بنهاية العام 2013 وبداية الأشهر الست الأولى من العام 2014، شهدت أمريكا الجنوبية أربعة انتخابات رئاسية، فاز التيار اليساري في ثلاث منها أولها بوليفيا بفوز ايبو موراليس، والبرازيل بفوز ديلما روسيف، أوروجواي بفوز تاباريه باثكييث، بينما فاز مرشح يمين الوسط بكولومبيا خوان سانتوس بمنصب الرئيس، لترتسم بالقارة التي تشكل الباحة الخلفية لعاصمة الإمبريالية العالمية الولايات المتحدة ملامح هيمنة اليسار، ويسار الوسط باستثناء كولومبيا، التي فاز فيها سانتوس، بعد مفاوضات مع القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك)، والتي فضلت خيار السلام مع فارك، مقابل خيار المواجهة العسكرية الذي كان مطروحاً كبديل.
نتائج العام 2014 شكلت استكمالا منطقيا لمسيرة اليسار في 2013، حيث استطاع نيكولاس مادورو الفوز برئاسة فنزويلا ليستكمل مسيرة اليسار، بعد وفاة هوجو شافيز الذي صعد إلى سدة الحكم في فنزويلا منذ ما يقرب من 15 عاماً، وكذلك انتخابات تشيلي، التي فازت فيها ميشيل باتشيليت، الرئيسة السابقة، ممثلة تيار اليسار الوسط، وانتخابات الإكوادور، التي فاز فيها الرئيس اليساري، رافييل كورريا، بولاية جديدة، لتبقى فقط باراجواي وكولومبيا تحت حكم تيار اليمين الوسط، قبل أن تأتي الانتخابات في الأرجنتين بتداعيات جديدة حاسمة في نهايات 2015 ، بفوز موريسيو ماكري مرشح يمين الوسط، في الانتخابات الرئاسية ، الأمر الذي أنهى 12 عامًا من تاريخ حكم الأحزاب اليسارية الأرجنتينية للبلاد.
موجات يسارية وبلورة جديدة
ملامح الخريطة السياسية التي ارتسمت في الأعوام الثلاثة السابقة للعام 2016 أبرزت ظاهرة متنامية منذ موجة التحول الديمقراطي في أواخر السبعينيات، التي طغت على القارة، وهي أن أي رئيس يقوم بالترشح في الانتخابات، فإنه غالباً ما يفوز فيها على معارضيه، وإن تفاوتت هوامش الفوز بين المركزين الأول والثاني، والوجوه والأحزاب والائتلافات لم تتغير كثيراً عما قبلها، وهي مؤشر عما ستكون عليه انتخابات العام 2018 بباقي دول القارة التي ستشهد تنافسا قويا بين التيارات، وليس بين أشخاصها، لأن فرص ترشح الرؤساء أنفسهم لمنصب رئيس الجمهورية مرة أخرى ستكون أقل بالنظر إلى القيود الدستورية القائمة حتى الآن، بما يحمّل الفاعلين السياسيين من التيار اليميني مسئولية بلورة بدائل قادرة على المنافسة، كما يحمّل التيار اليساري مسئولية العمل على إقرار برامج وسياسات أكثر فعالية، تضمن استمرار التأييد، وارتفاع معدلاته، بصرف النظر عن الأشخاص.
هذه كانت رؤية المحللين حتى شهور قليلة حول المشهد السياسي بأمريكا الجنوبية، وإمكانات هيمنة اليسار ويسار الوسط لعقود مقبلة، قبل أن ينقلب الحال بفوز المرشح اليميني وعمدة بوينس آيرس موريسيو ماكري برئاسة الأرجنتين، تلتها البيرو، ثم البرازيل حاليا وأزمة عزل الرئيسة فيها، وقبلها فنزويلا، ما يعني أن مصير تيارات اليسار بباقي دول القارة في مهب الريح ، خصوصا وأن انتخابات 2014 شهدت فوز تيارات اليسار بنسب وفوارق ضئيلة لم تتعد 65% ، ففي البرازيل، فازت روسيف بنسبة 51.6%، وموراليس بنسبة 60.5% في بوليفيا، وباثكييث بنسبة 56.6% في أوروجواي، وسانتوس بنسبة 51% في كولومبيا، وكورييا بنسبة 61% في الإكوادور، ومادورو بنسبة 50.6% في فنزويلا، وباتشيليت بنسبة 62% في تشيلي، وفي بعض الدول، لم يتم حسم الفوز في الجولة الأولى لعدم حصول أي من المرشحين على نسبة 50%+1 المطلوبة، الأمر الذي أدى إلى إجراء جولة ثانية للانتخابات.
