ماذا لو أعطيتك مسألة حسابية معقدة جدا لا تستطيع أن تحلها حتى لو استعنت ببرنامج كمبيوتر، هي غير قابلة للحل لأن بها متغيرات كثيرة ولا شيء متطابق فيها لذا لا يمكن إيجاد قيمتها الحسابية؟
الآن أريدك أن تفكر بنفس الطريقة في السندات الاستثمارية التي كان العالم بأكمله يستثمر فيها قبل أن تسقط ورقتها ويسقط معها كل شيء وتتسبب بأزمة مالية مازالت آثارها الاقتصادية باقية إلى الآن.
تلك السندات الاستثمارية والتي كانت تُسوق على أنها سندات ذات ضمانات عالية، وكيف لا وهي التي كانت مدعومة برهن العقار الأمريكي والقروض في الوقت الذي كان سوق الرهن العقاري في أمريكا في أوج نموه وازدهاره، ووصل قيمته إلى ما يقارب 600 مليار دولار في 2006.
كانت الضمانات لتلك السندات الغير تقليدية هي الرهن العقاري التي يدفع أقساطها أصحاب القروض من ملاك المنازل والتي كانت تاريخيا تصنف بأنها قروض آمنة. قبول طلبات الرهن لم تكن تكلف شيئا سوى تعبئة تلك الاستمارات حتى وإن كانت المعلومات غير دقيقة فكان هدف البنوك منح المزيد من الرهن العقارية دون البحث والتقصي عن مدى كفاءة المتقدمين لطلب القروض، وذلك لأن قيمة العقار كان في إرتفاع وصلت124% ونسبة نمو عالية وصلت 20% في 2006.
كانت القروض العقارية ميسرة وبكل سهولة وكأنها وجبات الأطعمة السريعة المتاحة في كل زاوية. ولكن طلب الرهن العقاري كان يحتوي على بند بسيط غفل عنه الكثير من مقدمي الطلب وهو أن البنك له حق رفع نسبة الفائدة متى شاء وكيفما كانت النسبة، والمواطن الأمريكي لم يهتم كثيرا لهذا البند الخطير الذي قد يكلفه كل ما يملك في حال نزول سعر العقار. فالفرضية كانت مبينة على أن سعر العقار سيستمر في الصعود ولا مجال للنزول. وكان هذا السيناريو جميل وحالم رغم أنه لم يكن واقعيا، فالطفرات لها مدة زمنية محددة ثم تختفي.
وأن لم تكن هذه الأسباب كافية فسأمنحك ميزة أخرى تجعلك تفكر في شراء هذه السندات المضمونة بقروض العقار دون تفكير، كما كان حال معظم المؤسسات المالية الاستثمارية وشركات إدارة أصول الأموال ذلك أن هذه السندات كانت مصنفة بتصنيف عال من قبل وكالات التصنيف العالمية والتي كان من المفترض أن تقيَم السندات ونسبة المخاطرة فيها ومدى قدرة البنوك على دفع قيمة السندات لأصحابها. كل هذا يدعوك كمستثمر للحصول على هذه السندات وتضيفها إلى محفظتك المالية سواء كنت من مؤسسات التقاعد، الصناديق السيادية، أو ومؤسسات إدارة الأصول أو حتى من الأفراد ذوي الدخل العالي. وأصبحت معظم المؤسسات في العالم تمتلك هذه السندات التي كانت تعتبر سندات آمنة والربح فيها مضمون كما تم الترويج والتسويق لها.
فقاعة الرهن العقاري الأمريكي
الرهان ضد الاقتصاد الأمريكي، يكاد يكون العنوان الأنسب ليصف فيلم Big Short الذي عرض مؤخرا في صالات السينما وذلك لأن الاقتصاد كله كان مبني على تلك الطفرة العقارية. الفيلم يحكي عن العملية الاستثمارية التي أجراها بعض المحللين الاستثمارين الذين راهنوا ضد الرهن العقاري في الوقت الذي كان سوق الرهان العقاري في أمريكا في أوج نموه وازدهاره. ببساطة المحللين الاستثمارين الذين راهنو بنزول سعر العقار علموا بوجود خلل كبير في السندات المضمونة وأن قيمة العقارات لن تستمر في الصعود وما هي إلا طفرة ستنجلي، وأن تلك السندات الاستثمارية شديدة التعقيد في بنيتها ومصنفة بشكل لا يمثل ما تحويه من نسبة المخاطرة. هم علموا أن هذه السندات الغير تقليدية كانت بمثابة تلك المسألة الحسابية لا يستطيع أحد إيجاد قيمتها وتحديد نسبة المخاطر العالية المتعلقة بكل متغير فيها، وهذا ما حدث.
