاد نحو الهاوية، لكن بأي حال من الأحوال هذا ليس استثمارًا، هذه القروض لا أرى لها هدفًا ولا معنى سوى تخريب مستقبل الاقتصاد المصري، وهي محاولة جديدة لاستبدال الاستثمارات بالقروض.
وبالمناسبة القروض ليست كابوسًا من المنظور الاقتصادي، ولكنها في الأساس فرصه جديدة ومنحة للحصول على الأفضل في المستقبل ولكن بشرط الإجابة على سؤال “لماذا نقترض”؟ فإذا كنا نقترض من أجل دعم عجلة الإنتاج والتنمية وتشغيل الشباب وإنشاء مشروعات صناعية حقيقية توفر مستقبل أفضل للأجيال القادمة، فنعم الاقتراض ذاك.
ولكن عندما يكون الاقتراض مدعاة للتفاخر بين وزراء الحكومة ويتم استهلاكه في مشروعات تكون الجدوى الاقتصادية منها سالبة في بعض الحالات، فبئس القروض تلك التي تأكل الأخضر واليابس بالاقتصادي الوطني، فمصر خلال أقل من 6 أشهر اتفقت على قروض خارجية بنحو 63.9 مليار دولار، وهو ما يصل لنحو 60% من الموازنة المطروحة للمناقشة في البرلمان المصري، وذلك بخلاف عشرات المليارات والقروض الداخلية التي تقترضها الحكومة بمتوسط 7 مليارات جنيه كل يومين في صورة أذون خزانة.
الخلاصة: هذا المنحنى هو توجه خطير لا يقدم أي جديد للاقتصاد المصري لا في الحاضر ولا في المستقبل، فوقفًا للأرقام المعلنة مؤخرًا فإن فوائد الدين العام المصري في الموازنة الجديدة، قيمتها 244 مليار جنيه، أي 31.1% من النفقات، وهي ثلث الموازنة البالغة 936 مليار جنيه، وهذه فوائد الديون وليست الديون، إذًا هذه الديون تضع الاقتصاد المصري على المحك، ويجب السعي بمسؤولية نحو حل هذه المشكلة فالقروض ليست إنجازًا.
فالديون الخارجية تعتبر من أخطر القضايا التي تواجهها الدول النامية والتي تقف في طريق سعيها نحو تحقيق التنمية والخروج من بوتقة التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي واللحاق بركب الدول المتقدمة، فهي تضع البلاد في دائرة مغلقة تقترض لتنتج ثم تنتج لسد فوائد القروض فتفشل، ثم تلجأ للاقتراض مرة أخرى، فيما تعتبر هذه المشكلة المالية سببًا في تغيير العلاقات وتوجيهها وفق ما تمليه المصلحة العامة للدول الدائنة.
وما لم تنجح مصر في الوصول إلى الحلول التي إن طبقتها تمكنت من التحرر من أسر هذه الديون، فإنها ستظل في موقف التابع والخادم لأعباء هذا الدين وفوائده التي تقدمها لها الدول، حيث إن الفوائد المدفوعة على هذه القروض تستنزف اقتصاد البلاد وتجعلها خادمة للدول المقرضة.
ولكن في المقابل فإن جذب الاستثمار الحقيقي يجعلنا نخرج من هذه الدائرة المظلمة، ويسهم ولو تدريجيًا في الخروج من هذه الأزمة والتعاون المستمر وتبادل الخبرات والتجارب والمعلومات وتكوين جبهة قوية من أجل تحقيق هدف التنمية الحقيقية وليست الورقية المكذوبة.