إرث السابقين
بالإضافة إلى ما سبق فإن رؤساء اليسار بتلك الدول اعتمدوا بشكل كبير على نجاحات من سبقهم من تياراتهم خلال العقد الأول لصعود اليسار، في حشد أصوات الناخبين ، فمثلا اعتمدت ديلما روسيف في البرازيل، بشكل كبير على شعبية الرئيس السابق، لولا دا سيلفا، الذي كان لدعمه لحملتها أكبر الأثر في فوزها بهذه الولاية الثانية، وفي بوليفيا، أعلنت الدولة منح حقوق اقتصادية واجتماعية كبيرة للسكان الأصليين للبلاد، والذين لم يتمتعوا بها من قبل، وهكذا.
في المقابل ظن بعض المحللين أن مؤشرات عدم الرضا عن أداء الحكومات اليسارية في بعض دول القارة، ليس دليل عن الرغبة في البديل اليميني، مستشهدين على وجهة نظرهم تلك بأن التيار اليساري لازال يمثل خيارا شعبيا لاستمرار التغيير، والتنمية وعدالة توزيع الثروة، بشكل أكبر مما يطرحه تيار يمين الوسط المنافس، حيث لم يعد بمقدور المواطن اللاتيني التخلي عن المكاسب الاجتماعية والاقتصادية التي حققها له التيار اليساري، منذ توليه الحكم بسهولة، مفسرين تدني نسب التأييد بأنه مجرد رسالة قوية اللهجة لليسار لتعديل أولوياته، وليس رفضاً له بشكل مطلق، وعليه إن أراد الاستمرار على رأس السلطة أن يخفض من سقف راديكاليته، بينما على تيار يمين الوسط التخلي بعض الشيئ عن محافظته للبقاء بالمنافسة.
مؤشرات جديدة
الجديد خلال السنوات الثلاث الأخيرة، هو اتجاه دول أمريكا الجنوبية يميًنا بعد تصاعد نفوذ اليسار، بما فيه اليسار الماركسي في السنوات السابقة، وكان المؤشر الأول لذلك فوز المرشح اليميني وعمدة بوينس آيرس موريسيو ماكري برئاسة الأرجنتين، و إيفو موراليس بمنصب رئيس بوليفيا، ولم يلبث اليسار أن مني بنكسة كبيرة في الانتخابات الرئاسية بالبيرو، عندما انحصر التنافس على خلافة الرئيس اليساري أولانتا هومالا في مرشحي اليمين كايكو فوجيموري، وبدرو باولو كوشينسكي، وها هي ديلما روسيف رئيسة البرازيل، كبرى دول أمريكا الجنوبية، يطيح بها تصويت مجلس الشيوخ، ويخلفها نائبها الوسطي ميشال تامر.
خارج صراع الرئاسة خسر اليسار الانتخابات العامة في فنزويلا التي حكمها اليسار منذ عام 2002 ، كتهديد مبدئي لخسارة الرئيس نيكولاس مادورو الرئاسة لليمين في الدورة التالية.
فقط في تشيلي استعاد اليسار الرئاسة بشخص الرئيسة السابقة ميشال باشليت، بعدما كان رجل الأعمال الثري سيباستيان بينييرا قد انتزع الرئاسة في انتخابات لم تخضها باشليت؛ بسبب منع الدستور التشيلي التجديد.
سيناريوهات متباينة
إذن في ظل هذه المتغيرات.. كيف نقرأ مستقبل توجهات القارة اللاتينية وإلى أي تيار ستتجه مزاجية الناخبين؟
الإجابة على هذا التساؤل تستدعي سردا زمنيا لتبادل الكراسي بين تيارت اليسار واليمين ببعض دول القارة اللاتينية خلال السنوات الثلاث الماضية بين صعود تيار وهبوط آخر والعكس.
ففي الأرجنتين فازت الرئيسة كريستينا فيرنانديز كيرشنر مرشحة اليسار بالانتخابات من العام 2007 إلى 2015 فيما حل بديلا عنها في نهاية 2015 الرئيس الحالي موريسيو ماكري مرشح اليمين.
وفي بوليفيا مازال إيفو موراليس مرشح اليسار يحكم منذ 2006، حتى الآن لكن فوزه في الانتخابات الأخيرة بنسبة 60 % فقط أقلقت المنتمين للتيار اليساري من إمكانية تغير جديد بمزاجية الناخبين قبيل الانتخابات المقبلة في ظل الموائمات السياسية بين تياري الوسط واليمين.