وعلى الرغم من كل تلك الأسماء الرنانة التي كان لا يخلو منها العروض التسويقية للبنوك الاستثمارية الكبرى عالميا أمثال غولدمان ساكس، مورغان ستانلي، ليمان براذرز وفي أوروبا أمثال دويشة بنك الألماني، باركليز البريطاني ويو بي إس السويسري لترويج تلك السندات وتعبأتها في هيكلة جديدة تحت ستار التصنيف العالي فلم يكترث الغالبية من المستثمرين بالسؤال والتدقيق. وكيف من المفترض أن يدققوا وقد كان هذا دور وكالات التصنيف من الأساس والذي يعطي التصنيف على السندات بناء على حساباتهم لقيمة السند السوقية ومدى متانة الدعم والضمان المتاح من قبل البنوك.
مرحلة الإنصهار
وحدثت الكارثة في نهاية ديسمبر 2007 عندما بدأ قيمة سوق العقار في النزول وتأخر الكثير من المديونين عن سداد أقساط القروض، ولم تستطع البنوك الاستثمارية التي باعت تلك السندات سداد المبالغ المستحقة لأصحاب السندات وأصبحت أكثر من نصف القروض غير مجدية ليس لها قيمة فعلية ولا تشكل دعما أو ضمانا للسندات إياها. عجز المواطنون عن دفع الأقساط في الوقت التي رفعت البنوك سعر الفائدة مستغلة البند المذكور في معاملات القروض وظلت أسعار الفائدة في إرتفاع. وعندما لم يستطع أصحاب العقار دفع الأقساط حجزت البنوك على الكثير من المنازل التي نزلت قيمتها في السوق. وهكذا تساقطت قطع الدينامو وازدادت عدد القروض التي لم تعد قادرة على دفع أقساطها لينخفض معها قيمة تلك السندات المرتبطة بها وتصل قيمتها في سوق السندات مستوى الخردة ولم يشفع لها تصنيفها العالي.
آلاف المؤسسات المالية والبنوك وغيرها والتي استثمرت أصولها في هذه السندات فقدت معظم قيمتها، وأعلنت إفلاسها وذهبـت مع الريح، إلا أن البنوك الاستثمارية الكبيرة التي قامت باستغلال تلك السندات والترويج لها وبيعها على نطاق واسع هي التي نجت بأموال الضرائب والتي منحتها الحكومة الأمريكية على هيئة قروض ميسرة لتبدأ في رفع رأس مالها والبدء من جديد. المؤسف أن الذي دفع الثمن هو المواطن الأمريكي جراء هذه الأزمة المالية التي أدت إلى إنهيار الاقتصاد الأمريكي وتعرضت بعض الشركات الكبرى للإفلاس وأخرى كانت على وشك إعلان إفلاسها، وفقد حوالي ستة ملايين منازلهم بينما فقد حوالي ثمانية مليون شخص في أمريكا وحدها وظائفهم هذا غير حالة التقشف الشديدة في المستوى المعيشي للمواطن الأمريكي إلى هذا اليوم. عالميا ارتفعت البطالة إلى مستويات عالية، إنهارت أسواق الأسهم، وانخفضت نسبة التجارة بين الدول وقلت نسبة النمو الاقتصادي في معظم الدول.
السندات الغير تقليدية تعود من جديد
الفيلم كان واضحا في نقطتين، الأولى أن تلك السندات لم تكن ذات قيمة لولا شركات التصنيف والتي جعلت منها سندات آمنة ومرغوبة، وقبول البنوك لطلبات الدين والقرض العقاري دون أخذ الإجراءات اللازمة للبحث والتقصى عن مدى كفاءة متقدمي طلب الرهان. النقطة الثانية وهي التي يجب أن يتوجس منها أصحاب المؤسسات الاستثمارية الباحثة عن مجالات لاستثمار أموالها أن هذه السندات ذات الضمانات قد عادت إلى الظهور في الساحة المالية والاستثمارية منذ عام 2013 ولكن باسم جديد يختلف عن كل تلك المصطلحات التي كانت تستخدم لوصف السندات قبل الأزمة المالية، فتركيبة تلك السندات هي نفسها وإن اختلفت المسميات، وهذا ما لا ينبؤ بالخير في مجال استثمار السندات.