وفي البرازيل، حكمت ديلما روسيف وريثة اليسار بين 2011 و2016، قبل الإطاحة بها في انقلاب مؤسساتي مدعوم من البرلمان وبعض القضاة المنتمين ليمين الوسط بمساعدة نائبها ميشال تامر بدعوى تورطها بقضايا فساد، وهي أكبر دول القارة تأثيرا في موجات المد اليساري اللاتينية منذ السبعينيات.
وفي تشيلي، حكم سيباستيان بينييرا، مرشح اليمين بين 2010 و2014، قبل أن تعود 6 ميشال باشليت “يسار” للحكم مجدًدا في 2016، لكن شعبية باشليت انخفضت إلى مستويات غير مسبوقة، مما يهدد من أجندتها الطموحة للإصلاحات الدستورية والتعليمية، وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك فضائح الفساد المتورط فيها إبنها وضعف تحالف يسار الوسط الحاكم، ما يعني أن عودة يمين الوسط إلى السلطة سنة 2017 تبدو مرجحة بشكل متزايد.
أما كولومبيا، فمازال خوان مانويل سانتوس “يمين” يحكم منذ 2010، بينما يحكم رافاييل كورييا “يسار” بالإكوادور منذ 2007 لكن فوزه غير المريح بالانتخابات الأخيرة شكل جرس إنذار بضرورة تغيير راديكالية اليساريين بالبلاد والبحث عن تحالفات جديدة.
وفي غويانا، يهيمن دونالد راموتار “يسار” على الحكم بين 2011 و2015، ومن بعده ديفيد غراينجر من نفس التيار أيضا في العام الحالي.
أما باراغواي فشذت عن القاعدة اللاتينية حيث هيمن الوسط عبر مرشحه فيديريكو فرانكو لعامي 2012 و 2013 ، بينما انتقلت الهيمنة لليمين عبر هوراشيو كارتيز منذ 2013 إلى الآن ، بينما يحكم اليسار في البيرو عبر أولانتا هومالا منذ 2011 حتى الآن، فيما يتوقع فوز المرشحة اليمينية كايكو فوجيموري في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية يوم 5 يونيو المقبل بعد تصدرها الجولة الأولى، مع العلم بأن منافسها في هذه الجولة مرشح يميني آخر هو بدرو باولو كوشينسكي.
وفي سورينام هيمن اليسار عبر ديزي بوتيرسي منذ 2010، ومثلها أوروغواي التي ساد فيها اليسار عبر مرشحه خوسيه موخيكا بين 2010 و2015، قبل أن خلفه في العام الجاري تاباري فاسكيز “يسار” أيضا وهو من سبق له توّلي الرئاسة بين 2005 و2010.
في فنزويلا لم يختلف الحال كثيرا حيث حكم هوغو شافيز “يسار” بين عامي 2002 و2013، وخلفه الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، قبل أن يخسر اليسار الانتخابات البرلمانية أمام اليمين مؤخرا ما يعني عودة قوية لليمين ويمين الوسط وسقوط مادورو.
وفي كوبا عادت العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا في أواخر العام 2015، وفُتحت السفارات بينهما بعد قطيعةٍ دامت أكثر من نصف قرن، وقام الرئيس الأمريكي أوباما نفسه بزيارة رسمية لكوبا، وعادت حالة التطبيع لتسود العلاقات بين الدولتين، وتراجع اليسار، وتلقى ضربةً قاسية بهذه الخطوة في عقر داره.
مع تلك الدول نجد دول أقل تأثيرا مثل نيكارجوا التي يحكمها دانييل أورتيجا المدعوم من قبل حركة الساندينستا اليسارية الراديكالية، المتحالفة مع هندوراس والدومينيك.
الخلاصة
ما سبق يعني أن أهم أسباب الانحسار اليساري الاشتراكي في دول أمريكا اللاتينية لا يعود إلى قوة أمريكا، ولا إلى صحة المبدأ الرأسمالي الذي تنتهجه، ولكن لضعف آليات وبدائل المذاهب الاشتراكية، ومع غضب الناخبين المتتالي بسبب البطالة وتباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم، لا تكفي العواطف والحماسة في إسقاط النظام الرأسمالي العالمي، أو إعطاء الاشتراكية المتهالكة قبلة الحياة.